يُريد بعضُ «أنصاف الدُّهاة» أن يُوهموننا بأنّ العائق الأساسيّ أمام "الحداثة"، في المجتمعات الإسلاميّة، يَتمثّل في «السلفيّة الإسلامانيّة» باعتبارها تقول بأنّ «الإسلام/الدِّين» لا يُؤخَذ بالاجتهاد المفتوح تعقُّلا تأويليّا وتعبُّدا تخلُّقيّا، وإنّما يُؤخذ فقط بالرُّجوع المُباشر إلى طريقةِ «السّلف الصالح» التي تُعَدّ «النّموذج الأمثل» الذي يجب استحضارُه في فهم "الإسلام" والعمل به. والحالُ أنّ «السلفيّة الإسلامانيّة» لها، بكل إحراجاتها، نظيرُها المُعادِل في «السلفيّة العَلْمانيّة» التي ترى أنّ "الدِّين" يجب تعطيلُه في المجال العُموميّ وَفْق ما دعا إليه مُفكرو «عصر الأنوار» وكما حصل في المجتمعات الأُروبيّة بعد قيام «الدّولة-الأُمّة». وما تجدُر مُلاحظته، بهذا الصدد، هو أنّ اشتداد الصراع بين تَيْنِك السَّلفيَّتَيْن يُعَدّ أحد العوامل الأساسيّة في استدامة "التّقليد" إمّا في اتِّجاه ماض غابر وإما في اتِّجاه ماض قريب. ومن هنا، إذَا كانت «السلفيّةُ الإسلامانيّة» تتمسكّ بالماضي الخاص أصلا ومرجعا، فإنّ «السلفيّة العَلْمانيّة» تفترض وُجود «مُشترَك كُلّيّ/كونيّ» (هو، في الواقع، ما وطَّأه "التّنوير" و"الحداثة" الغربيّان بالتّحديد!) ولا تقبل أيّ أصل أو مرجع خارجه ؛ مِمّا يجعلهما تُمثِّلان كلتاهما الوجه الظاهر من واقع الإعاقة الذي تعيشه المجتمعات الإسلاميّة والذي ترجع أسبابُه العميقة إلى تراكُمات شتّى ليس أهونَها استمرار «الفتنة الكُبرى» صراعا قَبَليّا وطائفيّا على "السُّلطان" والتّخاذُل في مُواجهة ضُغوط التّوسُّع الهيمنيّ المُتكالِب على خيرات الأُمة الإسلاميّة. وحينما يُورَد – هُنا- تعبيرُ «السلفيّة العَلْمانيّة»، فليس المُراد به التّهوين من شأن «السلفيّة الإسلامانيّة» بإيجادِ نظير حديث لها، بل لأنّ الأمر في التّوجُّه "العَلْمانيّ" يَتعلّق فعلا ب"سَلَفيّة" لا تكتفي بمُمارَسة "التّقليد" تُجاه ما راكمه مفكرو الغرب وفلاسفتُه (وحتّى أُدباؤه) على الأقل منذ القرن 16 م، بل إنّها تتعاطى ادِّعاء "العقل" (أيْ أنّها "مُتعاقلة") وتتظاهر باتِّباع "العلم" (أيْ أنّها "مُتعالِمة"). وبما أنّها لا تَتحقّق فعليّا بمُقتضيَات المُمارَسة العقليّة والعلميّة، فإنّها تتحدّد - في تعاقُلها وتَعالُمها- بأنّها "مُتقادمةً" إلى أبعدِ حدٍّ (لكونها، في الغالب، لا تُواكب مُستجدّات الفكر والعلم إلّا كنُتَفٍ ومُختصرَات مُناسبة للغرض!). ولأنّ «السلفيّة العَلْمانيّة» قائمةٌ أساسا على "التّقليد" وتأبى إلّا أن تدّعي "التّجديد"، فقد يَحسُن الوُقوف على أهمّ الإحراجات المُلازمة لها بما هي كذلك، وأيضا بما يُظهر أنّها ليست "البديل" المطلوب لمُواجهة وتجاوُز «السلفيّة الإسلامانيّة». وتُمثِّل هذه الإحراجات نوعا من المسكوت عنه في إطار «السلفيّة العَلْمانيّة» التي يبدو أنّها لا تستطيع عرض (وفرض) نفسها إلّا بقدر ما تُركِّز النّظر والكلام على «السلفيّة الإسلامانيّة» بصفتها وحدها المسؤولة عن إعاقة "التّحديث" و"التّرشيد" في المجتمعات الإسلاميّة. ونجد أنّ الإحراج الأوّل في «السلفيّة العَلْمانيّة» هو أنّها تنسى أنّ "العَلْمانيّة" – التي تتبجّح بها كامتياز تتفرّد به!