يرى بعض المحللين للمشهد السياسي الراهن ، أن المغرب يمر في الآونة الأخيرة بفترة سيادة وانتعاش تيار الشعبوية، فالشعبويون هم الذين يصولون ويجولون في الساحة السياسية ، و بات التهريج في خدمة الشعبوية ، وامسى كل شعبوي مهرجا سياسيا بامتياز ، مع الاعتذار للمهرجين المحترمين الذين أدخلوا على نفوسنا البسمة والفرحة قبل أن نرى وجوها لا تأتى بخير، انها مرحلة لها انتصاراتها ولها رموزها ولا يمكن اجتيازها إلا بعد فترة من الزمن. لقد أصبح المشهد السياسي المغربي في زمن الشعبوية و الشعبويين او بالأحرى - المهرجين الجدد - مشهدا للفرجة بامتياز ، وتعتبر شخصية بنكيران رئيس الحكومة المغربية الحالي بلا جدال الشخصية السياسية التي حظيت بالاهتمام الأوفر من لدن العام والخاص في بلادنا، وذلك لأسباب عدة يمكن أن نبدأها بالظروف التي جاءت فيها رئاسته للحكومة، و بكثرة خصوم و حلفاء الفكر الذي ينتمي إليه، و أيضا لطبيعة المرحلة التي تتسم بنوع من الانفتاح و الحرية، وأخيرا لكون الفكاهة و التهريج لا تفارق شخصية عبد الإله بنكيران ، بعضهم يعتبر ذلك ضمانة لشعبيته في حين يحذر آخرون من عنصر الفرجة على الساحة السياسية. وهناك اختلاف كبير في تعامل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي مع هذا الموضوع، فبعد أيام قليلة من تعيينه رئيسا للحكومة نهاية 2011 قال عبد الإله بنكيران للصحافيين بأنه يُضحك الملك محمد السادس "بالنكت التي يحكيها له". النكتة والمرح تميزان شخص رئيس الحكومة المغربية حتى في لقاءاته مع الملك، وغالبا ما يتحدث عنها السياسيون بجدية هذه الخصوصية ترافق رئيس الحكومة بنكيران حتى في تصريحاته الإعلامية، كما لم يجد بعض هواة المونتاج صعوبة في تركيب فيديو بمشاهد غير متوقعة لرئيس الحكومة من خلال لقطات لمسرحية هزلية مغربية، وهو ينتشي فرحا بفوز حزبه في الانتخابات الجزئية الأخيرة. وكالعادة وجد الشريط المركب رواجا كبيرا في مواقع التواصل الاجتماعي. وهكذا أصبح بنكيران نجما بلا منازع بفضل الفيديوهات الكاملة لخطاباته على المواقع وعشنا معه ما لم نعشه مع أي مسؤول حكومي أول سابق، وشاهدناه في أوضاع لم يتعود المغاربة على مشاهدتها لدى رؤساء الحكومات السابقة . ويدرك بنكيران أهمية تأثير الفكاهة على الجماهير، ويعتبرها عاملا لرفع مستوى شعبيته. ففي لقاء حزبي علق بنكيران على ذلك قائلا:"فجأة وجدت نفسي موضوعا للفنانين الذين يضحكون الناس وأقول لكم إنه كلما كانت الفرصة سانحة سأعمل على إضحاككم، وأتمنى من الله أن تبقى أيامنا دائما ضاحكة " وفي هذا السياق أشار بنكيران إلى أن إشعاعه وصل أيضا إلى قناة تلفزيونية في تونس وقال: " فليكن! لا أرى مشكلا في أن أصبح شعبيا حتى في تونس! " و هكذا بات المواطن المغربي ، منذ تولي عبد الاله بنكيران رءاسة الحكومة ، من المتابعين الجيدين لجلسات مجلس النواب بغرفتيه ، بل بات يحرص كل الحرص على ان يجعلها من البرامج المفضلة على حساب الافلام الاجنبية والعربية والتقارير الاخبارية والدراما التركية والمكسيكية ، وما يشده في جلساته هو شخصية السيد رئيس الحكومة الذي أصبح بلامنازع بطلها الاول. وغالبا ما ينتزع بنكيران الابتسامات العريضة من أنصاره وخصومه على السواء كلما خاطبهم بسخريته المعهودة ، لكن سلاحه هذا يجر عليه أحيانا بعض المتاعب ففي احدى التجمعات الحزبية سخر عبد