تُطْلعُنا الأديبة المغربية الدكتورة لطيفة حليم على جديد مغامراتها في زمن الوباء، وتحديدا أول جمعة من سنةِ 2021. حيث تُطل علينا من منزلها بمونتريال، داخل فضاء مختبرها الإبداعي، وهي تعمل بهمة ونشاط لكي تُقدم لقرائها سلسلة من السرديات، والمحكيات، والمطارحات النقدية، وقصص الحياة اليومية... فضلا عن ذلك، فهي أيضا عاشقة لفن تأثيث الفضاءات، والأمكنة، والبحث في هندسة المنازل، والتقاط الصور الفوتوغرافية للوحات الفنية، والتحف... ويكشف لنا هذا العشق الإبداعي ولع الأديبة لطيفة حليم، بتجديد عوالمها المسكونة ذات الحضور الواقعي، لكي تتحول إلى عوالم أخرى مُتخيّلة من صميم التجريب الذهني للذات المبدعة. وقد كان للمطبخ المغربي نصيبا من العشق الإبداعي، واللذة البحثية عند أديبتنا، ولاسيما بتسليطها الضوء على أكلة الكسكس المغربي. هذه الأكلة، التي ستنقلنا بمعيتها نحو رؤية تغييرية طموحة، خاضت مغامرتها لكي تستجيب لرغبات الأطفال عامة، وعلى وجه الخصوص سبطتها الطفلة التي تُمسك طبق الكسكس. وهي الكتكوتة ميلا، وريثة سر أديبتنا. إذ شاركتْ جدتها مغامرة طبق الكسكس بحلة تحديثية، تضم أسمى معاني الطفولة السعيدة. وفي ضوء هذه التوطئة، يمكننا بسط التأملات الآتية: ماهي دلالات ومعاني التجديد الجمالي للكسكس المغربي عند لطيفة حليم؟ وكيف استطاعت تقديم رؤية جديدة تستجيب لرغبات الأطفال؟ بتعبير آخر، كيف انتقل الكسكس المغربي مع لطيفة حليم في مغامراتها بمونتريال من شكله الدائري داخل القصعة، والشبيه بقُبة الأضرحة إلى شكل آخر منبسط التضاريس، يحضر فيه الطبق المربع والمستطيل بصيغة معاصرة؟ ارتبطتْ أكلة الكسكس (وتسمى أيضا ب: كْسكسو، وسيكسو، والكُسكسي بالعامية المصرية...) على مر الزمان بالثقافة الأمازيغية العريقة بشمال افريقيا، فقد تناقلتُه الأجيال القديمة، وعملت على توريثه بنفس الخصائص والمقومات التي يتكوًّن منها، وذلك من منطلق الحفاظ على الموروث الثقافي. فإذا نظرنا على سبيل المثال لأكلة البَقِية الأندلسية أو المسماة باللغة الإسبانية ب: Paella ، فإننا نجد في هذه الأكلة إرثا تاريخيا موغلا في القدم، يعود بنا إلى بقايا أكل ملوكِ دولةِ بني أمية بالأندلس. وكيف عمل الخدم على توظيفها داخل طبق أُعجب به أحد الملوك حينها، فأمر بإعداد نفس الطبق له ولعائلته. غير أن ما نعرفه تاريخيا عن روايات الكُسكس ونشأته، نستحضر رواية ازدياده الحي بشمال افريقيا. كما ارتبطت هذه الأكلة عندنا نحن المغاربة بالأنشطة الدينية للزوايا. حيث يصعب الحديث عن هذه الأكلة في فلك آخر، غير فلك الاحتفالات الدينية بمولد خير البرية، ونفس الشيء يقال أيضا عن حضور الكسكس أيام أعياد المسلمين، وأيضا خلال الجمعة من كل أسبوع. بل ومازالت هذه الأكلة صامدة، ولم تنقرض كغيرها من المأكولات المغربية العريقة. وما يقال عن المغرب، يقال أيضا عن بلدان شمال افريقيا التي نشترك معها الثقافة والجوار، لاسيما حضور الكسكس عندهم كالجزائر، وموريتانيا، ومصر، وتونس، وليبيا. إن الكسكس تاريخيا هو أكلة شمال افريقيا بامتياز. فقد وصل صدى هذه الأكلة إلى دول أخرى كإيطاليا، والولايات المتحدةالأمريكية، وفرنسا... حيث اعتبرته هذه الأخيرة من الوجبات المُفضلة من لدن الفرنسيين. وخلال السنة الفارطة، ثَم إدراج الكسكس من طرف منظمة الأممالمتحدة للثقافة والعلوم (اليونسكو) ضمن التراثات الإنسانية اللامادية بدول شمال افريقيا. وأثناء تقديم أكلة الكسكس يوم الجمعة، يسود التشارك الجماعي، ويتحقق في أبهى تجلياته داخل القصعة التي تضم الأكلة. تلك القصعة الخزفية أو الصَّحفة: هي إناء صُنع من طين فخاري، يتخذ شكلاً دائرياً يتلاءم مع مفهوم الجماعة، ويتماشى مع الحديث المأثور للرسول صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "يد الله مع الجماعة". وتتكون أكلة الكسكس من حبيبات القمح