- إفرازٌ خاص بالمُجتمعات المسيحيّة التي عَرفت صراعا قُرونيّا بين «السُّلطة الرُّوحيّة» (الكهنة ورجال الدِّين) و«السلطة الزمنيّة» (الحُكّام والمُلوك). إذْ قامت "العَلْمانيّةُ" أصلا بالمجتمعات الغربيّة كمُناهَضة ل"التّسلُّط" الذي مارسته "الكنيسة" تاريخيّا في العالم المسيحيّ «باسم الدِّين» والذي عَرف أَوْجَه مع «محاكم التّفتيش» التي أحرقت "جيوردانو برونو" (1600م) وحَكمت بالإقامة الإجباريّة على "غاليلي" (بين 1633 و1642) ؛ ثُمّ فَرضتِ "العَلْمانيّة" نفسَها في النهاية كفصل ل"الكنيسة" عن "الدّولة" يَسمح، من جهة، بوضع حدِّ للحروب الدينيّة بين الكنيسة الكاثوليكية والكنائس البروتستانيّة (أكثر من مئة وثلاثين سنة من الحروب!) ويَكفُل، من جهة أخرى، حياد السلطات العُموميّة تُجاه مُختلِف أشكال الاعتقاد والتّديُّن. لكنّ "الإسلام" - بصفته دينَ أكثريّة المُسلمين في العالم (أهل السنّة)- ليست فيه كنيسة أو سلطة كهنوتيّة ولم يَعرف «مَحاكم التّفتيش»، حيث إنّ "الفُقهاء" (المُختصِّين بعُلوم الدِّين) لم يُمارسوا قطّ الحُكم مُباشرةً حتّى يُقاسوا على «رجال الدِّين» خصوصا في المسيحيّة البابويّة ؛ بل إنّ التّجربة الوحيدة المَريرة في تاريخ الإسلام التي أراد فيها الحاكم فرض عقيدة مُعيّنة (عقيدة «خَلْق القُرآن») بصفتها التّعبير الحقيقيّ عن «الإسلام/الدِّين» ارتبطت بفرقة "المُعتزلة" التي انتهت كفرقة متسلِّطة فكريّا «باسم العقل» على النّحو الذي تسبَّب في محنة المُحدِّث والفقيه الإمام "أحمد ابن حنبل". وأكثر من هذا، فإنّ أوّل فقيه تعرّض للمحنة من قِبَل الحُكّام كان فقيها أفتى بحِرْمة «طلاق المُكرَه» مُشيرا بالأحرى إلى حِرمة «بيعة المُكْرَه»! فالصراع في المجتمعات الإسلاميّة كان، من جهةٍ، سياسيّا بين طُلّاب السلطة من أهل العصبيّات و، من جهة أخرى، صراعا فكريّا بين فِرَق ومذاهب (قد تَستعدي "السُّلطان" في صراعاتها كما حدث في حرق كُتب الفيلسوفين "الغزاليّ" و"ابن رشد") ؛ والصراعان معا لم يَمنعا من استمرار التّعدُّد والاختلاف بين طوائف المُسلمين وبينهم وبين مُخالفيهم في الدِّين من «أهل الكتاب» (اليهود والنّصارى). وحتّى التّحوُّل، الذي عُرف حديثا مع قيام الدّولة القُطريّة وبَعد انتهاء الاحتلال الأجنبيّ المباشر، لم يَكُنْ توظيفا دينيّا للسُّلطة، وإنّما كان توظيفا سياسيّا للدِّين، وهو التّوظيف الذي جعل "الفُقهاء" و"علماء الدِّين" رهائن لرجال الحُكم والسياسة! فكيف يَصحّ، إذًا، لأدعياء "العَلْمانيّة" بيننا أن يَدَّعوا "التّجديد" وهُم