يَسألُ الإعلاميُّ فيُكثر السؤال... ؟. مُستَعْلِما المعلومة ، مُستَخْبِرا الخبر، مُستَطْلِعا الرأي ، مُستَكْشِفا عن الواقع ، مُستَشْرِفا ما سيقع ...؛ حتى إذا أ ُجيب عن أسئلته الكثيرة ، سأل عن الجواب في انتقال جدلي دائم من سؤال إلى سؤال ..؛ وبِقَدْرِ صِدْق وعُمْق أسئلته، تكون مصداقية معلوماته وأخباره واستطلاعاته. لكن يُخطئ من الإعلاميين مَن يعتقد أنَّ حريته مطلقة ، وأسئلته مُرْسَلَة لانهائية . فهومن حيث ذاته، قد يسأل عما شاء، ومن شاء، وكيف شاء . وهو من جهة غيره، مُساءَلٌ عن أخطائه وهَنَاتِه ، لاسيما إنْ كان الإعلام عموميا، فهنا كما يَسألُ الإعلامي لابد أن يُساءَلُ . ذلك إذن هوالإعلام المسؤول . ومما يجدر إيراده في هذا السياق ، ما أقدمت عليه الحكومة اليونانية ، من إغلاق قنواتها العمومية الثلاث ، بداعي وجود الفساد، و تبذيرالنفقات المرصدة لها، فيما هي في أزمة اقتصادية . هذا قد يُستدل به على ما قام به وزير الاتصال المغربي، فيما يخص تقارير المجلس الأعلى للحسابات المتعلقة بالشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة والقناة الثانية ، والتي أحالها على أنظار الفرقة الوطنية للشرطة القضائية ، لفحص الاختلالات المالية والإدارية في القناة الثانية ، و الذي شمل عدة مسؤولين بالقناة سابقين وحاليين . مما دعا بعض الفرق البرلمانية بمجلس النواب، إلى استدعاء سليم الشيخ مدير القناة ، للمثول أمام لجنة الثقافة والتعليم والاتصال، بقصد مناقشة عدد من القضايا التي تخص قناة عين السبع ، وعلى رأسها الوضعية المالية للقناة، ومدى احترام القناة الثانية لمقتضيات دفتر التحملات الخاص بالقطب العمومي. لكن يبدو أن الأمر قد يقف هنا ، بسبب وجود " لوبي برلماني "لحماية مسؤولي القناة ، حتى و لو ثبتت في حقهم التجاوزات و الاختلالات ؛ وذلك ما يُستشف من موقف فريقي الأصالة و المعاصرة و الاشتراكي الرافض لمساءلة سليم الشيخ، و معه مدير القطب العمومي العرايشي، بمجلس النواب ، بذريعة أن مسؤولي القناة هم مجرد موظفين ، سواء كانوا مديرين أوغيرذلك ، و ليس لهم صفة سياسية تجعلهم تحت طائلة المساءلة البرلمانية . لأن المعني بالمساءلة المشار إليها هو وزير الاتصال . هذا والملاحظ هنا ، أن العلاقة بين الحكومة و مسؤولي القنوات العمومية ، أو الموظفين بحسب تعبير الفريقين المعترضين على المساءلة ، وبخاصة القناة الثانية ، شهدت عصيانا إعلاميا ، فكل يغني على ليلاه ، و الحكومة في واد ، والإعلام العمومي في واد آخر . وما تصريحات مديرة الأخبار في القناة الثانية سميرة سيطايل ببعيدة في هذا الصدد، حيث عبرت عن رفضها " الانصياع " لرئيس الحكومة، وكأنَّ " الموظفة " الإعلامية تديرقناة إخبارية خاصة ..! فما السرفي ذلك؟ أ هي علاقتها بذوي النفوذ السياسي والاقتصادي والثقافي في الدولة ؟ أم هي " عفريت " من العفاريت التي تُرعب رئيس الحكومة، وتُرهب وزيره في الاتصال ؟ أم هي الوظيفة بلا محاسبة ... ؟لا ريب أن المسألة أبعد من ذلك ، لأن ما يجري من شأنه تقويض مفهوم ربط المسؤولية بالمحاسبة ، الذي يعد أحد الركائز التي جاء به دستور 2011 ، وكذا مفهوم سيادة القانون( Rule of Law ) باعتباره من عناصر الحكامة الجيدة . فهل للقناة الثانية حصانة تجعلها فوق القانون ؟ ألا تحتاج هي أيضا إلى حكامة إعلامية جديدة بما تعنيه من شفافية ومحاسبة ومشاركة وسيادة للقانون ؟ . إنه لمن المفارقة حقاً أن يدعي مسؤولو القناة المذكورة الانخراط في المشروع الإصلاحي الحداثي، مع أن سلوكهم ماضوي باستنكافهم عن المساءلة ، واعتمادهم آليات باتريمونيالية غير حداثية في تأمين مركزهم الإعلامي . هذا سوى انحيازهم السافرلخطاب إيديولوجي واحد ، وترويجهم لبرامج و" أجندات " مصادمة للنسق الفكري والثقافي للمشاهد المغربي . ولولا أن الفضاء الإعلامي يتيح بدائل إعلامية متعددة ومتنوعة ، لبقي المغاربة أسَارى خطاب " دوزيمي " لا ثالث له، ولا رابع ... إنه - والحالة هذه – لن يزيد من شعبيته ، بل قد يفقد الشعب نفسه . قد يُقال إن الإعلام أحوج ما يكون إلى الحرية الإعلامية ، للتعبيرعن القضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية في مجتمع ما ، بلا قيود فكرية أورقابة إدارية . وهذا إنما يكون لوكان الإعلام محايدا ومستقلا عن الدولة . ولكن بالنسبة إلى الإعلام العمومي ، كالقناة المغربية الثانية وغيرها ، فإنه ملزم بحُسن تدبير مرفقه الإعلامي بما يحقق المصلحة العامة ، وبعدم تبذير المال العام المُرصَد له من ضرائب المواطنين . لاسيما إذا ما تعلق الأمر بحكومة ملتزمة بإرادة الشعب ، الذي وضع فيها ثقته وفق برنامج تعاقدي بينهما ، ثم يكتشف في الأخير أن لا شيء يعبر عن اختياراته ، في كثيرمن المجالات، و منها الإعلام . فالحكومة إذن من خلال وزارة الاتصال المكلفة بقطاع الإعلام العمومي ، هي المسؤولة المباشرة أمام المواطن ، وليس مؤسسة "الهاكا "، كما أشار إلى ذلك المعترضون على مساءلة القناة الثانية . لأن "الهاكا " ما هي إلامؤسسة حكومية فوقية ، لم تفرَز انطلاقا من اختيارات الشعب ، و بالتالي ليست معنية بتطبيق برنامج تعاقدي بين الشعب و الحكومة ، التي منحها صوته، و وضع ثقته فيها . ناهيك عن أن " الهاكا" إنما أ ُسست - كما هو معلوم - من أجل السهر على احترام الحرية والتعددية في قطاع الاتصال السمعي البصري، و كذا بحث طلبات الرخص ، ومراقبة مدى التزام هيآت الاتصال السمعي البصري بمضمون دفاتر التحملات. وقد يُظنُّ أن المساءلة هي التي تقيد حرية الإعلام العمومي. كلا! فلا يقيد الحرية الإعلامية غير حق المواطنين في إعلام "مُواطن " ومسؤول ومُحَاسَب . بَيْدَ أن السؤال الماكث : من الذي يستطيع المساءلة والمحاسبة والدفاع عن حق المواطن ؟!