حزب سياسي بقيادة جديدة مثيرة للجدل يقلب الطاولة على حلفائه و يضع رجلا في الحكومة وأخرى في المعارضة إلى أجل غير مسمى، ويتسبب في إنتاج تحالف أغلبي مجمد سياسيا مفعل حكوميا؛ حكومة ذات زخم شعبي مُتٓلكِّئة، ومضطرة لاتخاذ قرارات غير شعبية؛ معارضة ضعيفة تشتكي من تغوُّل و "حُكرة" الحكومة برئيسها الذي يطلق العنان لخطابه الذي لا يألو جهدا في الضغط على مكامن الألم؛ حزب أغلبي لا يحرك ساكنا اتجاه مهرجان "موازين" الباذخ و"الموجه" من قبل نافذين، بل وينبري بعض رموزه لتبريره بعد أن كانوا يقيمون الدنيا ولا يقعدونها في انتقاده والدعوة لإلغائه!! جلسة مساءلة رئيس الحكومة في البرلمان تنعقد بدون حضور المعارضة؛ تلكم بعض تجليات فوضى المشهد السياسي المغربي الذي بات اليوم محيرا للمراقبين. في الحقيقة يمكن للمتابع أن يفهم بعض الأشياء إذا أمعن النظر في خمس ملاحظات وهو يتابع أحداث المشهد السياسي الحالي: - أول ملاحظة يلمسها أي متتبع وإن كان أميا هي طغيان شخصية رئيس الحكومة على المشهد السياسي، ربما لاهتمام الإعلام المبالغ فيه بشخصية أول رئيس للحكومة في تاريخ المغرب يتمتع بكل تلك الصلاحيات التي يخولها له دستور الربيع المغربي، ربما للكاريزما الطافحة التي يحظى بها، ربما لخطابه البسيط والمباشر الذي يبلغ أحيانا حد الشعبوية، ربما للمصداقية التي تبدو على محياه وهو يجلجل في كل محفل، أو ربما لعدم وجود زعيم منافس يشاركه في اجتذاب الأضواء اللهم إلا شباط الذي يحاول أن يشاكس مقدما نفسه كقائد من طينة أخرى من زعماء "تحت الحزام"؛ المهم أن بنكيران بات يصول ويجول فارضا نفسه كشخصية المرحلة دون منازع يذكر على أي مستوى، سواء صوبنا النظر إلى داخل حزب المصباح نفسه، أو إلى باقي مكونات حلفائه أو خصومه. - الملاحظة الثانية التي لا يمكن لعين المتابع أن تخطئها هي الهزال الشديد الذي تعاني منه المعارضة بكل أطيافها، انطلاقا من الأحزاب الموصوفة بالإدارية، مرورا بالجرار الذي جره الحراك الشبابي الإقليمي والوطني إلى حافة تقارب الإفلاس السياسي، وانتهاء عند فسيفساء اليسار الذي بات يعاني من داء الشيخوخة المنبهرة بجبروت الكائن الشاب الذي طفا على السطح بكل تلك الكفاءة السياسية والأخلاقية على حين غرة!!!! ضعف اليسار وإن كان البعض يُرجعه إلى تردي رصيده الأخلاقي و بلقنة هياكله التنظيمية، إلا أن الأكيد أن غيابه عن الميدان الشعبي يعد العامل الأبرز في تشخيص الداء عند مختلف مكوناته. - الملاحظة الثالثة التي تفرض نفسها على المشهد هي الثقة الشعبية التي ما تزال حكومة العدالة والتنمية تحظى بها، تلكم الثقة التي يمكن التدليل عليها بالاستقرار السياسي العام، والهدوء في الشارع المغربي رغم مضي سنة ونصف على تنصيبها، هذا فضلا عن نتائج مختلف المحطات الانتخابية الجزئية، و إشارة مختلف نتائج استطلاعات الرأي التي أجريت إلى ما يقارب الملاحظة التي نحن بصددها، رغم ما قد يلاحظ على مدى مصداقية هكذا استطلاعات في بلد مازالت غريبة على ثقافته، وهي الثقة التي يتباهى بها بنكيران أمام خصومه حين يتحداهم بالنزول إلى الشارع، أو حين يستفزهم بقدرته على إقناع "إخوته المغاربة" بصوابية اختياراته التدبيرية حتى وإن كانت مؤلمة، خصوصا بعد أن حالفه حظ الإبقاء على هدوء الشارع إثر الزيادات التي قررها على أسعار المحروقات. - أما رابعة الملاحظات الأساسية التي قد تساعد على فك ألغاز المشهد السياسي الراهن فهي أن هناك فعلا جيوبا مقاوِمة للإصلاح تمانع مساعي حكومة بنكيران وتتسلح بكل الوسائل لعرقلة محاولاتها، خصوصا الوسائل غير الشرعية وغير البارزة والتي تتم دائما من وراء حجاب ولا تذر من ورائها ما يمكن أن يُضبط ضدها صراحة أو مع أدلة إدانة قانونية أو سياسية مُفحِمة، الشيء الذي يضطر بنكيران إلى وصف تلك الممانعات والمناورات ب " التشويش"، أو وصف ممارسيها ب" العفاريت أو التماسيح" الذين لا يمكن بحال التدليل على هوياتهم مباشرة كما يطالب بذلك المتابعون أو الخصوم. - الملاحظة الخامسة والأخيرة تتجلى في المخزن العميق الذي ما يزال يقاوم التغيير والإصلاح لأنهما يتناقضان غالبا مع مصالحه، في ظل انعدام توازنٍ للقوى مع المؤسسة الملكية التي ما تفتأ تفرض تحكمها في المشهد السياسي، وتحاول الإبقاء على نفسها كفاعل أول في الميدان، سواء من خلال الصلاحيات الواسعة جدا التي ما زال يحفظها لها دستور 2011، أو من خلال محاولة فرض تأويلات أو تقاليد غير ديمقراطية لبعض المواد، أو حتى في ظل التنازل المفرط من قبل بنكيران عن الكثير من الصلاحيات التي يخولها له الدستور في إطار مساعيه المحمومة لكسب رضى القصر، وكسب التطبيع المطلوب لحزبه الذي كان بالأمس القريب مهددا بالحل. تلكم أبرز الملاحظات المفسرة لحالة الفوضى الخلاقة التي تؤثث المشهد السياسي المغربي الراهن، والتي تحتاج كل واحدة منها بحد ذاتها إلى عين المحلل المتابع لتستقي منها عشرات الملاحظات دون أن يستطيع استشراف أي سيناريوهات متوقعة، مما ينبئ بكون الفوضى السياسية الحالية قد تكون من النوع الخلاق الذي قد يفاجئنا بإعادة خلط الأوراق، أو إفراز واقع مغاير لمغرب أقصى جديد. [email protected]