الكراسي" سبّبت لنا أكبر المشاكل، أكثر من السيف وأي سلاح آخر... وبسبب الرغبة في الاحتفاظ بالكراسي ضاعت فرص التقدم ومسايرة ركب الأمم الراقية، وفرطنا في أكثر من موعد مع التاريخ، وتكرس الفساد واستشاط وانتشر الفقر وساد الإحباط. "" لقد أساء لنا كثيرا ذلك الإنسان الذي اخترع "الكرسي" الذي لولاه لما تزايد ثمن الأصوات في بورصة الانتخابات، ولولا الخوف على فقدان الكرسي لما عرفنا انتهاكات حقوق الإنسان وضرب بعرض الحائط، أهم الحقوق، الحق في الحياة، ولما نخرت الاختلاسات اقتصادنا ومؤسساتنا العمومية... آلامنا ومصائبنا، أكبرها وأصغرها، سببها، الأول والأخير، الخوف من فقدان الكرسي، كل في مجاله وميدانه. فلن نسامح من اخترع الكراسي، لاسيما تلك الكراسي الوتيرة الدوارة التي هي السبب في مختلف محننا. بمجرد الجلوس على الكراسي، يصبح الجالس عليه عنيدا ورأسه أشد بأسا من الصلب، لأنه يرغب في جعل المحيطين به على مقاسه، ويتصدى للخارجين عن "دينه"، رؤيته وتصوره بالويل والثبور وعظائم الأمور، ويتحول إلى شيطان مارد يحاصر كل من ينافسه على الكرسي لثنيه على سحب كلمة كرسي من قاموسه وحتى من عقله الباطني، ويجعل أقرب الأقربين إليه من ذوي سيوف السلطان حتى ولو كانت من خشب، ومع مرور الزمن يتحول " أصحاب الرؤوس القاسحة" إلى وجبة لذيذة "تتغذى بهم قبل أن يتعشوا به"... فكم من عائلات شردت، ومن حقوق أهدرت وآمال أعدمت، وكرامة ديس عليها، وأجيال اغتيل غدها بسبب الكراسي أو الخوف على فقدانها. إن قوة جاذبية هذه الكراسي فاتت مكتشفي قوانين الجاذبية، مثل "نيوتن" و"هويدون"، ولم يتمكنوا من اكتشافها. فقوة جاذبية الكراسي عندنا، تفوق وتختلف كليا عن قوانين الجاذبية أو قوانين المغناطيس المعروفة، فالجالس على الكرسي، في السلطة والمؤسسة والحزب والجماعة...، غالبا ما يفقد إنسانيته بقدر المدة التي يستغرقها في البقاء عليه، وتتفتح شهيته للقمع والتنكيل لصد الغاضبين المحتجين والمنددين، ويصبح شعاره "طالع واكل نازل واكل" وفلسفته في الحياة، "من بعدي الطوفان"، وكلما أمطر من المال العام يقذف إلى جيب الجالس على الكرسي، والغاية تبرر الوسيلة.. ويصاب الجالس على الكرسي بالصمم الكامل لسماع صرخات المتضررين وآهات الناس وآلامهم، ورغم كثرة المناداة، فلا حياة لمن تنادي. وينضاف إلى الجالس على الكرسي أشخاص يجذبهم الكرسي لخدمة الجالس عليه بجميع الوسائل، حتى ولو تطلب ذلك التحالف مع الشيطان، ولي عنق الأديان السماوية والقوانين الأرضية، وتتسع دائرة الموالين بالتحاق المنافقين والانتهازيين والوصوليين. لتلك الكراسي قوة جذب ينعدم فيها الزمن، إذ عندنا بإمكانك الجلوس عليها عقودا دون الشعور بخجل، حتى ولو علمت بأنك شخص غير مرغوب فيه، وبمجرد جلوسك على أحد الكراسي تزداد ألقابك وتتكاثر أوصافك الحسنة ومكارمك وريادتك، ومقابل ذلك تتزايد شكوكك في الآخرين. ويفيدنا التاريخ، القديم والحديث، أن معضلة "داء الكراسي" اشتدت منذ الحصول على الاستقلال بين المخزن و"بورجوازية" وقتئذ، التي طالبت بدستور، وعندما حصلت عليه لم تعتن به لتطويره عبر تكريسه فعليا على أرض الواقع، الشيء الذي ساهم في بروز استبداد الإدارة والآليات العمومية مع تهميش المجتمع بكامله، ومن هنا كانت نشأة ريع المواقع والمصاهرة والولاء وتضامن الجماعات الطفيلية والانتهازية، فاتجه المغرب نحو النفق، ثم توالت المعضلات ... تعريب لعرمرم المغاربة ولغات أجنبية لأبناء علية القوم المؤهلين للجلوس على الكراسي.. مسار مفتوح على ثقافات العالم والحداثة آنذاك.. ومسار يكرس الخنوع وانسداد الأفق، وقتئذ أفتى علماء المغرب، بل علماء حزب الاستقلال بأن التعريب يساوي الاستقلال.. هكذا ضاع أبناء الشعب وظلوا خارج دوائر القرار بعيدين عن الكراسي.. والآن طلعت علينا أصوات تعلن فتوى العصر القائلة :" من يمتلك اللغة العربية وحدها يكاد يحسب من "أميي الألفية الثالثة"، باعتبار أن العربية في رأي أصحاب الفتوى ما زالت لا توفر سهولة ولوج مجال التكنولوجيا الحديثة"، وهذا قولهم والله أعلم. إدريس ولد القابلة-رئيس تحرير أسبوعية المشعل