عندما يترعرع المرء داخل القبيلة يكتشف مع زحف الزمن الطويل؛ أي خلال نضجه العقلي وتشكل خريطته الذهنية Mind Mapping ، بشكل نهائي، أن أفراد القبيلة يشتركون معه في التقاليد والعادات والأعراف، المسؤولة عن انوجاد ضمير جمعي يضم بين ثناياه نظما ذهنية مٌترابطة ، تشكلت عبر الزمن وتخلقت وأضحت عناوين بارزة وشفرات يصعب فكها وكشف مغاليقها. ذلك، أننا عندما نحصر أنفسنا في قراءة ممعنة لأفعال وسلوكيات الأفراد واختياراتهم داخل القبيلة الواحدة، نتفاجأ، بل ونٌصدم في غالب الأحيان، بوجود اختلاف.جذري بينهم، في التمثلات الكبرى لهذه العادات، والقيم، والطقوس في داخل الموقع الجغرافي للقبيلة. لأن القراءة البسيطة، والبديهية، تفترض أن نجد في المُحصلة تشابها في اختيارات ومبادئ الأفراد على اعتبار القاسم المشترك بينهم في أدق تفاصيل القواعد المؤطرة للقبيلة. وعليه، يمكننا الجزم بأن الإنسان؛ دخل القبيلة؛ قابل للتغيير ليبدل ميكانيزماته المعقدة، وخصوصا تلك التصرفات التي يبادر إليها، والتي في الغالب، تعود إلى الإنسان ما قبل الحجري، بمعنى، تصرفات همجية تفتقد إلى خصيصة التحضر والتمدن، أي، بالاحتكاك المباشر واليومي مع سكان القبيلة تكتشف طباعا فضة، ولغة مهترئة، وندوبا على الوجه، فتحس بالغثيان، والهلع، مما يؤدي بك إلى هجران القبيلة إلى غير رجعة، وقد يغريك اندفاعك إلى التمرد على التقاليد السائدة، لكن دون جدوى، وبالتالي، إن تطلعك إلى العيش بين أحضان المدينة وما ترمز إليه من دلالات، يحفزك على الهروب كي تنجو بشفرات عقلك الصحيحة كي تعمل على برمجتها بالمواصفات التي تواءم مزاجك الشخصي والصورة التي ترغب في توكيدها أمام الغير، وفي كل (عملية تغييرية) تُقدم عليها تمارس دوما نقدا يروم التوفيق بين العامل الطبيعي المبثوث في عروقك (اللاوعي)، والعامل الثقافي المركوز في ذهنك (الوعي)، والذي لازال غريبا عليك، لكن رجاحة عقلك يُجنبك من السقوط في الإفراط من الثقافة الجديدة كي لا تحكم على نفسك بالخروج كليا عن الجماعة التي تعاقدت معها بهدف العيش معها، وبالتالي، تكون قد فرطت في مرجع أساسي وجوهري ساهم بشكل كبير في تشكيل وعيك. ونتيجة لهذا التداخل بين المكون الطبيعي والثقافي تصبح شخصية فريدة متنوعة، بشرط عليك أن تخلق في كيانك مسافة واسعة مع ثقافة قبيلتك كي لا تدخل في علاقات متشنجة معهم الأمر الذي قد يجعلهم يكتشفون داخلية تركيبتك وأوارها بسرعة فدرءا لكل الاحتمالات الممكنة ، وجب انصهارك في جلباب قبيلتك كي تكسب ودهم كلما وطأت قدماك تربة القبيلة . لأن تموقعك في برجك العالي أو إحساسك بالتعالي سيعود عليك بنتائج عكسية. إن قضية التغير في السلوكيات تحكمها مسوغات تنهل من الواقع المتخيل (الأدب) أو الواقع . ذلك، أن الإنسان عندما يرتقي، مثلا، في الوضع الاجتماعي يسعى إلى قطع الصلة، نهائيا، مع كل معارفه وكل من يذكره بالحياة البدوية المبعثرة، فالمدينة بألوانها المزركشة ومنظرها الخلاب لعبت بلبه وأغرته كثيرا بالإيغال في تضاريسها الواسعة، فهناك من بالغ في حبه (للمدنية) حتى نسي والديه وبات عربيا ومسلما بالاسم ونصرانيا بأسلوب حياته، لا يتألم لآلام الآخرين، وإنما أناه المتعجرفة والمتعالية هي مركز الكون وكل شيء في الوجود، فصار إنسانا غير مكتمل البناء، لم يبقى فيه إلا الجسد الذي سرعان ما سيتحلل ويأكله الدود، أما الروح فقد انفصلت عن جسمه، وأسس عالمه المصغر مع الماديين، لينغمس في اللذات ويلهث وراء إلهه الجديد 'الهوى'، وهكذا دواليك، حتى يطمر في الثرى ليترك وراءه المدينة التي أغوته ولازالت تغوي مرضى القلوب فالإنسان الذي تتاح له فرص في الحياة من عمل ويرتمي هكذا بلا ضمير مٌتخلق إلى معانقة حياة المدينة يحكم على نفسه بالموت. وعندما أقول المدينة أو المدنية فلا أعني بها التحضر في شتى صنوف الحياة أو الأثاث الجميل أو الجبس الملون، بل أقصد الهوية الجديدة التي حملها أبناء الوطن العربي بدون غربلتها، وهذه الهوية الجديدة تبدأ مع 'الماكدونالدز' وتنتهي في العلب الحمراء مع النبيذ والفتيات القاصرات، وهي المسئولة عن انسلاخ الإنسان عن عادات قبيلته، وتشربه لتلك الجديدة .