لا يفعلون شيئا سوى استيراد حلّ اصطنعه أسلافُ الغربيِّين عاملين على فرضه قياسا مغلوطا؟! وكيف تكون "العَلْمانيّة" حَلّا مُناسبا لمُجتمعاتٍ كانت ولا تزال تُعانِي "الاستبداد" مُلْكا عاضّا بالوراثة أو جَبْريّا بالغَلَبة، وليس بفعل تشريع دينيّ يُسوِّغ الحُكم حقًّا إلاهيّا لهذه الفئة أو تلك من دون بقية الأُمّة التي تُرِك لها الأمر كُلُّه شُورى حُرّة وإجماعا بالتّراضي؟! ويأتي، بعد ذلك، إحراجٌ ثانٍ: إذْ بِما أنّ "العَلْمانيّة" تدّعي أنّ «المرجع الحاكِم» لا يُمكن أن يكون إلّا ذلك «المُشترك العُموميّ والشّعْبيّ» (laïc) والمُتعلِّق حصرا ب«الزمنيّة الحاضرة والحديثة» (secular/séculier)، فإنه يُفترَض فيها أنّها تَستبعد كل مرجع يكون رُوحيّا وخاصّا أو يَتّصل ب«الزمنيّة الماضية والسالفة». لكنّ القول بأنّ "القِيَم" كُلَّها لا تفرض نفسها إلّا في صلتها ب«الزمنيّة الحاضرة والحديثة» يُوجب لا فقط اطِّراح كل "القِيَم" المُتعلِّقة ب«الزمنيّة الماضية والسالفة»، بل أيضا إنجاز الفصل عمليّا بين "الماضي" و"الحاضر" وبين "الرُّوحيّ" و"الزمنيّ" بما يُوقف آثار "التّقليد" كحفظ لقِيَمٍ رُوحيّة ماضويّة ويُطْلِق، من ثَمّ، إمكانات "التّجديد" إحداثا وإبداعا لقِيَمٍ زمنيّة مُشترَكة بشريّا ودُنيويّا. ولو صحّ هذا، لكانت "العَلْمانيّةُ" مُتعدِّدةً ومُتغيِّرةً في تبعيّتها الضروريّة لكل الظروف الزمنيّة والتاريخيّة الخاصة بمُختلف المجتمعات والثقافات، ممّا يجعلها "عَلْمانيّات" مُتفاوتة ومُتنازعة وممّا يَستحيل معه الاشتراك في "القِيَم" إلّا تغالُبا وتغليبا وَفْق إمكانات العصر وإكراهاته. وبَيِّنٌ أنّ اعتماد «الزمنيّة الحاضرة والحديثة» مرجعا وحَكَما لا يَمنع "الإكراه" و"التّسلُّط" بإطلاق، وإنّما يَحصُره تحكُّما باسم «المُشترَك الدُّنيويّ هُنا والآن» ؛ وهو ما يَفضح كونَ "العَلْمانيّة" لا تستطيع فرض نفسها إلّا بما هي «دينٌ مُتنكِّر» يَعْرِض، في الظاهر، مرجعَه "الزّمنيّ" ويُنْكِر، في الواقع، لُزومه "الرُّوحيّ"! ويَتعلّق الإحراج الثالث بأنّ تحديد "العَلْمانيّة" بصفتها تُناهض عموما "التّسلُّط" (سواء أكان «باسم الدِّين» كسلطة رُوحيّة أمْ «باسم العقل» كسلطة زمنيّة) يُوجب على أصحابها عدم العمل على فرضها على شُعوبٍ ومُجتمعات لا تقبل الفصل بين "الدِّين" و"الدُّنيا" ولم تعرف الصراع بين «السُّلطان الروحيّ» و«السلطان الزمنيّ» كما عرفته المجتمعات الغربيّة. وإذَا كانت المجتمعات الإسلاميّة لا يزال يُمثِّل فيها المُسلمون الأكثريّة، فإنّ أيَّ دُستور يَنصّ على ضرورة فصل «الإسلام/الدِّين» عن المجال العموميّ (مجال تدخُّل "الدّولة") لن يَحظى بالقَبُول إلّا تزويرا أو إكراها. فهل الدعوة إلى "العَلْمانيّة"، في ظلِّ هذا الواقع، دعوةٌ إلى حلٍّ حقيقيّ لمُشكلة الحُكم والتّدبير السياسيّ أمْ أنّها دعوةٌ زائفة تتستّر