إن تأهيل السلطة القضائية يتطلب الإرادة السياسية و القدرة على اتخاذ القرارات و تنفيذها، لا أن يبقى مخطط الإصلاح الذي سيتم اعتماده مجرد توصيات، و من أجل ضمان نفاذه، يتعين إشراك جميع القضاة و موظفي العدل، و باقي المتدخلين في العدالة، على أن يتم ذلك عن طريق ممثليهم دون إقصاء لجهة معينة، تطبيقا و احتراما لمقتضيات الدستور الذي يكفل حق التعددية الجمعوية للقضاة ، قاطعا بذلك دابر الإطار الوحيد في التمثيلية، تأكيدا على مبدأ حرية التعبير و حرية التنظيم للقضاة، الذي كثيرا ما شكل نقطة سوداء تشريعا و ممارسة. لأنه لا يمكن حرمان القاضي من هذا الحق الطبيعي، في الوقت الذي يتولى فيه وظيفة و سلطة حماية الحقوق و الحريات في المجتمع، الأمر الذي يكشف عن محدودية استقلال القضاء، و رغبة السلطة التنفيذية في التعدي على صلاحيات السلطة القضائية. هذه الممارسة استندت طويلا إلى القوانين التي تم سنها، و إلى الواقع الذي يحاصر القضاة، و شكلت في العمق عامل كبح للموارد البشرية العاملة بالإدارة القضائية و تأهيلها، بالنظر إلى التحكم الحاصل في الحياة المهنية للقضاة من طرف وزير العدل أو بتعاون مع المجلس الأعلى للقضاء. العمل بقوانين تتحكم في الحياة المهنية للقضاة: إذا كان دستور 1996، قد أقر مبدأ استقلالية القضاء صراحة ( الفصل 82)، فإنه لم يعلن عن مركز القضاء " كسلطة "، عند تنصيصه بأن القضاء مستقل عن السلطتين التشريعية و التنفيذية. فمحدودية إستقلال القضاء في الدستور، كتشريع أساسي، ستنعكس عليه في القانون العادي و في الواقع. على مستوى القانون، يلاحظ بان القضاة يخضعون في حياتهم المهنية إلى نظام أساسي للقضاء ( قانون 11 نونبر 1974)، الذي صدر في شكل ظهير ملكي خلال فترة لم يكن فيها برلمان ( حالة الإستثناء). و هو القانون الذي يحدد شروط و كيفية ولوج الحياة المهنية للقضاة، و يرسم حقوقهم وواجباتهم، و كذا القواعد التي تحكم مسارهم المهني و نظامهم التأديبي. ينضاف إلى ذلك، أن المجلس الأعلى للقضاء كمؤسسة دستورية يرأسها الملك، و يتولى النيابة عنه السيد وزير العدل. هذا التفويض مكنه من أن يكون رئيسه الفعلي، فأحكم بذلك سيطرته على المجلس الأعلى للقضاء، و على المتفشية العامة، و المعهد العالي للقضاء. وهذه مظاهر تؤكد غياب استقلالية القضاء، تبعا للاختصاصات الواسعة التي خولها القانون لوزير العدل في مجالات ولوج و تعيين و ترقية و انتداب و نقل و تأديب القضاة. و للإشارة فإن ميزانية المجلس الأعلى للقضاء، تابعة لميزانية وزارة العدل، مما يؤكد غياب الإستقلال المالي و الإداري و المؤسساتي للسلطة القضائية، وهو ما يجب تداركه من خلال إصدار القانون التنظيمي الخاص بالسلطة القضائية المنصوص عليه في الدستور الجديد، بعد أن ارتقى بها إلى مكانة " السلطة" متداركا بذلك المشرع الدستوري، الفراغ القانوني في دستور 1996، و تم استبدال المجلس الأعلى للقضاء، بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية ( الفصل 115 من الدستور). و لم يعد وزير العدل بعد الإصلاح الدستوري (2011)، عضوا بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية، و تم التنصيص صراحة في صلب الوثيقة الدستورية بأن الرئيس الأول لمحكمة النقض هو المنتدب للنيابة عن الرئيس( الملك)• هذه كلها مظاهر تكشف عن التحكم في تسيير و إدارة مرفق القضاء من طرف السلطة التنفيذية، و التي تنم عن غياب إستقلال القضاء و إستقلال القضاة، و بالتالي نكون أمام غياب رؤية تضع ضمن أولوياتها تثمين العنصر البشري المتمثل في هذه الحالة، في القضاة. تقليدا نية منظومة التكوين و الترقي: يعتبر إعداد تصور جديد للتكوين مسالة حيوية تبرزها عدة اعتبارات لتأهيل الموارد البشرية تكوينا و أداء 44 ، و تقويما ، مع العمل على تحسين الأوضاع المادية للقضاة و موظفي العدل و إيلاء الاهتمام اللازم للجانب