أتأمل مصير الراحلين، الذين عبَرُوا سلفا نحو ضفة أخرى من هذا الوجود غير معلومة قط. حقا، لا أعرف، تحديدا ويقينا، هم ضحايا الموت أو الحياة؟ بما أن الأخيرة قبل كل شيء ورطة؛ ومجرد سعي عبثي للحيلولة دون تدحرج صخرة سيزيف من أعلى قمة الجبل، مع أنها متدحرجة لا محالة؟ هناك، من تستمر ذكرى رحيله؛ على الأقل لغويا، لفترة ليست بالقصيرة. آخرون، يتم تأبينهم خلال اللحظة نفسها، بين طيات الإعلان، ثم في اليوم التالي، لا ذاكرة لمن أراد مجرد التذكر. وفئات ثالثة، ترحل في صمت مطبق، كأنها لم تولد أصلا؛ بحيث تقتل الموت نفسها تماما. رغم أنه لا شيء لدي كي أخسره جراء الموت من عدمه، فالأمر سيان بالنسبة إلي، ولا مقياس لتفاضل قيمي بهذا الخصوص، ما دمتُ لست كائنا مشبعا بسذاجة الحياة أو مدمنا لرهاناتها أو حتى محترما لها. مع ذلك، أقف دائما صامتا خلال لحظات طويلة متجمدا في مكاني، متسمرا عند موضعي حينما أقرأ خبرا يعلن رحيل طيف عن مشهد الوجود، ويزداد الوقع استفحالا إذا كان ضحية الموت هذا أو تلك، موصولا بحواس ذاكرتي على نحو ما. أذكر، بأني خبرت قسوة شيء اسمه الموت لأول مرة، وأنا طفل صغير، حينما رجعت ذات صبيحة من المدرسة مسرعا وجهة أدراج منزلنا، ثم اكتشفت فجأة أبي جثة هامدة يصارع بالكاد أنفاسه الأخيرة، دون سابق إنذار. والمرة الثانية، بعد فترة قصيرة عن مضي أثر الحدث الأول، حينما قادتني الصدفة وحدها في الشارع العمومي فولجت مقبرة موحشة جدا، لا زلت أستحضر تفاصيلها المفزعة، منجذبا بلا تفكير خلف ترانيم مؤثرة تصدح بها حناجر حشد يسرع بنعش ميت، ثم قررت بوازع فضولي البقاء غاية اكتشاف مختلف مجريات الطقوس، من وضع الشخص في الحفرة ثم ردم فجوتها كليا، غاية إخفاء الأثر عن الأبصار، ومغادرة الجماعة المحتفية دون التفات يذكر لمن أودع وحيدا إلى عزلته الدائمة، مستكينا، متروكا كأنه لم يكن معنا، تحت رحمة قسوة منطق التخلي الغادر. منذئذ، بدأت باستمرار أقلِّب داخلي هواجس الموت، وفق مناحيها الميتافيزيقية، باعتباره، ربما: وجودا ثانيا؟ اختفاء مباغتا بلا موعد؟ انتقالا من وضع حياتي إلى وضع آخر؟ ارتيابا لانهائيا بخصوص معاني الرحيل؟ إلخ. طبعا، أسئلة يتباين مستوى زخمها، تقدما وارتدادا إيجابا ثم سلبا، حسب مستويات أبعاد المساحة التي أرسمها مع ذاتي من خلال حيز العزلة؛ حسب زخمها أو ترهلها. أبعاد، لا تنزاح عموما عن إطار ثابت لأسئلة موجعة من قبيل ما معنى أن أموت؟ كيف سأعيش التجربة؟ هل يقتضي موتي نفس المرجعيات المفهومية للحياة، التي تبنيتها مع العالم الأول؟ ما هي الثوابت والمتغيرات؟ ما الأثر المترسخ بعد موتي؟ بالتأكيد وحتما، لا جواب عن هذه الأسئلة سوى بين طيات الموت نفسه. وحدها، تجربة الموت بمختلف ممكناتها اللانهائية قادرة فقط على تقديم جواب خالص، لا تشوبه شائبة. ربما، أضاعت الموت نسبيا رمزية سطوتها بخصوص معاني التخلي والاغتراب، مع التغيرات الفكرية القيمية، الناتجة عن الانتقال إلى محددات المنظومة الرقمية- السيبرنطيقية، أخذت معه الموت سمات أخرى تناقض جوهريا المضامين الماثلة كلاسيكيا * اختُزلت الموت راهنا، كما ألاحظ إلى رثاء فولكلوري بارد لاستدرار العواطف المجانية، حينما تشغل حيزا متسيدا عبر التنافس الانتخابي ضمن قنوات فضاءات الافتراضي، سرعان ما تفقد كنهها خلال اللحظة ذاتها، وقد أزاحت محلها تناوبيا ضمن سلسلة حشد الأخبار المتواترة بلا انقطاع. * قوَّض الموت، تبعا للكيفية المتداول بها حاليا، على مستوى سياقات الفضاء العمومي، مثلما كشف ذلك الفضاء الافتراضي، مختلف المعاني الكامنة في غرفة لاوعينا، بحيث لم يعد مرتبطا أساسا بتعليلات الشيخوخة، والمرض وحيثيات الشر كالحروب والجرائم والكوارث.بل، الموت لعبة طارئة بامتياز.هكذا، اكتشفنا أن الطفل يموت قبل شبابه، والجميلة قبل أن تشغل مساحة وجهها الآسر التجاعيد المقززة، ثم الرياضي القوي في أوج بأسه وشدته. هكذا أنهى الموت حسب تجلياته الراهنة، الأبعاد الميتافيزيقية الأحادية للزمان والمكان والهوية، فاكتسى أخيرا معنى محضا واقعيا يدرجه ضمن ممكنات اليومي القابلة للحدوث. إنه كائن بيولوجي في نهاية المطاف.