لم يكن حادث مصرع 28 من العاملين بورشة للخياطة بطنجة ليمر دون أن نتطرق للآثار المترتبة عنه، سواء تلك المتعلقة بالضحايا وذويهم أو بصاحب الورشة. فكما هو معلوم أن الوقائع في مجملها تعود إلى مياه الأمطار التي غمرت الفضاء تحت ارضي للورشة والتي كان يتواجد بها العمال، وذلك في زمان قياسي لم يتمكن اغلبهم من الخروج وهو ما عرضهم للموت بالاختناق. ودون التوغل أكثر في تفاصيل الواقعة ومجرياتها، فما يهمنا ضمن هذا الموضوع هو تحديد المسؤوليات وترتيبها، علما أن الحادثة يتعدد المتدخلون بها بشكل مباشر أو غير مباشر وهو ما يفرض علينا كباحثين إبراز حدود ومسؤولية كل جهة ومستوى تدخلها في وقوع الحادثة وذلك من منطلق ما ينص عليه القانون. فقبل الخوض في ربط المسؤولية المباشرة للمسؤول عن الحادثة وبحث عناصرها القانونية، كان لا بد من التطرق إلى مستويات تدخل كل جهة، وذلك من المنظور القانوني أساسا وهو ما سنتولى إبرازه من خلال هذا الموضوع. أولا: المسؤولية القانونية للمشغل غني عن البيان أنه وبعد وقوع الحادثة سيطرح النقاش حول قانونية الورشة من عدمها وهو نقاش منطقي، ما دام أن الأنظمة التشريعية المؤطرة لعمل المقاولة صارمة في هذا الصدد، وذلك لأجل حماية العاملين بها من الأخطار الممكنة التي قد تصيبهم أثناء مزاولة مهامهم داخل المقاولة. بيد أنه بالرجوع إلى واقعة الحال فإن كل الدلالات المحيطة بالحادث تصب في اتجاه أن سبب الوفاة كان بفعل المياه المتدفقة من المجرى الخارجي، وهو ما يخرج من دائرة الأخطار المهنية التي قد تدخل في مجال العمل أو الأنشطة المهنية ذات الصلة بعمل المقاولة، (الوفاة كانت بفعل سبب خارجي غير متوقع ويستحيل دفعه) وهو ما يخلي المسؤولية المباشرة للمقاولة ويبرئ ساحتها في حدوث الواقعة، كما أن المشغل يبقى مسؤولا من الجانب الوظيفي وذلك إذا زعمنا أن مقاولته تشتغل خارج نطاق المقتضيات القانونية والتنظيمية الجاري بها العمل، وهو أمر قد يكون مستبعدا ما دام صاحب الورشة يتوفر على شهادة التسجيل بالسجل التجاري، حيث أن مقتضيات المواد 37 و45 من مدونة التجارة تلزم المشغل من اجل التسجيل بالسجل التجاري التوفر على الشهادة السلبية المسلمة من المكتب المغربي للملكية الصناعية والتجارية، بالإضافة إلى شهادة التسجيل في جدول الضرائب المهنية (الباتنتا)، ثم التوفر على نظام أساسي للشركة، بالإضافة إلى سند قانوني يبرر توفره على العقار المخصص لمزاولة نشاط المقاولة (عقد كراء المحل، شهادة الملكية..)، إذن من هذا المنطلق فالوضعية القانونية للشركة سليمة ما دامت تشتغل وفق هذه الصيغة وتتوفر على هذه الوثائق. وفي السياق نفسه، فاشتغال المقاولة لمدة تفوق أربع سنوات وبتصريح العمال الناجين، والذين أكدوا أن مشغلهم سبق له أن صرح بهم لدى مصالح إدارة الضمان الاجتماعي، يعزز من فرضية أن المشغل في وضعية قانونية سليمة، وما يعزز هذا الطرح مقتضيات المادة 135 من مدونة الشغل، والتي حددت الشروط القانونية لفتح المقاولة والتي عددتها مقتضيات المادة 1 من مرسوم 29 ديسمبر 2004، التي تنص ضمن الشروط الواجب توفرها من قبل المشغل قبل فتح المقاولة هو تسجيل الأجراء لدى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، وهو شرط جوهري وأساسي، كما