الإله بنكيران من الحروف التي تكتب بها اللغة الأمازيغية، وظهر بنكيران في فيديو على الإنترنت أقرب ما يكون من منشط للحاضرين في القاعة. وجلب الفيديو المثير سخط الحركة الثقافية الأمازيغية عليه فلزمه الاعتذار نهاية الأمر و الواقع أن هناك "سياقات تحتمل السخرية ومقامات أخرى لا تحتملها. رد فعل المواقع الاجتماعية على فكاهة بنكيران يتأرجح بين الاندهاش والإعجاب والسخط ، فقبل شهر رمضان الماضي، طالب بعض الشباب المغاربة في موقع خاص استبدال البرامج الفكاهية التي تبثها قنوات التلفزيون المغربي في موعد الإفطار ب "قفشات رئيس الحكومة " . كما نشر آخرون على إحدى صفحات الإنتيرنيت صورة مركبة لشخص بنكيران والشخصية الكوميدية الشهيرة "مستر بين". أما الدمية التي تجسد رئيس الحكومة المغربي في برنامج ساخر لأحدى القنوات التونسية، فقد لاقت هي الأخرى نجاحا لافتا في المغرب. وليس بنكيران هو الشخص الوحيد الذي يلهم المهتمين بالصفحات الساخرة على مواقع التواصل الاجتماعي، فهناك محمد الوفا، وزير التربية الوطنية الذي ظهر في أحد فيديوهات الإنتيرنيت وهو يقول بعفوية: "أوباما لا يملك مثل المدارس التي توجد في المغرب". وكان تصريحه هذا كافيا ليسرق نجومية بنكيران على مدى بعض الأيام ويحظى بسخرية أو سخط المعلقين في المواقع الاجتماعية. اليوم نلاحظ أن بعض السياسيين من الأغلبية أو المعارضة أصبحوا بدورهم يلجأون لعنصر السخرية، في محاولة لرسم صورة لهم مشابهة لرئيس الحكومة حيث قام السيد عبد الحميد شباط ، منذ انتخابه زعيما لحزب الاستقلال ، باستراق الأضواء وذلك بتسجيله أشرطة فيديو وبثها في بعض المواقع الالكترونية وهي عبارة عن تصريحات لا تخلو من طابع الفكاهة و السخرية وتدفع غالبا المشاهد او المستمع الى الضحك الهستيري. و اذا تأملنا خطاب المهرجين الجدد نجد ان هناك الكثير من السمات المشتركة : فهم يفضلون خطاب (البوليميك)، والحروب السجالية وغالبا ما يغلب على خطابهم الحكي و التفكه لإضفاء التقارب العاطفي بينهم و بين المستمع و الإحساس انهم من نفس البيئة المجتمعية للمتلقي الذي يحس بالقطيعة بينه و بين عالم الساسة، وغالبا ما يقوم المهرجون الجدد بتصوير أنفسهم على انهم أولئك الأبطال الملحميين الذين تنتهي قصتهم بالانتصار و بالسعادة الأبدية لكل أطراف الخير التي هم زعماء لها و الشقاء لأطراف الشر الذين هم معارضوهم في نهاية قصتهم. ويحاول المهرجون الجدد إبراز مكانتهم كمحررين و مغيرين لواقع يتخبط في الفساد و الرذيلة و إبراز علاقتهم بهذا الاصلاح والخلاص الممكن معهم و ليس مع غيرهم باعتبار أن هذا الغير هو نفسه من رسم الخطوط العريضة للواقع المتردي، كل هذا في سياق عام مفاده أنهم من نفس وسط العامة و انهم ليسوا من طينة الخاصة التي حكمت منذ عهود و لم تكرس إلا الفساد بكل ألوانه و قد حان الوقت للتغيير ، طبعا على أيديهم. ويلجأ المهرجون الجدد عادة الى التعبير الإشاري و الإستعاري من خلال تقديم مصطلحات فضفاضة يمكن لكل واحد أن يفهمها بالشكل الذي يريد و يحيلها على شخصيات متعددة و مختلفة دون الرابط الإيديولوجي المقيد، و من الملاحظ أن رئيس الحكومة، الذي يعد الآن كائناً سياسياً تواصليًا بامتياز، يعتبر من أول الفاعلين السياسيين الذين أدخلوا مجموعة من المفاهيم والمصطلحات على المعجم السياسي المغربي ليضفي عليه عالمًا حيوانيًا