الاجتماعي. فتأهيل الموارد البشرية أضحى مسألة ضرورية لبلوغ هدف عدالة سريعة و فعالة تكفل للموظفين حقوقهم و تجلب الاستثمار الأجنبي، وهنا تتأثر مسألة التكوين بالنسبة للقضاة وموظفي كتابة الضبط على حد سواء، خاصة و أننا أصبحنا في حاجة إلى قضاء متخصص اعتبارا لضغط العولمة على كل المستويات، فالقضاء المغربي لم يعد مطالبا بالفصل في قضايا المواطنين كمتقاضين مغاربة و حدهم، بل هو مواجه بمطالب مستثمرين وفاعلين اقتصاديين أجانب . و أمام هذا الوضع يفرض إنتاج أجيال من القضاة تتوفر فيهم مستوى عالي من التكوين، فالتكوين الجيد للقضاة يعتبر العامل الأساسي في ترسيخ استقلالهم و ضمان كفاءاتهم و تحقيق جودة قضائهم و عدالة أحكامهم. و لهذا و جب فرض ضوابط صارمة للتكوين المستمر و التوفر كذلك على مستوى عال من الأخلاق، نظرا للدور الاجتماعي الذي يلعبه القاضي، ويلزم مراجعة نظام المعهد العالي للقضاء بجعله أداة فعالة للتكوين، و إرساء قواعد و مبادئ تتعلق بخلق تكامل بين التكوين المستمر، و الترقية و التعيين في مناصب المسؤولية و ذلك بهدف تمكينه من شغل مناصب تتلاءم مع مؤهلاته المهنية . لكن ذلك لن يتأتى إلا بمراجعة معايير الدخول إلى المهنة، سواء تعلق الأمر بالمستوى الدراسي أو السن أو مدة التكوين أو التربية أو مكان قضاء التمرين، و الذي يجب أن يكون بالمحاكم و مكاتب المحامين و بالسجون و بالمؤسسات العمومية، و تأسيس معاهد للتكوين المستمر جهوية في كل دائرة قضائية، تطبق برامج مدروسة تستجيب لحاجيات التكوين و العمل على تنسيق البرامج مع المعهد العالي للقضاء، و ذلك بإشراك القضاة و المحامين و الجامعيين و الخبراء في هذا التكوين. كما تستلزم الأوضاع المادية و المعنوية لموظفي كتابة الضبط العناية بها، كما يجب احترام اختصاص كاتب الضبط في الجلسة، الذي عليه أن يدون بأمانة كل ما راج في الجلسة . أما فيما يخص نظام الترقي فيرتب القضاة بمقتضى نظامهم الأساسي في درجات و رتب يتم التدرج و الترقي فيها وفق شروط و معايير حددها النظام الأساسي المذكور، و من بين هذه المعايير، معيار الأقدمية الذي يكمله التقييم الذي يخضع له القاضي من طرف رئيس المحكمة أو رئيس النيابة العامة لديها. لكن يجب إصلاح هذه المنظومة للترقي، لتجاوز سلبيات التجربة الحالية، و ذلك من خلال ربط الترقية بالتكوين، الذي يؤدي إلى تطوير حقيقي للمهارات، وجعله أكثر تحفيزا في إطار المراجعة الشاملة لهيكلة الأطر و منظومة الأجور و التعويضات. و في هذا الصدد فإن هذه المنظومة ينبغي أن تسعى إلى ربط الترقي بالتكوين المؤدي إلى تطور حقيق للمهارات . و إذا كان القانون قد عهد لوزير العدل بمهمة وضع و حصر لائحة المرشحين المؤهلين للترقية إلى درجة أعلى فإن مهمته هذه و إن كانت تكتسي صبغة تنفيذية صرفة، إذ تقتصر على حصر لائحة القضاة الذين تتوفر فيهم شروط الترقية التي حددها النظام الأساسي، و إدراج أسمائهم بلائحة الأهلية للترقي متى أصبحت هذه الشروط القانونية متوفرة، فإن ذلك يشكل مساسا باستقلالية القضاء. و تعتبر إلزامية نشر لائحة الأهلية للترقي بالجريدة الرسمية من أهم الآليات التي وضعها المشرع ليتأتى للقضاة الإطلاع عليها، علما بان هذه اللائحة لا تنشر إلا بعد استشارة المجلس الأعلى للقضاء . تأهيل و تحسين الأوضاع المادية و الإجتماعية للقضاة مدخل أساسي للإصلاح: إن إصلاح القضاء يحتاج إلى تأهيل الموارد البشرية لتخطي الإختلالات الكثيرة التي تعتريه على مختلف المستويات، الذي يجب أن يقوم على رؤية إستراتيجية أساسها العنصر البشري بإعطائه الأهمية اللائقة به لأنه هو الرأسمال الفعلي و الحقيقي في إنجاح أي مخطط لإصلاح القضاء. فمهما كانت جودة القوانين و مرجعيتها، إلا أن تدبير الموارد البشرية في حاجة إلى إطار مرجعي شمولي و ذلك للانتقال من منطق التسيير القانوني للقضاة و الموظفين إلى منطق