مما لاشك فيه، أن فعل القراءة ليس كمثله شيء في الحياة، خصوصا في ،الوقت الراهن، نظرا لتهافت الناس ليل نهار على ملذات الجسد ومطامحه اللامحدودة، مٌقبلين بلهفة، قل نظيرها على الصورة الإعلامية، هذه الأخيرة، أخضعت الناس أجمعين، لإغراءاتها الساحرة التي لا تتطلب بذل أي جهد أو عناء في سبيل فهمها واستيعابها، في هذا الظرف الحساس، تبقى لل(قراءة) الممعنة والبطيئة والواعية دلالات لا حصر لها وتأثيرات ايجابية على النفس والعقل وعلى سائر سيمات شخصيتنا ومزاجنا. والشيء الذي يُضفي على "القراءة" ميزة خاصة هو تلك الطقوس الجميلة التي تذهب تبعا مع (الصديق ذو الجناحين) بحيث كلما تعمق فينا فعل القراءة كلما زادت كذلك طقوسها التي تؤثث لجلسات وردية المقاطع، وسرمدية التفاصيل، تأخذ بألباب قلوبنا وأرواحنا إلى عوالم استثنائية /شاعرية لا يستطيع ولوجها إلا من خبَر أسرار القراءة وذاق حلاوتها الفريدة من نوعها. فمن هذه الطقوس نجد الاستماع إلى سمفونية صامتة أو موسيقى كلاسيكية في فضاء/نادي أدبي هادئ حيث جداول المياه تنهمر، وبين الفين والآخر نرمق حركات الناس، ونرتشف قهوتنا المفضلة، لينسكب في أعماقنا "الإلهام" دفعة واحدة ومن ثم نخط بيميننا خواطر تؤرخ لأوقاتنا الرائعة ، وتنغرس في ذاكرتنا ك"وشم" Tatouageفكم من القراء الأوفياء للكتاب صاروا كتابا عظاما ذووا شهرة كبيرة بأقلامهم وأساليبهم النادرة، بحيث أثرت فيهم طُقوس القراءة بشكل عجيب ولا يصدق. ذلك، أن الانهماك في فعل القراءة والصبر لساعات طوال للاستمتاع بلذة المعاني والأفكار، في منأى عن الأصدقاء والأحباب لًهُو (انجاز عظيم)ٍ Exploit ، لا يتقنه إلا (العظماء) القلائل كما أن الانخراط الكلي في (فعل القراءة) بالاستزادة من فوائدها الجمة ، يٌساعدنا كثيرا على تحمل نوائب الدهر ونتعلم ،في ذات الوقت، من خلالها وعبرها، قيما وأخلاقا، لأن في حقيقة الأمر أنه عندما نشرع في فعل القراءة، ينبغي احتراما للكتاب وتقديسا له، أن نرتدي أحسن وأجمل الثياب ونختار بعناية أزكى العطور، للقيا أعز الأصدقاء الذين نٌحبهم. وعليه، فإن اختيارنا للكتاب المتميز كما اختيارنا لأحسن صديق في الحياة ويُصبح الكتاب عليه إذن استاذنا وفقيهنا ومرشدنا لتقديمه لنا نصائح غالية وفهومات جمة تسعفنا في حل ألغاز مشاكلنا واجتياز كل الصعاب بسهولة ويٌسر، محققين بذلك النجاة في حياة، اليوم، التي تضج برزمة من الأسئلة المقلقة المتمثلة في غياب أبسط شروط العيش الكريم والتحصيل العلمي التي تحول دُون تذوق حلاوة العيش في دٌنيا الناس. كما أن بالكتاب الجاد و(النوعي) وبفضله يٌمكن أن نغير تفاصيل حياتنا المملة والقاتمة إلى وضع أفضل وأحسن يليق بآدمية (الإنسان) الذي كرمته الشريعة الإسلامية، وبوأته المكانة الاعتبارية، التي بواسطتها حاز شرف (الخلافة) في الأرض، ليقوم بأدواره الطلائعية المنوطة به المتجسدة في بناء وإقامة صرح (الحضارة) الراشدة، مستعينا في ذلك بالوحي القرآني الداعي إلى (الإصلاح)، والى نشر القيم الغالية حفاظا على سٌمعته وصورته أمام الله سبحانه الذي دافع عن (الإنسان)، وأحسن الظن به، عندما قالت الملائكة مُخاطبة رب الأرض والسماوات (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونُقدس لك" البقرة، ليٌجيبهم سبحانه "قال إني أعلم ما لا تعلمون" الآية. وتُساهم أيضا القراءة والإدمان على تعاطيها في أن تصير أحاسيس الإنسان جد مرهفة ورقيقة، وتسعفه في الإقبال على الحياة بكل فرح وأمل، متحكما في طباعه الغليظة، ومٌلجما لشيطانه الوسواس، ونتيجة لذلك، ينعكس حبنا للقراءة على نظرتنا (للحياة)؛ التي تُصبح نظرة تفاءلية ،فنسعد أيَما سعادة بخيراتها ونقدس جمالها، ويتكدس في قلوبنا، إذن، حب مزدوج. إذن، دُون مُواربة، القراءة تعمل على إيقاظ إحساساتنا الجميلة ويفيق ذلك الشاعر الراقد في أعماقنا، ونترفع بتصرفاتنا وسُلوكياتنا عن كل ماهو سمج وقبيح، والسر المرمًز، هاهنا، يكمن في سطوتها اللامحدودة وجاذبيتها الأخاذة. إن الإيغال في تضاريس الكتب، بطواعية وبدون توقف وطلب حلاوتها يوم بعد آخر، وسنة بعد أخرى، نكتشف مع مرور الأيام، أننا ابتعدنا عن السفهاء والمنافقين ومٌمتهني الثرثرة من مخلوقات الله المكدسون هذه الأيام في الساحات والميادين والأزقة، لأننا ندخل أنفسنا في عزلة وهدوء مُطبقين، من خلال تأسيسنا لعوالم (القرائية) (والمثالية) من خلال مٌصاحبتنا لنخبة من الأدباء والمفكرين والشعراء؛ أي مع الرجال الحقيقيين والقابضين على المبادئ والأخلاق وليس مع أنصاف الرجال، ذوي القلوب والعقول المريضة الذين فرضهم علينا هذا الواقع الموحش والبائد فرضا. هكذا، ننسى رويدا، رويدا وجود هؤلاء من حياتنا المثالية وعالمنا البهيج، فنذوب في الفضاء والزمان المتخيلين، مٌرغمين، في ذات الآن، أحزاننا وعذاباتنا وجروحنا الغائرة، على التلاشي والاضمحلال، وتٌمحى كذلك سيناريوهات ذكرياتنا الأليمة التي تقض مضاجع بعضنا متمسكين بالحياة ولاشيء آخر، سوى الحياة.