أنه وعلى فرض أن المشغل تملص من تسجيل بعض الأجراء لدى المؤسسة المذكورة، فمصالح مفتشية الشغل تبقى مسؤولة عن تقصيرها في بسط رقابتها ما دامت مقتضيات المواد 530 و532 من مدونة الشغل تلزم هذه الأخيرة بالسهر على تطبيق المقتضيات القانونية والتنظيمية المتعلقة بالشغل، ومن جملتها حماية الأجراء، وذلك بإلزام المشغل بتسجيلهم لدى مؤسسة الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، ناهيك عن الشروط الأخرى المرتبطة بالبيئة العامة للمقاولة ،بيد انه في حالة تسجيل أي مخالفة من قبل المشغل فمدونة الشغل تعرضت للجزاءات المقررة في حق المخالف حسب مدلول المادة 137 من المدونة، فمن خلال ما سبق يتضح أن التقصير في تسجيل الأجراء إن وجد يبقي مسؤولية المشغل ثابتة ويعرضه للمسائلة القانونية، غير أن هذا لا يعفي مسؤولية مفتشية الشغل في بسط رقابتها والتقصي والبحث عن مثل هذه المخالفات في جميع المقاولات دون استثناء، وما ينبغي التأكيد عليه هو أن هذا النقاش لا ينبغي أن يطغى على النقاش الحقيقي المتمثل في البحث عن المسؤول المباشرة في وقوع الحادثة، ومن يتحمل تبعات تعويض الأضرار المادية والمعنوية ،فجميع القرائن تفيد بأن السبب المباشر للوفاة كان هو تدفق مياه الأمطار من خارج الورشة، وهو ما يقودنا إلى بحث مستوى تدخل الأجهزة الوصية على صيانة مجاري مياه الصرف الصحي، وهو ما سنتطرق إليه في الفقرة الثانية. ثانيا: المسؤولية القانونية للجهة الوصية على تدبير قطاع الصرف الصحي تفيد جميع القرائن بأن السبب الحقيقي والمباشر للوفاة كان بسبب تدفق مياه الأمطار إلى داخل الفضاء تحت أرضي للورشة في وقت قياسي، مما عرض العمال إلى المحاصرة وحال دون استطاعتهم الخروج، الشيء الذي عرضهم للموت بالاختناق، إذن أمام هذه الوقائع الثابتة والمؤكدة بشهادة الناجين والجوار، بل حتى رجال الوقاية المدنية، والتي تذهب في اتجاه أن السبب المباشر يعود إلى اختناق بالوعات المياه وعدم قدرتها على استيعاب مياه الأمطار، مما جعلها تنحصر داخل المجال تحت أرضي للبناية التي تشغلها ورشة الخياطة، هذه الوضعية تبرز الدور الذي يجب أن تقوم به المصالح المخول إليها تدبير قطاع الصرف الصحي وصيانته، وفي نفس السياق لا بد من التطرق إلى الإطار القانوني الذي ينظم طبيعة تدخل الجهة الوصية على مرفق التطهير السائل وتحديد مسؤوليتها، فكما هو معروف أن مقتضيات الميثاق الجماعي الصادر بتاريخ 18 فبراير 2009 بمقتضى القانون 17/08، قد أفردت مجموعة من المقتضيات تحدد بوضوح دور الجماعة الترابية في تدبير مجال الصرف الصحي هذا من جهة، ثم مجال تدخلها بخصوص منح التراخيص لإقامة المشاريع والأنشطة ذات الطبيعة المهنية والحرفية من جهة أخرى، حيث أشارت المادة 36 من نفس القانون على أنه (يقوم المجلس بالأعمال اللازمة لإنعاش وتشجيع الاستثمارات الخاصة ولاسيما انجاز البنيات التحتية والتجهيزات وإقامة مناطق للأنشطة الاقتصادية وتحسين ظروف المقاولات) كما تنص المادة 38 من الميثاق الجماعي على دور المجلس الجماعي بخصوص احترام الاختيارات والضوابط المقررة في مخططات توجيه التهيئة العمرانية، فمن هذا المنطلق تبرز مسؤولية الجماعة في ما يخص تقصيرها في منح تراخيص أو عدم ضبطها للمخالفات -كفتح ورشة داخل فضاء سكني علما أن مخططات التهيئة تفرض على الجماعة تشييد فضاء للأنشطة المهنية والحرفية والصناعية خارج المجالات السكنية، ولا سيما تلك التي تشغل أعدادا لا باس بها من الأجراء-.