البارحة..كنت أتجول داخل قيسارية بمدينة الرباط قتلا للوقت في انتظار أن يحين موعد ندوة تافهة سيستعمرها الكلام الخشبي، فلفت انتباهي منظر عجيب غريب: كان هناك محلين لبيع الملابس..تقريبا نفس السلع ونفس الأثمنة..لكن الزبناء كانوا يتجمعون كالنحل على واحد منهما مهملين الآخر..نفس الملاحظة بمحل آخر لبيع الأطعمة السريعة..نفس الأثمنة ونفس الأطباق..إلا أن واحدا منهما يعرف فراغا تاما مقابل جلبة بالآخر..وكذلك الأمر بمكتبتين قريبتين من القيسارية..نفس الكتب ونفس الأسعار..لكن واحدة مهجورة من الزبناء والأخرى كأنها دار عرس.. لم أكن في حياتي اشتراكيا ولا شيوعيا..إلا أنني لا أفهم كيف نصرُّ على إغناء البعض وتفقير البعض الآخر..لا أفهم كيف تتراص الصفوف لابتياع بعض الخبز من مخبزة بالغة الثراء..بينما نهمل امرأة فقيرة تجلس جنب الشارع تبيع خبزها بكثير من الحنان وبكثير من اللذة التي لا تقدمها آلات الخبز الجديدة..لا أفهم كيف نسافر إلى المحلات التجارية الكبرى من أجل شراء علبة شاي في حين يمكن شراءها من بقال يُعيل أسرة وربما عائلة..لا أفهم كيف لا نشتري علبة مناديل ورقية من عاطل ونفضل شراءها من محل وبعد ذلك نقول إن العاطلين لا يبحثون عن حلول لأنفسهم.. الكثير من الأشياء لا أفهمها في هذه الحياة القذرة..لا أفهم كيف يولد طفل في السويد وآخر في الصومال..لا أفهم كيف يؤدي طفل بريء خطأ دولته وخطأ التاريخ وخطأ الظروف..لا أفهم كيف تتحول كل أحلام مواطن ما إلى مجرد السكن والشغل..بينما يضمن أحدهم عمله وسكنه منذ أن تتفتح عينيه على الحياة..لا أفهم كيف يستفيق شخص ما على أصوات الرصاص وهزات المدافع..ويستفيق أحدهم على أصوات الموسيقى وأغاني الفرح.. لا أفهم كيف يولد أحدهم مسلما والآخر مسيحيا..فيقتل الأول الثاني لأنه ليس على ملته..ويستعمر الثاني الأول لأنه ليس على دينه..لا أفهم كيف يعتقد بعضهم بأنه شعب الله المختار لأنه يهودي بالوراثة فيقرر إبادة من لم يختره الله..لا أفهم لماذا يفكر بعضهم على أنه ينتمي لخير أمة أخرجت للناس وهو الذي لم يقدم في حياته خيرا ولا صلاحا..لا أفهم لماذا نُحّقر أديان بعضنا بعضا وهي من عند الله جميعا..لا أفهم كيف أعطينا لأنفسنا الحق بأن ندخل الجنة وحدنا والبقية كفرة جهلة سيتم شوائهم في نار جهنم.. لا أفهم كيف يولد واحد في هذا الوطن بملعقة من ذهب في فمه..وكيف يولد آخر في نفس الوطن بملعقة من علقم..لا أفهم كيف يدرس الأول في أحسن المدارس وأرقى الجامعات ويشتغل في أفضل الوظائف..وكيف يحصر الثاني نفسه في مدارس حقيرة بأعطاب متعددة..وجامعات فاشلة بترقيعات كبيرة..ليجد نفسه وهو يجر عربة خضراوات في نهاية حياته..لا أفهم كيف يحمد بعضهم الله لأن وُلد في بلد كالمغرب من حقه أن يفعل ما يريد فيه..وكيف يشتم بعضهم القدر لأنه كبر في حضن وطن مرّ قتل كل أحلامه وأمانيه.. لا أفهم كيف ينجح أحدهم بضربة حظ..كذلك الذي فتح موقعا بسيطا من أجل نسيان حبيبته فوجد نفسه أصغر ملياردير في العالم..ولا أفهم كيف يفشل أحدهم..وهو الذي لاحق طول حياته النجاح فما وجد منه سوى المشقة والسراب..لا أفهم كيف يدرس المرء عشرين سنة من حياته..وفي النهاية يشتغل بأجر حقير لا يكفيه حتى لمصاريف العيش..ولا أفهم كيف لا يفرق أحدهم بين رقم 6 ورقم 9 ومع ذلك يركب آخر الموديلات ويُسيّر أكبر الشركات..لا أفهم كيف يَكون المغرب بلدا متخلفا وهو الغني بفوسفاطه وثرواته السمكية..وكيف تَكون اليابان بلدا متقدما وهي التي تستعمرها الزلازل والنكبات.. لا أفهم كيف ينهش مجرم ما وجه فتاة بريئة لأنها لم تتوفر على ما يريد سرقته..ولا أفهم كيف يخرج هذا المجرم بكفالة رغم أنه شوَّه حياة الفتاة ورماها إلى خط التماس..لا أفهم كيف يسرق مسؤول ما أموال الشعب..ويرسل موظفه إلى السجن قربانا لأخطائه..لا أفهم كيف يدخل بريء إلى السجن ويقضي فيه السنوات إن لم يتوفاه الموت داخله..بينما يعيش الكثير من المجرمين بيننا ناعمين بهواء أجمل بلد في العالم.. لا أفهم كيف تنقلب المشاعر ويصير الحبيب عدوا..لا أفهم كيف تتحول الكثير من قصص الحب إلى كوارث غدر وخيانة.. .لا أفهم كيف تباع الأحاسيس في أسواق النخاسة فيصير الحب مملوكا لمن يدفع أكثر..لا أفهم كيف يعشق الواحد منا الآخر..وتجد الآخر يعشق واحدا آخر..كل يعشق في الآخر..ولا أحد فكر بأن شخصا يحبك وقادر على تضحية من أجلك..خير لك من حبيب متعجرف ينظر إلى السماء ولا يحس حتى بوجودك. أنا عاجز عن فهم هذه الحياة القذرة..صراحة عاجز.. ! http://www.facebook.com/ismailoazzam [email protected]