خلق حزب الاستقلال في الأسابيع الأخيرة حالة من الانتظار في الحقل السياسي المغربي جعلت الملاحظين والمتتبعين يتساءلون: متى يقوم الملك بتحكيم دستوري بين حزب الاستقلال والعدالة والتنمية ؟ لكن، الكثير لم يطرح السؤال من زاوية مغايرة عن انتظار تحكيم دستوري ملكي ، وهو هل حالة الخلاف بين الاستقلال والعدالة والتنمية تستوفي الشروط الدستورية لتكون موضوع تحكيم ملكي بمقتضى الفصل 42 من الدستور ؟ في الإجابة على هذا السؤال ، يبدو أن انتظار حزب الاستقلال والعدالة والتنمية لتحكيم ملكي في صراع سياسي ثنائي ليس في محله ،وذلك للأسباب التالية : السبب الأول، عدم استيفاء الشروط الدستورية في خلاف حزب الاستقلال والعدالة والتنمية لتكون موضوع تحكيم دستوري للملك،فالتحكيم صلاحية دستورية ملكية طبقا لمقتضيات الفصل 42 من الدستور، يمارس فيها الملك التمثيل الأسمى للأمة ،ويضمن فيها المصلحة العليا للأمة ،ويحسم بطريقة سيادية في السير غير العادي للمؤسسات الدستورية ويصون الاختيار الديمقراطي وحقوق وحريات المواطنين والمواطنات ،و يضمن استمرارية الدولة ،وهي كلها شروط غير متوفرة في خلاف حزب الاستقلال والعدالة والتنمية ،فالخلافات هي حالة بين حزبين شريكين في الحكومة ولم تصل إلى درجة تهديد سير المؤسسات الدستورية ،وليس فيها خروقات دستورية ليتدخل الملك لممارسة صلاحياته في ضمان احترام الدستور ،فالصراع بين الاستقلال والعدالة والتنمية صراع سياسي عادي بين حزبين شريكين داخل أغلبية حكومية لم يصل إلى درجة تهديد الدستور . السبب الثاني، انه خلاف بين منظمات سياسية وليس مؤسسات دستورية ،فالحزب السياسي هو منظمة سياسية ،طبقا لمقتضيات القانون التنظيمي للأحزاب السياسية ،وان كان منصوص عليه في الدستور ،فان هذا لا يعني انه مؤسسة دستورية ،وبذلك فالفصل 42 من الدستور لا يشير إلى أن التحكيم يمارس بين التنظيمات السياسية وإنما بين المؤسسات الدستورية في الدولة . السبب الثالث، لا يمكن ان يكون موضوع الصراع حول منهجية العمل الحكومي موضوع التحكيم الدستوري للملك ، فبيان إعلان حزب الاستقلال عن قرار الانسحاب، الذي لازال غير مذيل بصيغة تنفيذية نهائية ، يشير إلى "تنبيه ونصح" ،ويقول أن حزب الاستقلال "استنفد جميع إمكانيات التنبيه والنصح" في علاقته مع حزب العدالة والتنمية الذي يقود الحكومة، ويشير البيان أيضا إلى مذكرة وبيانات موجهة إلى رئيس الحكومة والى مشكل داخل عمل الأغلبية والتحالف ،والى "استفراد" حزب العدالة والتنمية الحاكم بجميع القرارات الصغيرة والكبيرة "،والى انه أطلق 'العنان للخطابات الشعبوية"،فهذه العناصر لا يمكن أن تكون موضوع تحكيم دستوري ملكي ،لأنها خلاف حول منهجية عمل حكومي وأحيانا خلاف حول نعوت وأوصاف ،يكون المسؤول عنها بالدرجة الأولى الأشخاص و الأحزاب السياسية المكونة للتحالف الحكومي، وفي درجة ثانية قائد التحالف الحكومي الذي هو رئيس الحكومة ،فالأمر يتعلق بحالة صراع داخلي لا يمس المؤسسات وباقي المنظمات السياسية . السبب الرابع، إن الخلاف بين العدالة والتنمية موضوعه اختيارات اجتماعية واقتصادية يجب أن يحسم فيها داخل مكونات الأغلبية وداخل مجلس الحكومة كجهاز تداولي لاتخاذ القرارات المرتبطة بالسياسات العمومية للحكومة ،فرئيس الحكومة "عبدالاله بنكيران" يقول انه وضع برنامج الحكومة الحالية وانه مسؤول عن سياسته وقراراته ،وهو يشير إلى ذلك نيابة عن الأغلبية المكونة لحكومته ،فكيف يعمد حزب الاستقلال ،وهو شريك في اعداد البرنامج الحكومي ، الى طلب تحكيم دستوري ملكي حول اختيارات حزبية حكومية وافقت عليها مكونات التحالف وصوت عليها مجلس النواب بأغلبيته ؟ وكيف يطلب التحكيم الملكي حول سياسات عمومية لأغلبية حكومية حدد لها الدستور بدقة صلاحية وضع السياسات العمومية في المجلس الحكومي، مقابل وجود مجلس وزاري يرأسه الملك ويتداول في قضايا كبرى تهم"التوجهات الإستراتيجية لسياسة الدولة" ،والحال أن الخلاف بين الحزبين حول سياسات عمومية ولا يمكن أن يصل إلى درجة خلاف حول توجهات استراتيجية للدولة. السبب الخامس، وهو الأهم ، فالملك بصفته حكما وضامنا لدوام الدولة واستمرارها ،والضامن هو الوجهة الخارجية للتحكيم ،فالملك ضامن السياسة الخارجية والدفاع الوطني والوحدة الوطنية ،وصفة الضامن كوجهة خارجية للتحكيم ،المبني على عنصري الاختيار بين مجموعة أولويات والمصادقة عليها باتخاذ قرارات تنفيذية ،مارسها الملك في ثلاث محطات كبرى : محطة ذات طبيعة اقتصادية وهي زيارته لدول الخليج، ومحطة ذات طبيعة مرتبطة بالدفاع عن الوحدة الترابية مارسها في إدارة ملف الصحراء أمام مجلس الأمن والدول الكبرى المؤثرة في العلاقات الدولية، ومحطة زيارة إفريقيا التي مارس فيها دبلوماسية اقتصادية وسياسية وأمنية تعيد بناء العمق الاستراتيجي للمغرب .وأمام هذا الدور الكبير ، كيف يطلب من الملك التدخل في حسم صراع ثنائي بين حزبين حليفين في الحكومة؟. وتبين حالة طلب التحكيم الملكي حول خلاف حزبي ثنائي ، انه بعد عامين على وثيقة يوليوز 2011 ، تبدو هذه الوثيقة اكبر من الأحزاب السياسية ،فمكونات الحكومة عاجزة عن الاشتغال بقواعد وثيقة فاتح يوليوز 2011 والمعارضة تبدو تائهة ومترددة وغير مدركة لحقوقها الدستورية ،رغم ان الأحزاب السياسية المكونة للأغلبية والأحزاب السياسية المعارضة طلبت في لحظة تقديم مذكراتها الدستورية الى اللجنة الاستشارية لمراجعة الدستور تقوية الصلاحيات الدستورية لرئيس الحكومة (الوزير الاول سابقا) والحكومة والمعارضة ،فرئيس الحكومة لازال يلبس معطف الوزير الأول لدستور 1996 وفي مرات عديدة يعطي معنى أخر لفصول الدستور الحالي ،فالخلافات الحالية بينه وبين حزب الاستقلال تقتضي اتخاذ مبادرات لحل هذا الخلاف بعيدا عن التحكيم الملكي حفاظا على سمو المؤسسة الملكية فوق الصراعات الحزبية. ويبدو أن الأحزاب السياسية تدور في صراعات داخلية ونوع من الانقسامية تضعف الحقل السياسي الداخلي وتجعله غير منتبه للمخاطر الجيو استراتيجية المحيطة بالمغرب ،اذ ان هناك ترتيبات تجري في المنطقة المغاربية ومنطقة الساحل والصحراء تسعى من خلالها الجزائر بالدرجة الأولى الى محاصرة المغرب باستعمال متغيرات الغاز والنفط والإرهاب ،وهي تحولات تجعل الدولة منتبهة لهذه المخاطر ،ولا يمكن في هذه المرحلة ان تترك الدولة هذه الملفات المرتبطة بالأمن القومي لتتفرغ الى حل خلاف بسيط بين حزب الاستقلال والعدالة والتنمية ،فزواجهما في الحكومة بعد 25 نونبر لم تكتب عقده الدولة ،وإنما كتبه "عباس الفاسي" و"بنكيران" وإذا غاب "عباس الفاسي " اليوم فان الزواج الجديد او الطلاق يمكن ان يكتبه "بنكيران" و"حميد شباط". ولهذا، يمكن تصور نوعان من السيناريوهات ،كلاهما خارج مجال التحكيم الدستوري للملك: السيناريو الأول، ان يعمل رئيس الحكومة على قيادة مفاوضات مع حزب الاستقلال لتقليص فجوة الفوارق ،وذلك بإعادة الاشتغال داخل الأغلبية لبناء ميثاق جديد بين مكوناته والانتقال بعد ذلك الى ترتيب تعديل حكومي يقترحه على الملك بعد إنهاء الخلافات الداخلية مع حزب الاستقلال. السيناريو الثاني، ان يبادر رئيس الحكومة بصفته الثانية كأمين عام لحزب العدالة والتنمية الى إرسال مذكرة من داخل تحالف الأغلبية الى حزب الاستقلال ليطلب منه توضيح موقفه من الأغلبية و الحكومة والاختيار بين الاستمرار او الخروج الى المعارضة، ليقود رئيس الحكومة بعد ذلك مفاوضات مع أحزاب سياسية أخرى، بما فيها تلك التي أعلنت رفضها لأنه ليس هناك كلمة "لا" في السياسية وإنما هناك مفاوضات. *رئيس المركز المغاربي للدراسات الأمنية وتحليل السياسات