توجيهات عامة. بادئ ذي بدئ أطلب من أنصار الفكر العلماني التحلي بقليل من الإنصاف عند القراءة, وشيء من التجرد عن كل هوى, والتخلي عن ضيق الاستكبار الذي يصد عن التأمل والتفكر والاستماع, وذلك حتى نحفظ للمنبر حرمته. فإنه ليس غريبا أن تنطلي على بعضنا الأفكار الخاطئة, والتصورات الخداعة, مما يجعل إمكانية وقوعنا في الخطأ شيء وارد وأمر طارئ؛ إما بفعل تأثير تصورات شائهة أو انحراف ثقافي أو زيغ معرفي أو تداخل أفكار أو ضياع معايير. فنُفسد في حلولنا من حيث نظن أننا نصلح, ونكذب في منطقنا من حيث نظن أننا نصدق, ونشتط في حكمنا من حيث نظن أننا نعدل, إلى درجة يتعذر علينا من شدة غفلتنا الشعور بضلال سعينا وفساد ما نقترف. حتى يرى كل منا سيئ عمله حسنا, وخسارة سعيه كسبا. وفي مثل من هذا حاله نزل قوله تعالى: ﴿ قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً﴾. نعم إنه ليس منا من أحد إلا وهو يعتز بفكره, لكن أقل ما يلزم كل منا هو أن يدرك أنه غير منزه عن الخطأ ولا معصوم, مع استحضار أنه كما يحتمل أن يكون خصومنا هم المخطئين, فمن الممكن أن نكون نحن هم أصحب الخطأ. وعلى كل فعلينا أن ندرك أننا كما نرى خصومنا فكذلك خصومنا يروننا. وبالتالي إذا ما لم يكن المرء منا مسلحا بسلاح العلم والتعقل والموضوعية والتجرد والإنصاف والتحرر من الإصرار مبدئياً على الرفض والإنكار, فأنى لأي منا الاهتداء, وأنى له النجاة وهو لا يريد أن ينظر ولا أن يتدبر ولا أن يراجع نفسه أو يناقش ما اعتاد ترديده بعدما ألف سماعه!!! ومما دعاني لهذا التوجيه هو ما رمقته في تعليقات بعض المتأثرين بالفكر العلماني فيما يخص مما انتقدته من جهالات عصيد بخصوص انتشار الإسلام. والتي كانت - تعليقاتهم - للأسف الشديد تكشف بمجموعها قدر الغبش الذي يحيط بالعلمانيين في مدلول الإسلام, كما تكشف سوء تصورهم لحقيقته, دون أن يفطنوا إلى أن آفة اعتراضهم تكمن في جهلهم وسوء استدلالهم وفساد مصادرهم, وصدق الله العظيم القائل: ﴿ بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين ﴾. مما لم يدع لي أدنى شك في أننا أمام قوم لا يعرفون الإسلام أو بتعبير أصح يعرفون الإسلام من غير مصادره. لا إكراه في الدين. وكما تم بحمد الله في المقال السابق الكشف عن تهافت دعوى العلمانيين " أن الإسلام انتشر بالسيف والعنف "؛ وأنها مجرد فرية نشأت لهم عن حملهم مدلول الدين في الإسلام الذي هو عقيدة وشريعة، على مدلول الدين عند الأوربيين الذي هو في اصطلاحهم الشائع مجرد عقيدة في الضمير. وهذا فرق كبير أوقع العلمانيين بعدم ضبطه في الخلط بين مبدأ " لا إكراه في الدين" وبين " فرض الجهاد " في شريعة الإسلام. مع أنه فرق ضخم, من عجز عن إدراك مثله, فالأولى به أن يعجب من عقله. فما يعجز عن إدراك مثل هذا الفرق سوي العقل. وبعد أن انتهينا من تقرير فرضية الجهاد في الإسلام مع بيان بعض الأغراض من مشروعيته والتي ليس منها إكراه الناس على اعتناق عقيدته. نقول: نعم " لا إكراه في الدين " معناه أن الإسلام لا يكره الناس على اعتناقه, وترك معتقداتهم وتغيير ما في قلوبهم. لكن ليس معناه كما يريد له العلمانيون فتح المجال لنشر العقائد الفاسدة داخل المجتمع الإسلامي. " لا إكراه في الدين " ليس معناه أن الإسلام لا يقي أهله من ضلال الأفكار, ولا يحول بينهم وبين كيد الأشرار. ولا يحوطهم بسياج, ولا يحمي حصنهم, ولا يحفظ حماه, ولا يضمن أمنه, ولا يقف في وجه من يهدد وجوده, ولا يصد من يعمل على طمس معالم الهدى, أو يجهد نفسه في إشاعة الفوضى, ويسعى بين أهله بنثر شكوك الشبهات وأشواك الشهوات؛ يمسخ تصوراتهم وقيمهم وأخلاقهم!. إن الإسلام دين جاء ليصحح عقائد المشركين والوثنيين واللادينيين, لا ليسمح لهم بالانتشار على حسابه, أو يقيم لهم من نفسه ما يكون