بعد أن كان قد تحدث عن "تماسيح وعفاريت" تحارب حكومته. ومنذ أن أطلق بنكيران عبارته الشهيرة، بدأ بعض المهرجين يستعملون سيلا من المفردات الحيوانية ، فهذا وزير في حكومته الموقرة يصف زملاءه بالضفادع الصماء، وآخر يطالب برفع الحصانة عن الحلوف (أي الخنزير)، فيما فضّل برلماني من المعارضة وصف وزير العدل ب"الغول الجديد"، أما أحد قادة اليسار فإنه وصف قياديي حزب العدالة والتنمية الذي يقود الحكومة ب"الحيوانات السياسية الأليفة " وهذه الألفاظ أو المصطلحات لا تخرج عن المعجم المرتبط بما يسمى بعالم الحيوانات والطبيعة. وهي مصطلحات غالبا ما تدفع المواطن الى الضحك الهستيري لحد القهقهة وهو المعجم الذي أصبح يثير انتباه علماء اللغة والسياسة والسيميولوجيا والتداوليات، هذا الخطاب لم يتجاوز التمثلات الحيوانية إلى تمثلات لها طابع تجريدي يمكن أن يقرأها الإنسان انطلاقًا من قراءة ثانية وليس انطلاقًا من قراءة أولى، وهذا أمر مؤسف للغاية. أن استعمال هذه العائلة من المصطلحات يعكس حالة الأزمة التي أصبح يعرفها الخطاب السياسي المغربي، وعدم قدرة الفاعلين السياسيين - اوبالأحرى المهرجين الجدد - على إنتاج مفاهيم سياسية جديدة تعكس أهمية التحولات التي تشهدها البلاد. وتجدر الاشارة إلى وأن لجوء الفاعل السياسي إلى الاستعارة اللغوية باستعمال أسماء الحيوانات لا يخلو من وعي وذكاء وقيمة تواصلية. وإذا كان المهرج الحقيقى - رغم حصوله على دراهم قليلة - يهدف للترفيه عن مشاهديه، فمهرجو السياسة الذين يحصلون على الملايين لا يتركون مشاهديهم إلا فى حالة نفسية سيئة، فالبعض ينعق بالخراب والإفلاس، والآخرون كل مهمتهم نشر الأكاذيب والتبشير بفشل الاصلاحات الديمقراطية والتجارب الحكومية ...و أصبحت عملية تمويل القائمين بدور "المهرج السياسي" صناعة ثقيلة تمول من أجله الصحف وتأسس له الأحزاب والائتلافات والحركات، المهم أن يقوم "المهرجون" بدورهم المرسوم لهم سلفا من طرف المتحكمين فعلا في خيوط اللعبة السياسية في المغرب، ومن يستطيع أن يكون أكثر "هرجا وتهريجا " وإحداثا للفوضى يحصل على نصيب الأسد من فاتورة الأموال المنهوبة من المال العام ، ويتم انتخابه زعيما لحزبه حتى لو كان الثمن الخراب للحزب بأكمله. ان أسلوب المهرجين الجدد في التواصل يستهوي شريحة كبيرة من المواطنين، خاصة أنهم تعودوا على زعماء سياسيين ورؤساء حكومات في صورة مخالفة. لكن استمرار فعالية هذا الأسلوب رهين بما قد يتحقق على أرض الواقع. فتعثر الأداء الحكومي قد يخلق شعورا بالنفور من خطاب الفرجة الذي عودنا عليه السيد رئيس الحكومة وبعض حلفائه ومعارضيه ، وقد يحول صاحبه إلى ممثل مهرج بالمعنى السلبي المتداول لهذه الكلمة في السياق المغربي. و لقد بات هذا الأسلوب يدل على نوع من الانزلاق الفرجوي لحياة سياسة تريد الخروج من هشاشتها البنيوية . و يستطيع تيارالمهرجين الجدد حشد عدد من المواطنين حولهم في حلقات دائرية وحركات بهلوانية تثير اهتمام المارة وتدفعهم إلى التجمع والتزاحم حول (أراجوز) الحلقة، لكنهم لا يستطيعون إقناع الجمهور مهما استحدثوا من حركات إثارة بصدق أقوالهم ومنحهم الثقة ، لأن بضاعتهم ومؤهلاتهم تعتمد في الأساس على خداع الجمهور والتلاعب بالألوان والألفاظ وكذا أدوات اللعبة. وهذا أحد محاور أزمة مشهدنا السياسي الحالي الآن : لا أحد يثق في الكلام