نود التوقف للتمعن بموضوعية وبما يكفي من الوضوح في حصيلة الحكومة الحالية التي يترأسها حزب "العدالة والتنمية" بعد مرور سنة ونصف على تنصيبها في سياق انتفاضات الشعوب وبداية العمل بدستور 2011، وعلى ضوء مستجدات الحياة السياسية وعلى رأسها قرار المجلس الوطني لحزب "الاستقلال" بالاستقالة من الائتلاف الحكومي وخلفيات هذا القرار وما سيترتب عنه في المستقبل. فمنذ تنصيب الحكومة الحالية والمغاربة ينتظرون التحقق الملموس للوعود الكبيرة التي قطعتها على نفسها، وبالخصوص في حالة الحزب الإسلامي في حملته الانتخابية، وعلى رأسها محاربة الفساد والاستبداد وتخليق الحياة العامة وتقوية الاقتصاد الوطني والرفع من التنافسية والحد من الرشوة والرقي بمستوى المعيشة والدخل الفردي وإيجاد حل لمعضلة البطالة وتأهيل الإدارة وتوفير التعليم والصحة اللائقين...إضافة إلى سن القوانين التنظيمية والإجراءات التشريعية التي يرتهن بها تفعيل دستور 2011 المجمّد وعلى رأسها القانون التنظيمي المفعّل لترسيم الأمازيغية وإدماجها في مجالات الحياة العامة. غير أنه وبدل الانكباب على هذه الأوراش التي تتطلب التحلي بأعلى درجات المسؤولية والحنكة السياسية والكفاءة التدبيرية والحس التشاركي، و"الجلوس إلى الأرض" وسهر الليالي للتفكير والتخطيط وإبداع الحلول...يلاحظ المتتبعون كيف تحول الزمن السياسي المغربي، وعلى امتداد السنة والنصف المنصرمة، إلى وقت ضائع لا تكاد تسمع فيه سوى الضوضاء والبولميك وكل ما يصاحبهما من الكلام، الشعبوي منه والساقط، وكيف استحالت المؤسسات الدستورية إلى مسارح تعج بمشاهد من الفرجة البهلوانية والتهريج و"حلقات" لسرد القصص والأحاجي من عوالم الزواحف والجان والعفاريت. ففيما صارت الأزمة تنخر الاقتصاد الوطني مع ازدياد نسبة العجز وانخفاض معدل النمو بنسبة غير مسبوقة، وانخفاض القدرة الشرائية للمواطنين بشكل كارثي، وما أعقب ذلك من إلغاء لميزانية الاستثمارات من الميزانية العامة للدولة بعد مناقشتها والمصادقة عليها في البرلمان، وفيما تؤكد التقارير ارتفاع نسبة ودائع المغاربة في البنوك الخارجية واستمرار تهريب الأموال، وبينما يتعاظم الشك ويتفاقم الاحتقان العام ويخيم شعور عام بفقدان الثقة في المؤسسات نتيجة التخبط الحكومي، وهو الشعور الذي لا يستثني أحدا بدءاً بالمواطن البسيط وصولاً للفاعلين الاقتصاديين والفرقاء السياسيين والاجتماعيين، والفاعلين الثقافيين والحقوقيين والشركاء الدوليين، في غضون ذلك كله لازال مسئولو الحزب الأغلبي وبرلمانيوه ونشطاء كتائبه الدعوية منهمكين في الخبط يُمنة ويُسرة وشنّ "الغزوات" على الحلفاء والخصوم ومتهمين كل من أعلن معارضة ورأيا مخالفاً أو جهر بنقد بالتآمر والتشويش والتحالف مع قوى الفساد، غير مميزين في ذلك بين حليف حكومي أو معارض سياسي وكاتب رأي مستقل، بل وصل الحد إلى الانخراط الفاعل في حملات النيل والاستهداف والتحريض ضد الأصوات الفكرية والأقلام الحرة. إنها أزمة حقيقية تؤكد فشل الحزب الأغلبي في تحمل مسؤولياته من موقعه الجديد والوفاء بوعوده الانتخابية وعجزه عن التنسيق مع حلفائه للحفاظ على الحد الأدنى من التوازن والاستقرار الكفيلين بحفظ الأمل وتحقيق التغيير في مرحلة ما بعد انتفاضات الشعوب، ليبقى السؤال المطروح هو الآتي : هل الحكومة الحالية التي أفرزها السياق المحلي والإقليمي هي حكومة لإنقاذ المغرب في سياق الثورات كما يقول حزب "العدالة والتنمية"، أم أنها حكومة تتجه به إلى الفوضى الفعلية والتأزيم والتغيير المحتوم؟ لمحاولة توضيح ملابسات الظرفية السياسية الراهنة، سنتوقف لتحليل بعض المعطيات والمستجدات، لعلنا نقترب من فهم تطورات هذا الوضع في المستقبل. لقد اختلطت الأمور على الكثير من المتتبعين لعمل الحكومة الحالية وأدائها السياسي وتدبيرها للشأن العام - ولهم كل العذر في ذلك -، فلم يعدوا يميزون بين الحكومة كائتلاف حزبي وبين "العدالة والتنمية" ووزرائه ونوابه البرلمانيين، ولم يعدوا يميزون بين الحكومة والمعارضة من داخل الحكومة وفي خطابها وردودها، حيث طغت "حكومة الفعل اللفظي" والردود البولميكية والخرجات الاستعراضية على الممارسة التدبيرية وأداء الوزراء والعمل الملموس، حتى أنه ليخال للبعض أن للمغرب ثلاثة أو أربعة رؤساء حكومة أو أن الوزراء الفعليين هم بعض نواب حزب "العدالة والتنمية" كأفتاتي وبوانو، وليس المعينين في المناصب الحكومية. " تفرسوا في وجوههم، شوفو أخوتي المغاربة، شوفو شكون لي كايحس بيكم. ولي بغا يهضر خص إيعرف أشنو فقلبو. غادي نهزمو الفلول..." هذه بعض المقتطفات من خطب السيد عبد الإله بنكيران، ليس في تجمعات انتخابية أو لقاءات حزبية، بل في البرلمان وبصفته رئيسا للحكومة ! إذا توقفنا بشيء من التحليل عند هذه التلفظات فمن الواضح أنها ترتبط في تصور المتلفظ وتنطلق من تقسيم دعوي للمجتمع والمواطنين إلى فئتين: الأبرار والفجّار، وللسيد رئيس الحكومة وحزبه وحركته الدعوية وحدهم كلمة الفصل وصلاحية منح المواطنين والمواطنات بطاقة العضوية في كل منهما! إنه لمن قبيل التكرار المملّ القول بأن هذا الكلام لا يستقيم ومقتضيات الحياة الديمقراطية خاصة بعد أن صار السيد بنكيران رئيسا للحكومة وليس "شوّافا" يقرأ كفوف ووجوه الناس ويفتش في قلوبهم ونواياهم، فبدل أن ينكب رئيس الحكومة ووزراؤه على الاضطلاع بمسؤولياتهم وصلاحياتهم وترك المواطنين يصدرون الحكم على التجربة من تلقاء أنفسهم واعتمادا على تقييمهم الملموس، آثروا الاستمرار في خطب التجييش الانفعالي والعزف على الشعور ومحاكمة النوايا تحت هاجس الحفاظ على تعاطف المواطنين دون تقديم انجازات مقنعة. وقد كانت الوسيلة الأخرى في ذلك هي اللجوء للتمويه عبر قاموس الحيوانات والعفاريت لتبرير الإخفاق وعدم القدرة على تحمل المسؤولية كاملة وتسمية الأشياء بمسمياتها وفق قواعد المسؤولية والشفافية والممارسة الديمقراطية، وهم اللذين كانوا يعلنون حتى الأمس القريب أن سعيهم للسلطة وبقائهم بها رهين بخدمة الصالح العام ومحاربة الفساد وأنهم سيعمدون لوضع "السوارت" حالما يتبين لهم عدم القدرة على الوفاء بوعودهم، غير أن الذي حصل هو أن "العدالة والتنمية" عض على السلطة ومفاتيحها بالنواجذ وهو لا يخجل من تكرار القول: "إنْ نجحنا فمنّا وإن فشلنا فمن الآخرين"! تتخبط الحكومة في أزمة داخلية مند تشكيلها، وقد تفاقمت حدتها مع توالي الشهور نتيجة لعدة أسباب منها ما ذكرناه من قبل، ومنها ما يرتبط بالاستفراد بالقرار وببعض الملفات الكبرى من طرف رئيس الحكومة ووزراء حزبه مما أشعر الأحزاب المتحالفة معه بنوع من الإقصاء والهامشية، إذ تحولت أحزاب التحالف على ما يبدو إلى مجرد قطع غيار في مركبة حزب "العدالة والتنمية" التي لا يعرفون حمولتها ولا قيادتها ولا وجهتها. قد يصعب أن نعتبر هذا الوضع هو السبب الوحيد الذي أجج مناوشات وردود فعل حزب "الاستقلال" بعد وصول السيد حميد شباط إلى أمانته العامة وتهديده المستمر