يشكل محمد عابد الجابري، إلى جانب كل من عبد الله العروي وطه عبد الرحمن، علامة فارقة في تاريخ الفكر المغربي المعاصر. وذلك باعتبارهم من الفلاسفة القلائل الذين أعادوا للفكر النقدي عموما وللنظر الفلسفي خصوصا بعضاً من وهجه الذي خبا ردحا من الدهر. وتجمع مختلف القراءات التي أنجزت للمشروع الحضاري لهذا المفكر على تصنيفه في دائرة المنظرين للقومية العربية، وهو ما جعله محط تنويه من قبل البعض ومثار تجريح من قبل آخرين. غير أن الأسئلة التي لم يطرحها مشايعوه ومناهضوه على حد السواء هي: هل كان الجابري بالفعل مؤمنا بالقومية العربية ومنظرا لها؟ أم أن مشروعه بالعكس يؤسس لقومية مغايرة وبديلة؟ هل تمكنا أصلا من قراءة مشروع الجابري قراءة موضوعية؟ أم أن الجابري نفسه لم ينجح في بناء هذا المشروع وفق شروط المنهج الإبستيمولوجي الصارمة كما يدعي؟ أنا عربي... إعلان إيديولوجي يصرح الجابري في مختلف المؤلفات التي يتشكل منها مشروعه الفكري أنه "عربي الهوى" وأن رهانه الحضاري يتجلى في "إقامة وطن عربي موحد تكون فيه العروبة والإسلام المكونان الوحيدان للهوية". ففي ذروة الانحطاط والتخلف الذين أناخا بكلكلهما على منطقتي الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وتأجج الصراع الإسرائيلي – العربي، تأثر الجابري بخطاب "القومية العربية" الذي نظر له كل من زريق وعفلق والحصري والبيطار ودروزة. تأثر سرعان ما سيتعمق بفعل انبهاره العاطفي – أثناء مقامه بسوريا للدراسة بجامعة دمشق – بتحقيق وحدة لحظية سرعان ما ستنحل عراها بين مصر الرئيس جمال عبد الناصر وسوريا الرئيس شكري القوتلي تحت مسمى الجمهورية العربية المتحدة. فاعتقد الجابري أن الجابري أن تلك الوحدة المأمولة ممكنة وهي المخرج الأمثل من واقع التخلف المأزوم. مقدمة "عربية" لنتيجة "مغاربية" لكن هل استطاع الجابري فعلا أن ينسلخ من كينونته الثقافية الأمازيغية وهو الذي رضع أدبياتها وقيمها من ثدي أمه بعد أن رأى النور أول مرة بمنزل إحدى أعرق الأسر الأمازيغية في قصر "أزناكن" بواحة فيكيك؟ هل يمكننا التصديق بأن الجابري قد عصف حقا بنظرية "فرويد" السيكولوجية الناصة على الدور الحاسم لسنوات الطفولة المبكرة في إرساء الخصائص الأساسية لبناء الشخصية؟ سؤالان يبدوان دون معنى أمام حرص الجابري، كما أسلفنا، على التصريح بأن رهانه هو "وحدة الأمة والوطن العربيين على أساس تعزيز مقومي العروبة والإسلام وإماتة ما عداهما من المقومات الثقافية الأخرى". أما الطريق الذي سطره لتحقيق ذلك الرهان فهو التشديد على ضرورة تجاوز آليات "تفكير العرب" السائدة حتى اليوم ومنذ العصور الإسلامية الأولى عبر إحداث قطيعة ابستمولوجية معها وبالتالي استبدالها بآليات تفكير جديدة. حيث دعا إلى القطيعة مع "المنهج العرفاني" و"المنهج البياني" الذين لم ينتجهما سوى "عقل المشرق العربي" واستبدالهما "بالمنهج البرهاني" الذي أنتجه "العقل المغاربي". لقد وقع الجابري إذن، أمام سطوة الهاجس الإيديولوجي الذي تملكه في مفارقة كبرى. مفارقة تجلت في دعوته إلى تسييد العقل المنتج في السياق الثقافي والحضاري الأمازيغي المغاربي على العقل البياني/ العرفاني الذي أنتجه السياق الثقافي والحضاري العربي/ الفارسي المشرقي. النزعة المغاربية: الاعتراف المحتشم رغم أن الجابري لم يجرؤ على الاعتراف صراحة بأن النتيجة التي وصل إليها لا تفضي في الحقيقة إلى التأسيس للقومية العربية، بل إلى التأسيس للقومية المغاربية. إلا أنه ألمح إلى ذلك في دفاعه عن تبنيه لمفهوم "القطيعة الابستمولوجية" كما صاغه الفيلسوف الفرنسي "غاستون باشلار". فالدعوة إلى تلك القطيعة ليست في واقع الأمر إلا دعوة للقطيعة بين المشرق والمغرب بوصفهما كيانين مستقلين ومتمايزين هوياتيا وحضاريا. وهو ما حاول جاهدا أن ينفيه عن نفسه حين قال "أريد أن أرفع التباسا لست أدري من أين جاء مصدره لدى بعض النقاد، وهو ما قيل من أنني شوفيني مغربي متعصب للمغرب. أعتقد أن هذا لا أساس له إطلاقا، على الأقل في فكري ووجداني" (سلسلة مواقف عدد 15 – ص 108). إن الجابري في اعترافه هذا، وإن كان مبطنا بالنفي، كان يشير إلى الحملة التي شنها عليه بعض المفكرين المشارقة، لا سيما محمود أمين العالم وجورج طرابيشي وعلي حرب. لقد تمكن الجابري من إقناعنا بأن أصول العقل المشرقي اللاعقلاني في نسخته البيانية تعود إلى أعراب الجاهلية وفي نسخته العرفانية إلى ديانات الفرس قبل الإسلام. لكن هل كانت لديه الجرأة العلمية ليحذو نفس الحذو فيربط عقلانية المغاربة بأصولها التاريخية؟ بالتأكيد لم يستطع إلى ذلك سبيلا، لأنه كان يعرف أن النتيجة ستؤول به إلى العقل المغاربي لما قبل الإسلام، عقل أنتجه مفكرون كبار أمثال "أفولاي" و"أوغوسطين" و"يوبا الثاني" و"أرنوبوس" و"دوناتوس أمقران" و"أريوس" وغيرهم كثير. أمام هذه المفارقة التي سقط الجابري في فخها بسبب ترقية الهاجس الإيديولوجي على الهاجس الإبيستيمولوجي، ينتصب أمامنا سؤال موضوعي جديد يفرض علينا إثارته على النحو التالي: ألسنا في حاجة ماسة إلى قراءة مغايرة وجديدة للمشروع الفكري والحضاري لمحمد عابد الجابري؟