ما بين الجرعة والحقنة، تباينت استعمالات وسائل الإعلام العربي في توظيف الكلمتين، وإن اتجهت جلّها إلى اعتبار أولى "الحقنات" من اللقاح عبارة عن "جرعات". هي مصطلحات تتداول يوما عن يوم فتصبح خطأ شائعا، وينأى أهل السلطة الرابعة بالتالي عن "الصواب المهجور". في هذا المقال، يوضح الكاتب والناقد المغربي نجيب العوفي، بإسهاب، الفرق بين الكلمتين، وأيهما الأصوب. وهذا نص المقال: بعد فكّ الحَجْر عن لِقاح كورونا وإطلاق سراحه بعد طول اختبار وانتظار، شاعت على ألسن الإعلام الوطني والعربي، وهي ألسن مُولعة دوما بتحريف الكلِم عن مواضعه، عبارة (الجَرْعة الأولى من اللقاح)، والصواب: (الحُقنة الأولى من اللقاح). ذلك أن الجَرعة في معاجم اللغة العربية قديمها وحديثها، كالرّشفة، تُجرع وتُرشف بالفم حصْرا لا غير. في حين أن الحُقنة هي التي تؤخذ من مَحْقنها (أي من وِعائها) لتُحقن في الجلد أو الوريد. والمَحقن كلمة عربية فصيحة تسلّلت قديما إلى الدارجة المغربية والأمازيغية. والحَقن بداهة هو المقصود والمعْنيُ بعملية التلقيح، ولا علاقة البتّة للجرْع والرشف والشرب بهذه العملية.. نقرأ في (لسان العرب): قال ابن الأثير: التجرّع هو شربٌ في عجلة وقيل هو الشّرب قليلا قليلا ، أشار به إلى قوله تعالى "يتجرّعه ولا يكاد يُسيغه"، والإسم الجَرْعة والجُرعة وهي حَسْوة منه .. وعن الحُقنة نقرأ في المعجم ذاته: قال المفضّل: يعني المفضّل الضّبّي اللغوي والراوية (كلّما ملأتَ شيئا أو دسسْته فيه فقد حقنتَه)، ومنه سُمّيت الحُقنة. وفي معجم المعاني الجامع نقرأ: حقن الماء ونحوه ، جمعه وحبسه.. ومنه القول ، حَقْنا للدماء . الحُقنة دواء يُحقن به المريض . ولا يخفى هنا تقارب الحُروف، بين (لقح) و (حقن)، وتقاربُ المباني من تقارب المعاني، كما هو معروف. ولا يتمّ التلقيح إلاّ بالحَقْن، لا بالجَرْع أو الرشف.. حتى إشعار طبّي وعلمي آخر. وربما كانت كلمة (الجرْعة) ترجمة غير دقيقة وغير موفقة للكلمة الفرنسية، ولها سياقاتها وذاكرتها، "La dose". وإن كان الأمر كذلك، فهو يدلّ على دلالتين: الأولى، هي التبعية اللغوية اللاّمشروطة للِسان "الآخر". والثانية، هي ارْتجال الترجمة وعدم إحكامها وتحكيمها من طرف خُبراء اللغة والترجمة واللسانيات .. كما عند "الآخر". علما بأن لكل لغة ذاكرتها وثقافتها ومُستوْدعها السرّي . وآفات الترجمة، كما قال يونس بن متّى قديما، إما أن تكون نسْخا أو مسْخا أو سلْخا. وكثير من مشاكلنا السياسية والثقافية العربية ، آتية من هذا النّسخ والمسْخ والسّلخ . وبعيدا عن هذه الشجون اللغوية، وثُنائية (الجرْعة) و(الحُقنة)، نرجو أن تكون "حقنة" اللقاح، الوامضة في الأفق، "جرعة" شافية للأبدان والنفوس المكدودة – المهدودة، العطْشى إلى.. استعادة الحياة.