أو الوعود أو الالتزامات، والكل يوقن أنها "زبدة" ليل، ستسيل مع شمس اليوم التالي مباشرة... و تبقى عوامل الاندفاع حول (المهرجين الجدد) بيد الجمهور الذي يتدافع بطبيعة الحال طواعية عند أي حدث يثير فضوله خصوصا حين يكون العرض المقدم من جميع المهرجين هنا مرتبطاً بالإمتاع والإثارة والخداع والتضليل والزيف المشترك، ولذلك يخطئ هؤلاء المهرجون حينما يتوهمون أنهم قادرون على تأجيج مشاعر الجمهور ضد خصومهم لبعض الوقت لأن مشاعر الجمهور هي في الأصل إشفاق على المهرجين وسخرية منهم، وهو ما يتجلى واضحاً حينما ينقسم الجمهور إلى غير مرحب بالمهرج، وآخر يلقي نظرة ويغادر حلقة التهريج وثالث يجدها فرصة للتسلية فيغادر عند انتهاء العرض، مترحماً على قدامى المهرجين، وأيام زمان، حينما كان المهرج يموت جوعاً ولا يتاجر بقضايا وهموم الجمهور. وإذا كان هواة إرباك السير وإعاقة المارة من المهرجين الجدد في بلادنا يشعرون بالعظمة وهم يجلدون أنفسهم تهريجا لإنتاج مواد دسمة للاعلام وإرهاق المواطنين ، فلا بأس ونحن نستعرض لمحة من (نضالهم وتضليلهم) من الإشادة بجهودهم ومساهماتهم في رفض عملية التنمية الاقتصادية بإنتاج (الضجيج والصخب) من خلال الاستثمار في مجال قضايا وهموم المواطنين وإنشاء مصانع (للبيانات والهدرة) والإسهام في الحد من البطالة ولو بتوفير متطلبات واحتياجات الجمهور من (الفرجه) ..! لن يستقطب المهرجون الجدد المواطن المغربي على هذا النحو لأن هذا الأخير بات على بينة لحقيقة بعض الفعاليات السياسية ولحقيقة تدبيرها للشأن العام، كما أنه ليس على هذا النحو ستساهم هذه الأخيرة في تلاحم المشهد السياسي وفي خدمة مصلحة البلاد، فهذا السبيل ليس بيد المهرجين الجدد وليس بيد أحزابهم الذين يعملون على تفكيكها بل هو في يد الشعب المغربي وربما نحن الآن أمام بداية العد العكسي لتفكك هذه الأحزاب التي تسمح بوصول مثل هؤلاء المهرجين . نخلص بعد كل هذا ، أن المواطن المغربي يركز كثيرا على السخرية في خطابات المهرجين الجدد ولكن من الناحية الفنية لا نرى في خطابات هؤلاء أية سخرية، بل فقط محاولات للإضحاك والتهريج ، لكن هذا الأخير لا ينتظر من هؤلاء أن يضحكوه بقدر ما ينتظر منهم حل المشاكل اليومية التي بات يتخبط فيها ، كما أن الخطاب السياسي الحالي بالمغرب بقيادة المهرجين الجدد يعتبر ظاهرة كلامية بارزة لم يشهدها المغرب بهذه الحدة قبل الآن، فهي تسجل سجالا غير مسبوق بين الفرقاء السياسيين لكن يبقى الخطاب السياسي لهؤلاء المهرجين الجدد طاغيا على المشهد باعتباره خطابا يزاوج بين العاطفية و العقلانية من جهة و بين الاستفزازية و الديماغوجية من جهة أخرى ، مما يجعل فهمه عصيا على الكل، ليس لعمقه بل لتعويمه و ضبابيته التي تحيل على شيء من التخبط والانفعالية من لدن هؤلاء المهرجين ، دون إنكار أن هذا النوع من الخطاب هو صالح بامتياز لطبيعة المرحلة، وما يشوبها من حرب كلامية بين الحكومة و المعارضات المتعددة تنقصها العقلانية و المنطق و النقد البناء، مما حول النقاشات إلى كوميديا لدى العامة تراجيديا لدى الخاصة. وعليه فان العمل السياسي اليوم مطالب أكثر من اي وقت مضى بأن يتطور أكثر وأن يتجاوز هذه العتبات من التهريج و الفكاهة إلى عمق في التداول وفي الإبلاغ والتبليغ، وكذا إلى عمق في الخطاب من أجل تلقي عميق ومن أجل نتائج عملية وملموسة .