وجه الصحفي الإسباني إغناسيو سامبريرو(الصورة) رسالة إلى الملك محمد السادس تطرق فيها لموضوع تحاشي ضيوف الملك الإسباني بوجدة، إثارته رغم أنه يقلق الطرفين. "" تمحور كتاب الصحفي الإسباني حول قضية يعتبرها جوهرية حاليا، إنها "الحدود التجارية بين المغرب وإسبانيا"، وللمزيد من تسليط الضوء على هذا الموضوع أجرينا اتصالا مع الزميل إغناسيو سامبريرو وسألناه عن الغرض من توجيه تلك الرسالة في الوقت الراهن بالذات وسبل التعاطي مع ملف مدينتي سبتة ومليلية وموقف سكانها الأصليين منه، وسبب رفض إسبانيا لتفعيل خلية التفكير التي سبق وأن اقترحها الملك الراحل الحسن الثاني للحوار في هذا المضمار. لماذا توجيه رسالة إلى الملك محمد السادس في الوقت الراهن؟ وماذا كنت تنتظر من وراء ذلك؟ إن إشكالية مدينتي سبتة ومليلية موضوع عويص جدا، الملك وحده، دون سواه، هو الذي يمكنه أن يتخذ قرارات بهذا الخصوص، وهناك مثل شعبي إسباني يقول: "من الأفضل التوجه إلى الله عوض اللجوء إلى أوليائه الصالحين"، وهذا أمر منطقي لا غبار عليه. علاوة على أن تلك الحدود (بين شمال المغرب والمدينتين) هي بمثابة وصمة عار في جبين البلدين معا، المملكتين المغربية والإسبانية، وقد أضحى المرء الآن يشعر بالإذلال أو التحقير حين يمر عبر هذه الحدود. فؤاد عالي الهمة، نفسه، عندما كان وزيرا منتدبا بالداخلية، مر من هذه التجربة المريرة وخبر مسألة الإذلال هذه، ولو لبضع لحظات. كما أن المغاربة المقيمين بالخارج قالوا الكثير بهذا الخصوص، والملك محمد السادس مشغول البال كثيرا بما يلاقيه رعاياه في هذا المضمار. لقد نشرت مؤخرا ورقة بالجريدة الأولى قدمت فيها أفكارا ومعطيات مماثلة لما كتبت في مقالات نشرتها في جريدة "إلباييس" موجهة إلى الرأي العام الإسباني (بخصوص هذا الموضوع). وأملي أن يفكر أهل ضفتي مضيق جبل طارق في سبل تطهير العلاقات بين المدينتين وشمال المغرب من كل الشوائب التي من شأنها أن تنغص الحياة على الطرفين. إن بلدينا يعيشان الآن "شهر عسل"، وهذا ما تعكسه التصريحات المتبادلة بين السلطات في كل من الرباطومدريد، فلما تصلح مثل هذه التصريحات إن لم تساهم في الحث على الشروع في التفكير في حل المشاكل التي يعرفها الجميع؟ ومع الأسف الشديد ما نعيشه هو "شهر عسل" دون "حفل زفاف" حقيقي، وهذا مؤسف حقا، لأننا ضيعنا الأهم. هل من الممكن أن تشكل مدينتا سبتة ومليلية "هونغ كونغ" إفريقيا؟ في واقع الأمر تعد العلاقات بين مدينتي سبتة ومليلية وشمال المغرب ذات طبيعة طفيلية بامتياز. إنهما "تصدران" المواد المهربة وتجلبان رؤوس أموال بطريقة غير شريفة أحيانا. والحالة هذه فإن الوضعية الحالية تخدم مئات الآلاف من المغاربة (445 ألف) حسب غرفة التجارة الأمريكية بالدار البيضاء الذين يعيشون بواسطة التهريب والحرف "الرديئة" المرتبطة به، وهذا أمر غير لائق، وبالتالي من الضروري تطهير هذه العلاقة. فسبتة ومليلية ليستا "هونغ كونغ"، كما أن المغرب ليس هو "الصين". لكن يمكن لهاتين المدينتين أن يساهما في تنمية شمال المغرب بطريقة مغايرة، دون تكريس التهريب وفرص الشغل "الرديئة" المرتبطة به، ويمكنهما خلق فرص شغل مغايرة ومختلفة، لاسيما في المجال السياحي على سبيل المثال لا الحصر. كما يمكن التفكير في إنجاز بنيات تحتية ضخمة مشتركة، مثل مطار مشترك بين تطوانوسبتة مثلا ممولا من طرف إسبانيا أو الاتحاد الأوروبي في إطار السياسة الجديدة للجوار. لكن، ألا تعتبر أن الملك محمد السادس مضطر إلى المطالبة باسترجاع المدينتين كما يدعو إلى ذلك أغلب المغاربة حاليا؟ إن الملك محمد السادس يختلف عن والده، ولم يطالب بالمدينتين إلا في مناسبتين اثنتين، في يوليوز 2002، بعد حادثة جزيرة ليلى، وفي شهر نوفمبر 2007 عندما قام ملك وملكة إسبانيا بزيارة مدينتي سبتة ومليلية، وهما مناسبتان لإحراج إسبانيا بخصوص وضعية المدينتين ليس إلاّ. هل هذا يعني أن الملك الحالي أقل "وطنية" من والده؟ قطعا، كلا، لأن الملك محمد السادس يعتبر أكثر برغماتية وحداثة، ويرى أن الأولوية حاليا يجب أن تنصبَّ على تنمية الأقاليم الشمالية التي عانت كثيرا من التهميش في عهد الحسن الثاني لأسباب سياسية، بحيث يعتبر الشمال الجهة المغربية التي عرفت أكبر تحول، غير مسبوق، منذ اعتلاء الملك العرش سنة 1999. هل يشارك السكان الأصليون للمدينتين (من أصل مغربي) في بلورة القرارات وفي التدبير المحلي؟ أي هل يشعرون بأنهم مندمجون؟ لا أعرف هل يشعرون بذلك، لكن أعلم أن أغلب مسلمي سبتة ومليلية يفضلون أن يظلوا تابعين لإسبانيا، مثل ما حدث بخصوص سكان جبل طارق مع بريطانيا للأسف الشديد.. دليلي على هذا القول، أنه توجد بالمدينتين أحزاب سياسية قاعدتها مشكلة من المسلمين، وأغلبها محسوبة بامتياز على المعارضة للحزب الشعبي الحاكم بإسبانيا حاليا، إلا أنها (أي هذه الأحزاب) لم يسبق لها أن عبرت عن رغبتها في الارتباط بالمغرب في أي وقت من الأوقات. لماذا في نظرك؟ في اعتقادي هناك مجموعة من الأسباب، لكن أهمها هو أنهم يتصورون، سواء كانوا إسبانيين أو مغاربة مقيمين بمدينتي سبتة ومليلية، أن الرفاهية المادية والاقتصادية النسبية التي يستفيدون منها سيكون مآلها الزوال إذا ما استرجع المغرب سبتة ومليلية، وكانت أحداث سيدي إفني مناسبة لجعل من يَِشُكُّون في هذا الأمر يعاودون التفكير فيه بجدية. لماذا لا ترغب إسبانيا في تفعيل خلية التفكير التي اقترحها الملك الحسن الثاني؟ بكل بساطة لأن الإقرار بخلية تفكير في الموضوع يعني وضع الأصبع على تشابكات متداخلة مآلها الحتمي فتح حوار أو مفاوضات بخصوص تحويل السيادة، وهذا أمر لا تقبل إسبانيا حتى سماعه، وهو الرأي السائد إلى حد الآن. استرجاع سبتة ومليلية.. إشكالية عويصة "إن الأمة التي لا تعرف ماضيها تتمزق في حاضرها وتعرف الذل والتحقير والبخس والإهانة في مستقبلها"، هذا ما سبق وأن أدلى به ل "المشعل" عبد الكريم الفيلالي صاحب موسوعة "التاريخ السياسي للمغرب الكبير"، والذي يعتبر أنه كان من اللازم أن تتحرر سبتة ومليلية عندما تحرر المغرب ولو كان من الضروري شن حرب من أجلها آنذاك، لكنهم قالوا للحسن الثاني، وقتئذ، إن جبل طارق بيد بريطانيا ويوم سيتم تحريره سوف تتحرر المدينتين السليبتين، واقتنع بالأمر. آنذاك لم يفكر الملك الراحل في الموضوع وإنما فكر فيه آخرون مكانه. في الوقت الذي انشغلت فيه بلادنا بملفات كبيرة ظلت قضية استرجاع المدينتين السليبتين لا تحظى بالأولوية، وبقيت ترجأ المرة تلو الأخرى، آنذاك كانت إسبانيا تولي الأمر أهمية بالغة وتستعد لتوفير كل الشروط الممكنة لتفويت الفرصة على المغرب للمطالبة باسترجاعهما، كما عملت على دعم سيرورة تؤدي إلى دفع السكان الأصليين للمدينتين السليبتين إلى عدم التحمس لربط المدينتين السليبتين بالسيادة المغربية. والحالة هذه، تبدو العلاقات الاقتصادية بين المغرب وإسبانيا جيدة، بدليل نشاط الاستثمار الإسباني ورجال الأعمال الإسبان بين ظهرانينا، وباعتبار أن إسبانيا شريكنا الاقتصادي الثاني، لكن فيما يخص المجال السياسي والدبلوماسي، لازالت هناك ثغرات مهمة بسبب اختلافات عميقة، بعضها بنيوي، تمتد جذوره في أعماق التاريخ. تظل قضية سبتة ومليلية وبعض الجزر المحاذية عالقة بين السماء والأرض، تتم إثارتها باحتشام بين الفينة والأخرى أو تستعمل في نطاق ردود الأفعال بغرض الإحراج ليس إلا. لكن ماذا تريد إسبانيا؟ إن إسبانيا لا ترغب مطلقا في إعادة المدينتين السليبتين، سبتة ومليلية، وهذا أمر لا غبار عليه، ولا يخامر المرء بخصوصه أدنى شك، فأقصى ما قد تصل إليه الجارة الإسبانية، الموافقة على استفتاء ترعاه الأممالمتحدة، لاسيما بعدما نجحت، وبامتياز، في "أسبنة" المدينتين، لذلك فإنها ترفض إجراء أي حوار بخصوص هذا الملف حاليا مهما كان الأمر. علما أن المغرب تحاشى لحد اللحظة تسجيل قضية سبتة ومليلية لدى لجنة تصفية الاستعمار التابعة للأمم المتحدة (اللجنة الرابعة) معتبرا المدينتين السليبتين والجزر المحاذية جزءا لا يتجزأ من ترابه، جانحا نحو استخدام آلية التفاوض الثنائي المباشرة كما حصل بخصوص طرفاية وسيدي إفني والصحراء آنفا. لكن السؤال المركزي الخطير الذي يظل مطروحا، علما أن الجواب عليه يعتبر حاسما في الأمر، هو: هل يوافق سكان المدينتين السليبتين الأصليين على العودة تحت السيادة المغربية؟ وهل يفضلون انتماءهم للمغرب على انتمائهم الأوروبي؟ في انتظار التأكد من فحوى الجواب تسير إشكالية المدينتين السليبتين نحو المزيد من التعقيد. مما يزيد من تعقيد هذه القضية، أن سبتة ومليلية أصبحتا تعتبران الآن ذات أهمية خاصة جدا في الاستراتيجية الأطلسية (الناتو)، لقد نصّت معاهدة "شينجن" صراحة، وبدون لف ولا دوران، أن المدينتين المذكورتين هما الحدود الجنوبية لأوروبا، وبذلك ربحت إسبانيا التأييد الأوروبي والأطلسي لاحتلالهما. وفي مايو 1998 تم الكشف عن مضمون وثيقة سرية للحلف الأطلسي تبين تحويل سبتة ومليلية إلى قاعدتين للتدخل في المغرب وشمال إفريقيا في إطار المخطط الأمني الاستراتيجي لحلف الناتو. في بداية القرن العشرين حاول سكان المدينتين السليبتين التمرد، وبين عامي 1921 و1926 حاول محمد بن عبد الكريم الخطابي توسيع فتيل ثورته التي شملت سبتة ومليلية، إلا أن إسبانيا تصدت لها بالتحالف مع دول أوروبية، كما حاول الجنرال فرانكو، لاستمالة سكان المدينتين لِصَفِّه خلال حربه ضد حكومة الجبهة الشعبية، وعدهم بالاستقلال لكنه لم يف بوعده بعد انتصاره في الحرب الأهلية الإسبانية سنة 1936. وفي منتصف سبعينات القرن الماضي التزمت بلادنا بعدم طرح ملف سبتة ومليلية والجزر المحاذية قبل مرور عشر سنوات على اتفاقية مدريد (1976)، وكان ذلك من البنود السرية فيها. خلال هذه الفترة، وما تلاها، تحركت آليات "أسبنة" المدينتين السليبتين ومنع "المغاربة الإسبان" والمغاربة من امتلاك العقارات بسبتة ومليلية، وأُبعد بعضهم وطُبّق قانون الأجانب المقيمين بهما (السكان الأصليون غير الحاملين للجنسية الإسبانية)، فكانت "انتفاضة" يناير 1987 التي سقط فيها شهداء، آنذاك اقترح الملك الراحل الحسن الثاني تكوين خلية مشتركة للحوار بين البلدين حول مستقبل المدينتين، سبتة ومليلية والجزر المحاذية، إلا أن مدريد رفضت الفكرة، جملة وتفصيلا، ومازالت ترفضها إلى الآن، ومازالت بلادنا لا تعبر عن موقفها إلا عندما تدعو الظروف إلى ذلك قصد الإحراج ليس إلاّ.