أو الشعير أو من الذرى، يتم تعديلها بواسطة اليد، أو تُباع بشكل مُصنَّع إما داخل أكياس خاصة، أو بالكيلوغرامات وفق طلب الزبون، ويتم تناولها إما باليد أو بالملاعق. كما عرفت أكلة الكسكسِ المغربِي نوعين مختلفين: النوع الأول، وهو الكسكس بالزبيب والبصل، ويضم اللحم أو الدجاج. أما النوع الثاني، وهو الكسكس بالخضر المتنوعة والمتعددة. فهناك من يحصرها في سبعة أنواع من الخضر، وهناك أيضا من يترك الباب مفتوحا للاجتهاد والابداع... ومن الاجتهادات التي نجدها، اضافة نوع ثالث للكسكس يجمع بين الخضر، والزبيب والبصل، في قصعة واحدة. ونجد أيضا بالنسبة للحوم التي تُقدم مع الطبق: لحوم الأبقار، الأغنام، ورؤوس الأغنام مشوية أو مبخرة... كما نجد من يضيف لحم الدجاج، الحمام، واللحم المُخلع من بقايا أضحية عيد الأضحى ... وبالعودة إلى موضوع هذه المقالة، فإننا نجد عند الأديبة والمبدعة لطيفة حليم رؤية جديدة لأكلة الكسكس، تتجه إلى معانقة التحديث في المقومات الموروثة للوصول إلى غاية نبيلة، ألا وهي أن يُسعف الكسكس رغبات الأطفال، ليكون في متناولهم. وهذه الرؤية بفاعليتها الذهنية الواعية اصطلحنا عليها ب: "الحداثة الموجَّهة للأطفال". والحداثة هنا بمعنى التغيير النافع للقصعة الخزفية التقليدية، والجماعيةِ بالطبق الفردي المستطيل أو المربع، وفق الاختيار المطبخي. إذ تقترب هذه الحداثة من مفهوم اللذة Plaisir بالمعنى البارثي (نسبة إلى رولان بارث (R. Barthes، وأيضا من التشاكل Isotopie بالمعنى الغريماسي (نسبة إلى غريماس (A. J Greimas ، لكن برؤية فريدة ودؤوبة تخرجنا من متاهات السيميائيات، واللسانيات، والتشكيلات اللغوية، إلى تشكيلات الإبداع المطبخي، واجتهادات الذات المبدعة. فيصير لطبق الكسكس لذة بصرية خارجية، تنقلنا إلى مُقوِّم التشاكل النفعي، لنكون في قلب العوالم الذهنية للأطفال. فيراعي الطبق المُحدث الخصوصيات العمرية، ويسعى في الآن نفسه إلى خلق فعل المفاجأة Surprise ، لكي يشرع الأطفال في البحث عن التركيب الجمالي للخضروات وألوانها الطبيعية، ومساحات الكسكس، وطريقة تأثيث الطبق، وهندسة الأحجام، والكتل، والأشكال الدلالية... حيث يتحول الطبق إلى سند تعبيري شبيه باللوحة التشكيلية. وهنا نكون في حضرة صورة بصرية وتعبيرية التي تستهدف المتلقين من الأطفال. وهي صورة تتفاعل مع مستوى تطلعاتهم الحسية/الحركية، وتقترب من خصوصيات سنهم، ومناخهم اللَّعبي. وبالإمكان أيضا أن ننقل الأطفال بمعيتها إلى المعنى المجرد، إنْ استطعنا دفعهم للتفكير في موضوع الطبق: كأن يتخيَّلوا قصة، شخوصا، أن يبحثوا عن مخرج من متاهة، أشكال تعبيرية للخضر، ومساحات الأمكنة... ليصير طبق الكسكس المُشكَّل، موضوع بحث من طرف الأطفال عن ما يُخبئه لهم من متعة وتشويق. Suspense وكأنَّ طبق الكسكس بمثابة بيضة كيندير Kinder التي يعشقها الأطفال، لكونها صُمِّمَتْ خصيصاً على مقاس رغباتهم Désirs ، وهم في رحلة البحث عن ما تُخبئ لهم من متعة المفاجأة، ناهيك عن الشوكولاتة ذات النكهة الخاصة. هكذا فإن اللذة البصرية لطبق الكسكس عند لطيفة حليم، تجعلنا نلج إلى التحرر من أبوابه الواسعة لمجاوزة الصيغة المتوارثة إلى صيغة أخرى تجديدية. وفي هذه المجاوزة أسمى معاني الطفولة المُعبَّر عنها، إنْ على مستوى التأثيث والتزيين، أو على مستوى علاقة التفاعل بين الغير Autrui (الطفل) والأنا Ego (الراشد). ولنا في ابتسامة الطفلة ميلا بالصورة، خير دليل على مدى تفاعل وحب الأطفال للصيغة التجديدية لطبق الكسكس الذي أبدعت فيه أديبتنا لطيفة حليم. ألم يقل ذات مرة عالم النفس الأمريكي ستانلي هول G. Stanley Hall بأن "الطفولة هي ولادة ثانية" ؟ فلماذا لا نعمل على جعل موروثنا الثقافي في متناول الأطفال، ونعمل على تَطوِّيعه لكي يستجيب لرغباتهم، ونفهم بحق معنى الولادة الثانية التي تحدث عنها هول؟