لهم عونا على تضليل أتباعه وخذلانهم. وحسبهم هذا لو كانوا عقلاء؛ فالجهاد هو دعوة إما إلى اعتناق الإسلام عقيدة وشريعة أو إلى تطبيق شريعته دون اعتناق عقيدته؛ إن شاءوا دخلوا في الإسلام، فكان لهم ما للمسلمين من حقوق، وعليهم ما عليهم من واجبات، ورجعوا عنهم وتركوهم وأرضهم. وإن شاءوا بقوا على عقائدهم وأدوا الجزية، مشاركة منهم في نفقات الدولة المسلمة مقابل أن تحميهم من أي اعتداء، فلا ينالهم أذى ولا يقع عليهم ضرر ولا تصيبهم إهانة ولا يمنعون من عمل. كما أنها لا تفرض على الأطفال منهم الذين هم دون سن البلوغ, ولا على النساء ولا على الرهبان المتفرغين للعبادة, ولا الشيوخ ولا الضعفاء ولا المرضى, بل على الدولة الإسلامية عندما تكون إسلامية كما كانت إسلامية أن تكفلهم وتعينهم ماديا كالمسلمين سواء بسواء. وفي حال عجز المسلمين عن الدفاع عنهم أعادوا إليهم جزيتهم. وهذا الذي نقرره ليس ضربا من المثالية أولونا من الخيال وإنما هو مثال واقعي شهد له التاريخ الإفرنجي قبل التاريخ الإسلامي وذلك عندما رد أبو عبيدة بن جراح رضي الله عنه الجزية إلى أهل الشام وهم آنذاك من أهل الكتاب حين لم يستطع حمايتهم من جيش الروم. فبالله عليكم هل يتمتع المسلمون الآن في مجتمعاتهم هذه بعُشر أعشار هذه الحقوق من مثل هذا الذي كان أهل الذمة يتمتعون به في زمن عز الدولة الإسلامية وتمكنها.!!! ضغوط وشبهات. إن مما ينبغي التنبه إليه أن إقحام عصيد موضوع الجهاد, أو إقحام غيره من العلمانيين مثل موضوع الجزية أو موضوع الردة أو غيرها من القضايا التي لها تعلق بالنظام العام للدولة الإسلامية في مناقشة تفصيلية؛ هو إقحام مقصود. الغرض منه تضليل العامة من الناس, وخلخلة تصوراتهم, والتشكيك في مسلماتهم. ثم استدراج الدعاة إلى متاهات مناقشة يصير فيها الجدال عبثا وجهدا ضائعا. وذلك لكونها قضايا غير قابلة بطبيعتها للطرح أو الممارسة في مجتمع نظامه العام قائم على غير قواعد النظام الإسلامي, في مجتمع إسلامي من الخيال؛ مجتمع لا يحكم بحكم الإسلام, ولا ينظم أوضاعه على أساسه. إنها قضايا لا ينبغي أن تطرق من افتراض أو توهم مجتمع لا وجود له في الواقع. كما أنها لم تكن من قبل قابلة للتطبيق إلا بعد أن قامت للإسلام دولة في المدينة تحكم بحكم الله. الشيء الذي يكشف سر اضطراب تحاليل أكثر الدعاة عند خوضهم في مثل هذه القضايا, وتأرجح مواقفهم دون تقرير لما ينبغي تقريره من حرج ضغط الواقع المنحرف في مجتمع التناقضات. فيحرف من يحرف, ويلوح من يلوح, ويحيد كلية من يحيد مما يجد من مشقة البيان, وصعوبة الإيضاح, خشية التنفير وهول التشويه. تحت وقع التهم الجاهزة التي تشاع من طرف العلمانيين ضد أهل التوحيد دون ترو ولا تفكير؛ تكفيري, إرهابي, متطرف, متشدد, رجعي..... الشيء الذي يرغم المهزومين منهم أمام سطوة العلمانية وانتفاش باطلها تقييد الجهاد بوقوع الاعتداء! وهذه غايتهم. يبذلون جهدهم وطاقتهم واهتمامهم قصد تعطيل الإسلام وتزييف مدلوله وجعله فاقد الصلاحية. وهم فضلا عن كونهم يخطئون فَهْم الإسلام. فَهُم ليسوا بعقلاء ولا منطقيين ولا حتى واقعيين, حيث يلزمون الإسلام بما لا يلتزمون به هم عندما يتعلق الأمر بعلمانيتهم. فهم حين يحاولون تمييع الإسلام, وطمس عقيدته وإذابتها, حتى لا يبقى ثمة مسلم ولا كافر, ولا حق ولا باطل, ولا هدى ولا ضلال. تجدهم يقررون في نفس الوقت بوضوح حاسم مبدأ فصل الدين عن الحياة, ويواجهون المنكرين لهذا المبدأ, وينشرون تصوراتهم الإلحادية عن الحياة والأخلاق؛ ويسلطون أجهزتهم وأقلامهم وإعلامهم وأسلحتهم واستخباراتهم ويستعينون بأسيادهم في الغرب وأمريكا لتدمير قيم الإسلام وسحق تصوراته باسم التطور والتحضر والحرية والتقدم من أجل إقناع المسلمين؛ أنه بإمكانهم أن يكونوا مسلمين بلا إسلام! يتبع