إن هذا التقصير يبقي المسؤولية الإدارية للجماعة الترابية قائمة في عدم ضبطها للمجال الترابي الخاضع لها بشكل ينسجم مع القانون، وفي نفس السياق وبخصوص المادة 39 من الميثاق الجماعي، والتي تنص على مسؤولية الجماعة في ما يخص خدمات التطهير السائل، وهو ما يهمنا ضمن هذا النقاش اعتبارا أن الوفاة كانت نتيجة الاختناق بسبب تدفق المياه بشكل جارف في اتجاه المجال تحت أرضي للبناية التي كان يوجد بها الضحايا، بفعل انسداد أو عدم قدرة بالوعات المياه على استيعاب تلك الكمية من المياه، وذلك إما بسبب عدم صيانتها بشكل دوري أو قدمها أو طاقتها الاستيعابية غير المتناسبة مع الفضاء السكني، لكن رغم هذه الإحاطة القانونية بكون أن تبعات المشكلة تقع على عاتق الجماعة الترابية لكون أن المواد القانونية تبرز مسؤوليتها في صيانة وتأهيل المجاري المائية، غير أن هذه الأخيرة ترتبط مع إحدى الهيئات المعهود إليها تقديم هذه الخدمات في إطار اتفاقية التدبير المفوض، وهو ما تنظمه المقتضيات القانونية للقانون 05/54 المتعلق بالتدبير المفوض للمرافق العمومية، حيث تنص المادة 24 من هذا القانون على أنه (يدبر المفوض إليه المرفق المفوض على مسؤوليته ومخاطره ويشمله بالعناية اللازمة)، من هنا تبرز الجهة التي تضطلع بدور تدبير مرفق التطهير السائل، كما تتضح مسؤوليتها عن جميع الأخطار الناتجة عن أخطائها أو تقصيرها في تقديم هذه الخدمات، كما أن مقتضيات المادة 28 من نفس القانون تؤكد هذا الطرح (يجب على المفوض إليه ابتداء من دخول عقد التدبير المفوض حيز التنفيذ أن يغطي طيلة العقد مسؤوليته المدنية والمخاطر التي قد تترتب على أنشطته بواسطة عقود تامين مكتتبة بصفة قانونية)، من هنا تبرز بجلاء أن المسؤولية المدنية عن جميع الأضرار اللاحقة، والتي تتحمل تبعتها الشركة المفوض إليها خدمة مرفق التطهير السائل، وهو ما سنتطرق إليه بإسهاب في الفقرة الموالية. ثالثا: أساس المسؤولية المدنية والجهة القضائية المختصة تنص المقتضيات القانونية المنظمة لقواعد المسؤولية المدنية في الفصول 77 و78 من قانون الالتزامات والعقود المغربي، على أن عناصر المسؤولية التقصيرية تتطلب توفر عنصر الخطأ وعنصر الضرر والعلاقة السببية بين هذين العنصرين حتى يتسنى المطالبة بالتعويض، ولإبراز أساس هذه المسؤولية فالفقه القانوني في المغرب ينحو في اتجاه أن المسؤولية أساسها الخطأ الواجب الإثبات من قبل المتضرر، وهو ما تنص عليه الفصول 77 و78 من ق ل ع، حيث أن الجهة المتضررة ملزمة بإثبات الخطأ في جانب المسؤول أي الجهة المفوض إليها وإثبات الضرر الحاصل نتيجة ذلك الخطأ والعلاقة السببية بين هذه العناصر، وتأسيسا على ذلك فالخطأ في واقع الحال يتجسد في إثبات الإهمال أو التقصير في صيانة بالوعات ومجاري المياه أو عدم إصلاحها، علما أن هذه الفترة هي فصل الأمطار تكون الاحتمالات واردة لاختناق وتكدس وطمس المجاري والبالوعات، وهذه الخدمة هي من صميم مسؤولية المفوض إليه، إذن فطبيعة هذا الخطأ التقصيري يدخل ضمن مجال