بالانسحاب من الائتلاف الحكومي، كما يصعب على المواطنين الاقتناع بمبررات حزب "الاستقلال" خاصة قوله بأن دافعه الوحيد هو الحرص على المصلحة العامة. فالسيد شباط وأتباعه لا يخفون رغبتهم في إعادة توزيع المناصب الوزارية، وقد يكون تحقيق ذلك كافيا لوقف معارضتهم الداخلية وتهديدهم بالانسحاب، ولعل في التجاءهم إلى تأويل خاص للفصل 42 من الدستور بدل الذهاب إلى الاستقالة من الحكومة بكل جرأة سياسية خير دليل على ذلك. لكن كيفما كان الأمر فالمؤكد أن تطورات هذا الموضوع من شئنها كبح بعض من جماح السيد بنكيران وجماعته، وتذكير حزب "العدالة والتنمية" بأنه ليس الفاعل الأوحد وبضرورة الاستماع لمختلف الفرقاء والرقي بأدائه الحكومي إن أراد صيانة شعبيته التي من المؤكد أنه لن ينفع لا الخطاب الشعبوي ولا استعراضات برلمانييه في الحفاظ عليها إلى ما لانهاية. فقد أكدّ السيد شباط غير ما مرة على أن الهم الأساسي الذي يحرك حزب "العدالة والتنمية"، وهو لا شك يعتمد في ذلك على معطيات وأسرار من داخل الائتلاف الحكومي، هو التوغل في مؤسسات الدولة واختراق جميع بنيات التدبير والحكم وتنميط القيم ووسائل الاعلام واحتواء المجتمع المدني بغرض الهيمنة على المجتمع والسلطة. والسؤال المطروح هو ألا يتناغم حزب "العدالة والتنمية" في ذلك بوضوح مع المشروع الاستراتيجي التركماني – القطري العابر للبلدان الذي يجعل من الإسلام السياسي أداته التنفيذية ومن قضايا فلسطين وثوق الشعوب للديمقراطية شعاراته ومحركاته؟ المشروع الرامي لتحويل بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا إلى مجال حيوي للنموذج الاقتصادي والثقافي التركي ووطنا بديلاً لأثرياء النفط... ورغم أنه لم يأت بجديد في ذلك حيث سبق لمناضلي الحركة الأمازيغية أن دقوا نواقيس الخطر غير ما مرة، يحسب للسيد شباط وضوحه وصرامته في التصريح بما يهمس به غيره من السياسيين، وهي التصريحات التي قد يرى فيها البعض مزايدات مغرقة في المبالغة غير أننا حتى لو تركنا جانبا الإيديولوجية التي ينهل منها "العدالة والتنمية" وسابق مواقفه المعروفة... فإن إطلالة سريعة على المتن اللغوي والقاموس السياسي للسيد بنكيران وإخوته وتصريحاتهم يشي بأننا إزاء فكر يتماهى كليا مع خطاب الحكومات الإخوانية، وما اقتباس بعض أعضائه لعبارات "الفلول" و"قانون العزل السياسي" ...في خرجاتهم الاستعراضية سوى خير دليل على ذلك. وحتى نخلص من تحليلنا هذا الذي لم تحركه سوى الغيرة على النموذج المغربي على كل علاته، وما يتهدده في خضم تطورات السياق المحلي والإقليمي، والحاجة إلى تغيير وتطور ثقافي وسياسي حقيقي وليس إلى "انتكاسة وطنية" تبدو وشيكة، نؤكد على أننا إزاء وضعية سياسية حرجة ومنعطف تاريخي يتحمل فيه كل الفاعلين السياسيين والمجتمعيين والثقافيين جزءاً من المسؤولية، وبكيفية خاصة الأحزاب المكونة للائتلاف الحكومي وعلى رأسها الحزب الأغلبي الذي يتبدّى يوما بعد يوم أنه، وإزاء ضعف خبرته السياسية وتمرس نخبه التي لا يخفى أن مصدر التكوين السياسي لبعضها لا يتجاوز برامج قناة "الجزيرة"، وغموض مشروعها وانقسامها بين الدعوي والسياسي، وعوض التحلي بروح التوافق وملكة الإنصات للآخرين ومواجهة المعضلات الكبرى التي تهدد البلاد، لازال يفضل نهج أسلوب الهروب إلى الأمام والدفع بالأوضاع إلى مزيد من التأزيم وتغليب منطق الصدام والصلف ولغة التقريع مكرسّا بذلك لأخلاق التنميط والاستبداد التي يقول أنه جاء لإسقاطها.