ضمن الرافعات الأساسية لدعم الاقتصاد وتعزيز النمو وخلق الثروة بات ينصح باستخدام التكنولوجيات الحديثة، وإدخالها في مختلف شرايين ودواليب الدولة، إذ بالإضافة إلى خاصية السرعة والذكاء الاصطناعي تسهم هذه التكنولوجيات الحديثة في مناحي الشفافية وتنقية مناخ الأعمال والاستثمار، بالإضافة إلى إسهامها في دعم جوانب الإنتاجية والقيمة المضافة، وهو ما يكون له أبرز الأثر في رفع معدلات النمو؛ وهي الخلاصات التي ما فتئت تؤكدها مجموعة من التقارير والتوصيات الصادرة عن العديد من المعاهد والمؤسسات الدولية، خاصة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي مؤخرا. من جهته، يلعب التعليم دورا هاما في تأهيل العنصر البشري، إذ يضطلع الأخير بخاصية التعامل مع التكنولوجيات الحديثة؛ وبموجب ذلك، ولكي يتعامل الإنسان مع هذه الوسائط بشأن أفضل، فقد أحدثت التكنولوجيات تغييرات جد هامة في طبيعة تقديم هذه "الخدمة التعليمية"، بحيث لم يعد التعليم تلكم الخدمة التي تمارس بالطريقة التقليدية، بقدر ما همت التعديلات تقريبا مجمل المكونات المرتبطة بالمعادلة التعليمية، بدءا بالمدرس، ومرورا بالتلميذ والحجرة والفصل الدراسي، وانتهاء بالمناهج والمقررات والكتب المدرسية. لقد تركت هاته التكنولوجيات بصماتها في مجموع هذه الأبعاد والمكونات، إذ أصبح دور الأستاذ يرتكز أكثر على التنشيط والتسهيل والتيسير أكثر من التلقين بالمفهوم العمودي الذي كان سائدا في السابق، إذ كان الأستاذ يمارس دور الإلقاء والتلاميذ يوجدون في وضعية استماع. مفهوم الفصل الدراسي المرتبط بعدد التلاميذ في القسم حصل عليه هو الآخر تعديل، إذ أصبح يتشكل "ممن حضر افتراضيا"، وهو يتابع مجريات "الدرس الافتراضي" مع الأستاذ. وربما ساهمت التكنولوجيا في صياغة معادلة جديدة بين المدرس والتلميذ والحجرة الدراسية والفصل الدراسي؛ "فحجرة المنزل" قد تعتبر في عرف هذه التكنولوجيا "حجرة دراسية" ملحقة بحجرات المؤسسة، "قد يدخل إليها الأستاذ افتراضيا" ويمارس عبرها مهامه في التدريس عبر هذا المكون الرقمي، وقد يشاركه ربما حتى بعض أفراد الأسرة المعنيين بمتابعة مجريات هذا الدرس لتقديم الدعم اللازم للتلميذ إن كان في حاجة إلى ذلك. من جهة أخرى، يبدو أن كورونا (وحسنا فعلت) كشفت بعض التأخر المسجل على صعيد قطاع التعليم من حيث التعامل مع التكنولوجيات الحديثة وإدماجها في المنظومة التربوية، إذ لو كان القطاع سارع الخطى في السابق مع هذا المجال لكان استفاد بكيفية كبيرة، ولكان طور مجموعة من المفاهيم للاشتغال بأريحية في ما يخص حل معادلة "عن قرب" و"عن بعد" التي يحاول إيجاد الحلول لها حاليا، على الرغم من أن المغرب كان سباقا لاعتماد مشروع المغرب الرقمي (2013) وسباقا في ما يخص إدخال التكنولوجيات إلى المؤسسات التعليمية تحت يافطة برنامج "جيني" (2005). يقع هذا مع أن الرقمنة ربما كانت تفهم على أنها إدخال للحواسيب إلى المؤسسات التعليمية، وإتقان بعض التطبيقات المعلوماتية أو الإبحار في الإنترنت، أكثر مما كانت تأخذ بعدها الحقيقي المتمثل في قلب معادلة التدريس بالكامل وإحداث التغيير في ما يمكن أن يصطلح عليها ببيئة التمدرس أو التعلم. رقمنة التعليم لا تتوقف عند حدود التعامل مع المعلوميات كمادة دراسية بقدر ما أنها منهج وأسلوب متكامل للتدريس قد يطال جميع المواد، وقد يصاحب التلميذ في مجمل تحركاته ما دامت الأجهزة الرقمية أخذت أشكالا وأنواعا متعددة، بدءا بالحواسيب وانتهاء بالهواتف الرقمية الذكية. تجدر الإشارة أيضا إلى أنه حسب الكثيرين "فالتدريس الرقمي" ليس هو "التدريس عن بعد"، هذا الأخير لا يشكل إلا أحد جوانب إغراءات "التعليم الرقمي"، بحكم أنه يدمج مجموعة من الأبعاد والمكونات (صورة، صوت، فيديو، إبداع إنساني رقمي..) من أجل إيصال الدرس في أحسن حلة، وهذا يقتضي ألا يتم تحويل ذلكم الدرس الذي كان يقدم عن قرب إلى درس يقدم عن بعد، بنفس الكيفية، بقدر ما يتعين أن يدمج التعليم عن بعد مجموع التوابل والمقومات التي تجعل منه فعلا منتجا يحظى بالإثارة والتشويق ويدمج جانبا كبيرا من الإبداع الإنساني الذي تمت مراكمته جراء التفاعل مع هذا العالم الرقمي. بهذا المعنى، ربما التدريس عن بعد قد يدفع في اتجاه تعزيز ما يسمى مشروع المؤسسة، من حيث إن إعداد الدرس ربما سيصبح مستقبلا شأن المؤسسة التعليمية وليس شأن المدرس لوحده، وبدل أن يبقى كل أستاذ منزويا ومنطويا على نفسه وهو يعد الدرس، ربما سيكون مفيدا لو تجمعت جهود أساتذة المواد من أجل إعداد الدروس في حلل جيدة، وربما قد تبرز في هذا الأفق والسياق اجتهادات ومسابقات بين المؤسسات التعليمية من أجل اختيار أحسن الدروس التي يمكن اعتمادها رسميا، بنفس المنطق الذي يتم التعامل به في اختيار الكتاب المدرسي. من جهة أخرى، فإسهام البعد الرقمي في مجال التعليم ربما سيكون مفيدا أيضا في ترشيد الإنفاق الذي يتكبده القطاع، لاسيما في مجال تشييد المؤسسات التعليمية، وفي توظيف المدرسين، إذ بفعل إدماج التعليم عن بعد، وبصورة تصاعدية، باعتبار عدد الساعات المعتمدة في هذا الصنف من التعليم، ربما ستبدأ الخريطة المدرسية في الحديث عن "العد العكسي" من حيث تناقص حاجيات المنظومة التربوية من أعداد هذين المكونين، ما سينعكس على الإنفاق العمومي في مجال التعليم باعتبار أن تشييد المؤسسات وأجور الموظفين هما البندين اللذين يلتهمان ميزانية وزارة التعليم بشكل كبير.