الأخطاء السلبية والتي تحصل نتيجة الإخلال بواجبات قانونية، وهو ما تؤكده مقتضيات الفصل 78 من ق ل ع حيث عرفت الخطأ بأنه (هو ترك ما كان يجب فعله أو فعل ما يجب الإمساك عنه وذلك من غير قصد لإحداث الضرر) ولإثبات هذا الخطأ وجب إثباته بجميع وسائل الإثبات، منها القرائن وشهادة الشهود ولا سيما خبرة فنية يعهد بها إلى مكتب مختص في الهندسة المدنية. كما أن إثبات الخطأ لا يعفي المتضرر من إثبات الضرر الحاصل له نتيجة هذا الخطأ، فالضرر كما عرفه المشرع المغربي من خلال الفصل 98 من ق ل ع هو (الخسارة التي لحقت المدعي فعلا والمصروفات الضرورية التي اضطر أو سيضطر إلى إنفاقها لإصلاح نتائج الفعل الذي ارتكب إضرارا به وكذلك ما حرم من نفع في دائرة الحدود العادية لنتائج هذا الفعل) هذا التعريف الذي أورده القانون يصب في اتجاه أن ذوي الضحايا لهم جميع الصلاحيات لإثبات تضرر ذمتهم المالية بفعل فقدان أحد ذويهم، فواقعة الحال ومن خلال عدد الضحايا الذين هلكوا داخل الورش والبالغ 28 شخصا من مختلف الأعمار، وهو ما ينبغي تأكيده بشواهد الوفاة والشواهد الطبية المسلمة من قبل المصالح الطبية بالمستشفيات العمومية، وما ينبغي التأكيد عليه هنا، هو المكانة التي يشغلها الهالك داخل أسرته باعتباره المعيل المادي لها، لذلك فالضرر المادي واضح نتيجة فقد هذا المورد المالي، لدى يتوجب على ذوي الحقوق (الزوج أو الأب أو الابن) تقديم جميع وثائق الإثبات، كشهادة العمل وشهادة الأجر لتحديد حجم الضرر المادي، ناهيك عن الضرر المعنوي البالغ، والذي لا يمكن إنكاره جراء حدوث الوفاة وفقدان أحد أفراد الأسرة، وتضرر الحالة النفسية والمعنوية اعتبارا للمكانة الرمزية والإنسانية للفقيد داخل الأسرة. بيد أنه هناك من سيدفع في اتجاه أن الجهة المفوض إليها لا حول لها أمام نسبة التساقطات المطرية غير المتوقعة، وهو ما يدخل في إطار القوة القاهرة، مما يعفي ذمة الشركة من أي تعويض، لكن هذا الطرح يتعارض كليا مع مقتضيات الفصل 269 من ق ل ع، والتي عرفت القوة القاهرة بأنها (هي كل أمر لا يستطيع الإنسان أن يتوقعه كالظواهر الطبيعية ولا يعتبر من قبيل القوة القاهرة الأمر الذي كان من الممكن دفعه) فمن خلال هذا النص، يمكن القول إن الأمطار تساقطت في فصل الشتاء، وهو يعني أن المساءلة تخرج من باب غير المتوقع، اعتبارا لكون أن هذه المدة من السنة تعرف اضطرابات جوية وتغيرات في الطقس غالبا ما ينتج عنها تساقطات كثيفة، وهو ما يبقي مسؤولية الجهة المعنية قائمة. وبخصوص المحكمة المختصة للنظر في هذا النزاع، فالأمر منوط للمحكمة الابتدائية التي وقع داخل دائرتها الفعل الضار استنادا إلى مقتضيات الفصل 28 من قانون المسطرة المدنية، كما أن الطبيعة القانونية للجهة المتسببة في الضرر كونها تتوفر على الشخصية المعنوية تنتمي إلى فئة أشخاص القانون العام، وإن كانت طبيعة الخدمة المقدمة تعد خدمة عمومية، إلا إن ارتباطها بمقتضى عقد التدبير المفوض يخرج الجماعة الترابية من دائرة المسؤولية ويعرض هذه الأخيرة للمساءلة، كما أن مقتضيات المادة 28 من قانون 25/54 تؤكد أن الجهة المفوض إليها ملتزمة بالتأمين عن جميع الأخطار التي قد تترتب على أنشطتها، لذلك وجب إدخال شركة التأمين باعتبارها مسؤولا مدنيا.