[إيثاكا المستحيلة.. إيثاكا الممكنة] ما من شك في أن الخروج الفلسطيني من بيروت العام 1982، الخروج الثاني كما اصطلح عليه، كحدث تراجيدي وسياسي، أثر تأثيرا بالغا في الوجدان العربي، وفي الثقافة العربية المعاصرة، وَاعْتُبِر –في نظر المتتبعين والنقاد- نقطة تحول أساس، وانعطافا رئيسا في مدونة الشعر الفلسطينية التي نَحَتْ نحو الملحمية، قرابة عقد كامل . رافق هذا الخروج –كما لا نختلف- مناحات شعرية، وبكائيات، وَرَدَّاتُ فعل غاضبة، حملت من الإحن والسخائم تجاه الأنظمة العربية، ما فاض عن الحدود، وما طفح به المتن. كما صَاحَبَه،ُ من جهة أخرى، نضوج شعري، وفتح لغوي ورؤياوي معتبران، كانا –في تقديرنا- إضافة نوعية للشعرية العربية، وقيمة جمالية لا تنكر؛ ما كان أحوج تلك الشعرية إليها !. إن نضوج كتابات المنفى الفلسطينية بعامة – حتى لا نبقى حبيسي جنس الشعر- ربما تجد تفسيرها في استلهام تاريخ الأمم المقهورة، والشعوب المغلوبة، والمقاومة، والفلسفات الإنسانية الوجودية "الكيرغاردية"، و"الهيدجرية"، و"الميرلوبونتية"، و"النتشوية" المعاصرة. كما تم ابْتِعَاثُ "الشوبنهاورية"، و"السبينوزية" وغيرهما. ذلك أن المنفى / المنافي التي صار إليها الفلسطينيون، بقدر ما كانت امتحانا ومحنة قاسيين، بقدر ما كانت اغترابا ثقافيا رحيبا، هيّأَ للمبدعين منهم، وبخاصة الشعراء، أفقا أوسع، وفتحت قُدَّامَ النص –بصيغة الجمع- المجال الخصب تثاقفيا، لكي يحقق شرطه الإبداعي وجماليته. فضلا عن أن موضوعة الغربة والمنفى، طوع اليد، إذ هي مستكنة ومتأصلة في التراث الشعري العربي لدى امرئ القيس، وطرفة بن العبد، وأبي فراس الحمداني، والمتنبي، وأسامة بن منقذ، وغيرهم. هكذا نرى إلى المنفى باعتباره تجربة ذات ثراء وغنى، إن على المستوى الإثني السوسيولوجي الذي يقول بتفوق الأقليات والمهمشين، على أهل البلد المضيف ذي الأغلبية الضاربة؛ أو على مستوى الاجتهاد الشخصي، والكد الذاتي بفعل الاحتكاك، والتثاقف، والرغبة الحارقة، في تبوإ مقعد الجدارة الأدبية أو الجدارة الشعرية. بهذا المعنى، لم يكن المنفى كمفهوم مضاد لمفهوم الوطن، وَيْلاً وثبورا كله، كما لم يكن "عَدَنَا" أو "أَرْكَادْيا" حالمة. إنما تأسس، بوصفه كذلك، وطنا أو إقامة مؤقتة في الكتابة، أو نصا ضروريا بديلا من أرض ضائعة، لا يَنِي مُشْرئبا إلى عناصرها، وتاريخها، وأشيائها كهوية لا مناص من استحضارها، وتأبيدها عبر المكتوب، واستعادتها في المنفى كخصوصية جغرافية وثقافية أيضا. علما أن الخصوصية الثقافية الفلسطينية، من خصوصية الثقافة العربية. ومن ثمة كانت اللغة الشعرية –وهي دوما كذلك- مأوى وكينونة، وامتدادا للمكان المسروق مع الإبقاء على المسافة اللازمة جماليا، وارتدادا إلى الرحم –الأم، بوصفه اغتذاء، وماء، وروحا، وتمايزا عن الآخر الإسرائيلي المقيم غصبا، وَوَقْوَقَةً، على أرض فلسطين التاريخية. ومن ثمة –أيضا- كان استيحاء التراثات الإنسانية من أساطير، وآداب، وديانات، عاملا بالغ الفائدة والمتعة في مساعدة الشاعر على إغناء تجربته، وتخصيبها، وتعديد دلالاتها، وتكثير مراياها. من هنا –مثلا- نفهم المكافئ العُوليسِي: (أوديسيوس)، للإنسان المعاصر الذي أصبح المنفى قَدَرَهُ المقدور، بالمعنيين، المنفى الداخلي و المنفى الخارجي. وندرك، ثانية، تشقيقه من الفلسطيني أو العكس، فجزيرة إيثاكا التي هي مملكة عوليس، تصبح لغة وتخييلا فلسطين المسروقة، بوصفها استعارة، وتغدو فلسطين إيثاكا المستحيلة، أو إيثاكا الممكنة، بحسبان الأوفاق السياسية، وميزان القوى، ومزاجية