على المُشكلة الحقيقيّة التي جعلت أمر جُمهور المُسلمين بين أيدي فئةٍ من المُغْتصبين عَنْوةً وتضليلا؟! وكيف تكون "العَلْمانيّة" حلّا بالنسبة إلى شُعوب أُحْكِم في كتابها المُقدس النّص على أنه «لا إكراه في الدِّين» وعلى أنّ أمر الحكم شُورى بين الناس لا ينعقد شيء منه إلّا تراضيًا وإجماعا وعلى أنّ الظالمين والمُعتدين والمُفسدين ملعونون على ألسنة الأنبياء والرُّسل أجمعين؟! ويُشير الإحراج الرابع إلى أنّ "العَلْمانيّة" - في حرصها على جعل "الدولة" قائمةً على «القانون الوضعيّ» و«الأخلاق المَدنيّة» لا تستطيع أن تنفي حقيقتها بما هي «دينٌ مَدنيّ» يُراد له أن يكون تعبيرا عن الحدّ الأدنى من «الدِّين الطبيعيّ» أو «الدِّين في حدود العقل المُجرَّد». ومن المُفارَقة أنّ ما صار يُسمِّيه أدعياء "العَلْمانيّة" بيننا ب«الدّولة المَدنيّة» (في تميُّزها المُفترَض عن «الدولة الدينيّة») ليس، في واقع الأمر، إلّا ذلك «الدِّين المَدنيّ» وقد أُعطي له طابعٌ وضعيٌّ وعقليّ أو، بالأحرى، بعد أن سُوِّغ وبُرِّر كما لو كان لا يَفرض نفسه بصفته مُلْزِما إلّا بما هو وضعٌ عقليٌّ مُصفًّى من كل اعتقاد ومُنزَّه عن كل هوى! تُرَى كيف تستطيع "العَلْمانيّة" أن تُعلِّل عقليّا وتُسوِّغ شرعيّا "الإلزام" بكل أشكاله من دون التّلبُّس ب«رُوح الدِّين» في تجلِّيها كطاعة اختياريّة للأمر الشرعيّ وكتعبُّد تكليفيّ وتخليقيّ؟! ويَهُمّ الإحراج الخامس "العَلْمانيّة" من حيث يُفترَض فيها أنها مبدأٌ إجرائيّ لتطبيق «الحياد العَقَديّ والقِيْمِيّ» في المجال العموميّ من دون أيّ تمييز إيجابيّ أو سَلْبيّ تُجاه المُواطنين. لكنّ كون "العَلْمانيّة" تقوم، في الواقع، كتوجُّه لا يَتنزّه بالمرة عن "الاعتقاد" و"الهوى" يجعل حيادها المُفترَض إشكاليّا ومُستبعَدًا. ف"العَلْمانيّة" تعتقد أنّ "العقل" له الأسبقيّة على "الوحي"، كما تعتقد أنّ "الدُّنيا" هي المُشترَك الوحيد بين عموم الناس وليس "الآخرة"، وتعتقد أيضا أنّ "القانون" وضعٌ عقليٌّ يستند فقط إلى «المُعطى الواقعيّ/الموضوعيّ» (حُكم الواقع) ويَتميّز تماما عن "الأخلاق" في قيامها على «المُعطى الوجدانيّ/الذاتيّ» (حُكم القيمة) بالشكل الذي يَجعلُه – في ظنّ العَلْمانيِّين- هو وحده المُلْزِم على المستوى العموميّ ؛ وتعتقد، بالتالي، أنّ "العلم" و"السياسة" و"الاقتصاد" و"الفن" لا أخلاق فيها. فهل "العَلْمانيّة" خِلْوٌ من "الاعتقاد" و"الهوى"؟ وهل التفريق بين "حكم الواقع" و"حكم القيمة" وُضع من قِبَل عقل خالص من كل الشوائب أمْ أنه تعبير عن نوع من "الوحي" المُتعالي ذاتيّا (الذات العاقلة المُشرِّعة والآمرة لنفسها) والمُتنزِّل موضوعيّا (شروط "المجتمع" و"التاريخ" و"الاقتصاد" و"الثقافة")؟! وأما الإحراج السادس، فيَقُود إلى أنّ "العَلْمانيّة" - في إرادتها تحييد "الدّولة" كسلطات عموميّة- مُضطرّة إلى ٱلتزام «الحد الأدنى من القِيَم» و، من ثَمّ، الإلزام بها ؛ ممّا يجعلها لا تملك إلّا أن تَؤُول إلى «دين مدنيّ» تفرضه "الدّولة" على المُواطنين، بالخصوص، في المدرسة العموميّة وفي الإعلام العُموميّ. فكيف يَصحّ أن يُلْزَم أُناس بما لا يعتقدونه أو بما لا يُريدونه في ظلِّ واقع لا تُجرَّد فيه "الكنيسة" (أو رجال الدِّين) من سلطة «الإكراه في الدِّين» إلّا لتُعطى "الدّولة" (أو رجال السياسة) كل الحقّ في فرض «القرارا المُقدَّسة» للسياسة العموميّة؟! وأخيرا، هُناك إحراج سابع يَترتّب كنتيجة على كل الإحراجات المذكورة آنفا ويَتعلّق بأنّ "العَلْمانيّة" - المُدَّعاة بين ظَهْرانَيْنا- لا تَتجلّى فقط ك«سَلفيّة مُتنكِّرة»، بل هي أيضا نُزوعٌ نحو ترسيخ «التّقليد الاستبداديّ». ذلك بأنّ أصحابها لم يَستطيعوا تجاوُز ما أنتجته "العَلْمانيّة" الغربيّة ولو بقيد أُنمُلةٍ، فهم يَحتذون حذوها ويأخذون عنها بلا قيد أو شرط إلى حدِّ أنّهم يَستوردون الحُلول وأيضا المُشكلات، بل إنّهم يَستوردون المُشكلات أوّلًا ليَتسنى لهم فرض حُلولها لاحقا. فليست هناك فكرة واحدة أو مفهوم مُتميِّز يُمكن أن يُنْسَب إلى أدعياء "العَلْمانيّة" بيننا. إنّهم يُقلِّدون سَلَفهم في الغرب ويُرجِّعون بَنات أفكار المعاصرين بكل زَهْوٍ. والحال أنّ أقل ما كان عليهم أن يفعلوه هو أن يَبتكروا "عَلْمانيّة" خاصة بهم ما دام الأمر يَتعلّق – كما يَزعُمون- بالحريّة في "الإبداع" وحتّى في "الابتداع". ومن ثَبَت في جنبه "التّقليد"، فأنّى له ألّا يَنقاد إلى العمل بالاستبداد أو إلى خدمته بوعي أو من دونه. فمتى انفكَّت "العَلْمانيّة" من تقليديّتها حتّى تَكُفّ عن استدامة "الاستبداد" تسلُّطا باسم العقل أو تحكُّما باسم العصر؟! وهكذا، إذَا كانت «السلفيّة العَلْمانيّة» لا تَخرُج من إحراج إلّا لتَدخُل في إحراج أشدّ منه، فإنّ مُناهَضتها لا تعني الدُّخول في مشروع «السلفيّة الإسلامانيّة»، وإنّما تقتضي تجاوُز "السَّلفيّة" بوجْهَيْها التّقليديَّيْن نحو العمل ب"التّجديد" بناءً مُسدَّدا وتقويما مُتحرِّرا. إذْ لسنا مُلزَمين بالخضوع للوصاية باسم هذا الماضي أو ذاك، ولا بالتبعيّة لإكراهات حاضرنا أو حاضر غيرنا، بل نحن مُلزَمون تكليفا بالانفكاك عن كل ما ليس مُلْزِما بالفطرة لإنسانيّتنا أو مُناسبا بالاتِّفاق لمعقوليّتنا، أيْ أنّنا مُلْزَمون بمُمارَسة رُشْدنا خارج كل إكراه على النّحو الذي تقوم به "الرّاشديّة" تنويرا بلا عَدميّة وتحريرا بلا تسيُّب. ويبدو أنه لا سبيل إلى ذلك بدون العمل ب"التّرشيد" من خلال الاجتهاد في المعقوليّة إيمانا وتعبُّدا وفي تحمُّل المسؤوليّة ائتمانا وتخلُّقا، وهو الأمر الذي يُوجب إقامة «الدّولة الرّاشدة» كبناء قانونيّ ومُؤسَّسيّ لا يكون الخضوع فيه إلّا لمُقتضيَات "الحقّ" و"العدل" كما تُجْمِع عليها "الأُمة" تشاوُرا وتعاقُدا.