المنتظم الدولي، ودرجة تنازلات الضحية. أما "بينلوب": المرأة النموذجية في الوفاء والإخلاص لزوجها، والتي لم تعرف الشعريات الإنسانية، مثيلا لها، فيمكن أن نُمَاهِيهَا بالمرأة الفلسطينية كأم، وحبيبة، وأرض؛ تَغْزِلُ الساعات والأيام، والشهور والأعوام، على نَوْلِها الذي لم يتآكل من الضجر، فيما هي تغزل الصوف، وَتَنْقُضُ غَزْلَها، مُبْعدة –في آن- الطامعين في العرش والجمال، ومترقبة، بلهفة العاشقة الموجوعة، بشرى طائر ينقر زجاج الصمت الذي يلفها، قادم بين يدي عوليس. نذكر عوليس: مكافيء الفلسطيني تخييلا، الذي أبدعته العبقرية الخلاقة لهوميروس، واقفا في وحدته الباردة على ضفة جزيرة "كاليبسو"، باكيا إيثاكا البعيدة، من إحساس فادح بطول البعاد، وحرقة فجائية للنوستالجيا، والتي تعني، فيما تعنيه –حالة من الفقد العميق، والحرمان الصارخ من مكان هو له، وكان فيه !. لكن الشاعر اليوناني الحديث: "قَسْطَنْطِين كفافي"، بقدرة الشاعر السحرية، على تحويل الأشياء، والمعاني، يجعل من سِفْرِ عوليس رحلة شائقة في المجهول، عامرة بالمغامرات والحكمة. فكأنما إيثاكا تواطأت مع الأقدار، لتطوح بسيدها الملك إلى البحر، وسط العواصف والأعاصير، والحيتان، والسيرينات، والحوريات والآلهة. وكأنما نسج قدر أعمى للفلسطينيين، خيوط مؤامرة في لحظة ما، وفي مكان ما، لِيُرْمَى في البراري للسباع، والضباع، وأبناء آوى، بعد أن سدت في وجهه، منافذ العودة، وَسُوِّرَتِ الأمكنة، والأزمنة، بالكلاب والحراب، والخرافة : -[أعطتك إيثاكا هذا السفر الجميل لولاها ما ذهبت أبدا وليس لها ما تعطيك غيره وعلى فقرها كما تبدو لم تخدعك إيثاكا حكيما وغنيا بالمكتسبات ستدرك ماذا تعني إيثاكا.. تَمَنَّ –إذن- أن يطول السفر وليكن غنيا بالمغامرات والتجارب لا تخف الصقالب، ولا غضب بوزيدون] (1). هل نمضي أكثر ونقول بأنه إذا كانت رحلة عوليس، وما حَفَّ بها من خبرة، وَغِنًى تجاربي، ومغامرات يقف لها شعر الرأس، قد انتهت بالوصول إلى إيثاكا، أي بتحقيق شهوة اللقاء "بِبينْلُوبْ"- بما يعنيه ذلك من مباركة قدرية، وإطفاء جذوة مشتعلة، فإن خروج الفلسطيني ما يزال خروجا، ومنفاه ما انفك يستطيل، وينكمش تارة، كالظل أو كالتابوت. بل ما فتئ يتضاعف، سواء على الأرض الناقصة، أو المحسوبة إلى أقل من ذراع، أو الأرض العربية المترامية التي لا تسمح للفلسطيني بِمَدِّ رِجْلَيْهِ أبعد قليلا من المربع المحشور فيه !. تلك هي المفارقة الأقسى التي تمزق الفلسطيني. وحتى يتصدى الشاعر لهذه المفارقة، كان عليه أن يحتمي –كما أسلفنا- بالتراثات الإنسانية، مستلهما المثال، والقدرة على بناء نَصٍّ مُوَازٍ، تكون اللغة فيه وطنا، والشعر الآنق الأرقى، وسيلة لاستعادة الذكرى، والإبقاء على جمرتها متوهجة تضيء ديجور المنفى، وتمد الشاعر بدفء الحلم، وأطياف العودة. إن الكتابة أعمق الأوطان وأبقاها. ألم تذهب أمصار، وَتَنْدَرِسْ ممالك ومدن؟، فما الذي خلدها، وأبقى على دبيبها يمشي في ثنايا اللغة، ويخترق أزمنة، وتواريخ، وثقافات، ليصل إلينا؟ إنه المتخيل الشعري، ونبض اللغة الحي. إنه القلم وما يسطرون. بهذا، نفهم كتابات جلال الدين الرومي، وامرئ القيس، وطرفة، وأوفيد، وفرجيل، ونوفاليس، ولوتريامون، وكثيرين سواهم. ذلك أن إنتاج الوطن نصيا، واستعادته في اللغة، لا يخلو من إعادة بنائه، وتركيبه وفقا للمخيلة، وإرضاء للمحلوم به؛ ولا ينجو من ممارسة مختلف ضروب الانتخاب والانتقاء والاختزال. نقصد أن اللغة كوسيط ناقل للتصور والإحساس والتجربة، تسبغ على المكان المفتقد المتواري وراء الحواجز، والأسلاك، تلوينا فردوسيا، وأيقونا مضفورا بجدائل الزمن الذهبية. ثم إن قصائد الرواد أمثال أبي سلمى، وعبد الرحيم محمود، في الحب والطبيعة، عززت الفكرة الفردوسية، والمفهوم العَدَنِي، والأندلس الضائعة، عن فلسطين. مِمّا حدا بالجيل اللاحق إلى تطوير الفكرة بعد إنضاجها، والسموق بها إلى مستوى شعري رفيع، تقاطعت في تضاعيفه أنساغ مغذية مصدرها ثقافة الجيل الجديد العميقة والمتنوعة، وطموحه إلى استيلاد نص باذخ، يقايس، ويضارع نصوصا كونية لشعراء وكتاب أفذاذ في المجال إياه، وضمن التيمات نفسها: تيمات الخروج والمنفى والاستعادة. عنينا بهؤلاء الأفذاذ، من ذكرنا سابقا، بالإضافة إلى الفيلسوف اليهودي أَدُورْنُو، وأورْبَاخْ، وصمويل بيكيت، وإزْرا بَاوْنَد، وغيرهم. وفي تاريخ الهزائم والرَّهبوت، كان الأدب ملجأ، وملاذا، يستقوي به المبدعون مجازا وخيالا على فظاعة الشرور؛ وينطلقون منه وبه، حاملين نبض الحلم بغد مشرق، وبإنسان جديد معافى يخرج من الرماد المحترق، منتفضا كطائر الفينيق، كما لو أنهم يستحضرون قول المتنبي الخالد : كم قد قُتِلْتُ وكم قد مِتُّ عندك ثم انتفضت فزال القبر والكفن قد كان شاهد دفني قبل قولهم جماعة ثم ماتوا قبل من دفنوا وليس من سبيل إلى العودة إلى الحياة بمعناها الكريم والسامي، إلا إذا جَازَ المرء خط الخوف، وتغلب على اعتمال التردد والتوجس في دخيلته. وعندما يغتصب وطن بالكامل، ويقتلع أهله طُرًّا في أشنع عملية سرقة موصوفة أمام العالم، لا يبقى من خيار للمعتدى عليه، سوى النضال، والمقاومة، وغير الكتابة المحتفية بالأمل والحياة، الكتابة التي تسترد الوطن شبرا... شبرا، وتلملم شتات الروح، وشظايا المرابع والمجالي، عبر ا لإمعان في استدعاء أسماء الأماكن، وتأثيث النصوص بها، إنعاشا للذاكرة والتاريخ، ودَفْعًا لغول النسيان. "إن الشعر والثقافة، بالأحرى، هي حصن الدفاع الأخير أمام هزيمة الحاضر المدوية. من هنا يبدو الشعر وسيلة لاستعادة الوطن، والانطلاق من القصيدة –اللغة، يعني انطلاقا من اللغة – الوطن البديل". هكذا يَتَزَنرُ المنفي بالأرض كما تتزنر السماء بالنجوم، والمعاصم البضة بالذهب، أو هو: (يلف الأرض كما يلف الراعي عباءته)، بتعبير بديع لسعدي يوسف. إن مشكلة القصيدة الوطنية التي ثار حولها نقع كثير، ولغط وفير، والتي اعتبرت عائقا أمام الجمالي ،مادام أن مفهومها يتصل بدهيا ومبدئيا بما تحمله من موقف سياسي ، وماتنهض عليه من مهماز تحريضي، هي بالأساس مشكلة فنية، أي مشكلة كيفية وتقنية، يرتفع بها شعر ، ويسف آخر، بحسب طبيعة التعامل، ونوعية المقاربة ، ومدى النجاح في تشغيل اللغة، وبنينة الرؤية ، وأسلبة التعبير . وفي الحالة الفلسطينية ، تصبح القصيدة الوطنية ضرورة فنية وأنطولوجية في آن . لأنها تذكير بمشاعر ملتهبة ، وأشواق عارمة نحو الوطن المغتصب ، وإعلان عن تكريسه حاضرا ومتجددا في عقل ووجدان شعب ، طالما أن المعركة حضارية بل وجودية مع كيان مزروع ومتسرطن ، ما انفك مسترسلا في التجريف والمحو . لقد صار ركام من القصائد الوطنية الحماسية إلى الرفوف المتربة المغبرة ، وفي أحسن الأحوال ، إلى الأرشفة ، نظرا لخلوه من ماء الشعر ، ومما به يتحول وفقا للتلقيات المتحولة . وفي هذا الصدد ، يقول أدونيس : " ما الذي بقي من الشعر حول الأحداث الوطنية العربية في النصف قرن الأخير ؟ ، ثم يردف مجيبا : " بقي الشعر الذي اخترق الحدث محولا إياه إلى رمز " . هامش : -Jacques Lacarrière – Magazine Littéraire / Homère/ N° 427- janvier- 2004- p : 36 ) (من ترجمتنا).