التدبير الحديث للموارد البشرية، علما أن السياسات و القوانين لا تنفد نفسها بل ينفذها البشر. انه و من أجل ضمان نجاح السياسات العمومية بمرفق القضاء يتعين توفير مناخ ملائم لعمل القضاة و الموظفين تتمثل في المرتكزات التالية: ضمان الاستقلال المالي و الإداري و المؤسساتي ( مقر، موظفون، إداريون)، للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، استقلال جهاز التفتيش ( المتفشية العامة)، عن وزير العدل و جعله خاضعا لسلطة المجلس الأعلى للسلطة القضائية، تحال جميع الشكايات و تقارير التفتيش على المجلس الأعلى للسلطة القضائية، مع استبعاد الشكايات المجهولة أو السرية، نقل سائر الاختصاصات المسندة لوزير العدل إلى المجلس الأعلى للسلطة القضائية، فيما يتصل بتوظيف القضاة و تعيينهم و تكوينهم و ترقيتهم و تأديبهم و تقاعدهم. اعتماد معايير واضحة في إحداث المحاكم العادية و المتخصصة و منها التجهيزات الضرورية و بالموارد البشرية و الرفع من عددها، مراجعة قانون 17 شتنبر 2003 المتعلق بالمعهد العالي للقضاء و إعادة النظر في مناهج التدريس المعتمدة في تكوين القضاة و الموظفين، اعتماد سياسة التكوين المستمر للقضاة باعتبارها وسيلة للحصول على مؤهلات جديدة أو تطوير مؤهلات متواجدة. إعادة النظر في معايير ولوج مهنة القضاء، خاصة ما يتعلق بالسن، المستوى الدراسي، مدة التكوين، أو مدة التدريب و مكان قضاء فترة التمرين، توقيع شراكات مع كليات الحقوق و التنسيق معها لخلق مسالك دراسية تتعلق بالمهن القضائية و حقوق الإنسان، الرفع من التوظيف لخلق توازن بين حاجيات الإدارة و مواردها البشرية . مراجعة شبكة الأجور للقضاة بما يضمن لهم الاستقلالية و يكفل العيش الكريم له و لأفراد أسرهم، و ذلك بالزيادة في الأجور بان لا يقل راتب القاضي عند التعيين 20.000,00 درهم، ( عشرون ألف درهم)، تضاف إليه تعويضات تتعلق ب: التعويض عن المخاطر، التعويض عن المنصب، التعويض عن المر دودية.علما أن الأجرة تشتمل على المرتب و التعويضات العائلية و غيرها من التعويضات و المنح لمحدثة بمقتضى النصوص التشريعية أو النظامية، مراجعة نظام الترقي، و ذلك بربط الترقية بالتكوين، مع اعتماد المباريات كأسلوب في الترقية لكونه الأكثر ديمقراطية و احتراما لمبدأ المساواة. . إنه من المعلوم بأن القضاء لا يستفيد من كل الإعتمادات و الامتيازات و التجهيزات بنفس المستوى الذي تحظى به السلطتان التنفيذية و التشريعية، و ذلك من أجل ضمان حماية مادية و معنوية تحمي القضاة من المغريات و الانحرافات، وهذا ما يتطلب زيادة في أجور القضاة بشكل يضمن لهم حياة كريمة و لأفراد أسرهم، تعتمد التصاعد الهرمي في المسؤوليات، حيث يرتب رئيس محكمة النقض كأعلى منصب في السلطة القضائية، في نفس مرتبة رؤساء السلطتين التنفيذية و التشريعية ( رئيس الحكومة و رئيسي مجلس النواب و مجلس المستشارين). إن القاضي لا يمكنه تأدية وظيفته دون تحسين أجره، بوصفه عامل أساسي لضمان استقلالية القاضي و استقلال القضاء. و يلاحظ بأن السلطة التنفيذية تتحكم في قرار تسوية الوضعية المادية للقضاة، و في ظل مقتضيات الدستور الجديد يبدو أن الأمر لم يعد ممكنا لكون المجلس الأعلى للسلطة القضائية هو من سيتولى تطبيق الضمانات الممنوحة للقضاة، و لا سيما فيما يخص استقلاليتهم، و تعيينهم، و ترقيتهم، و تقاعدهم، و تأديبهم( الفصل 113). كما انه تم التأكيد على الاستقلال الإداري و المالي للسلطة القضائية ( الفصل 116) . في ظل هذه المستجدات الدستورية بات لزاما على الدولة أن تلاءم سياساتها العمومية و تشريعاتها مع مقتضيات الدستور. و بالنسبة للقضاء يتعين الإسراع في إصدار القانون التنظيمي المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة، و القانون التنظيمي المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية و ذلك من أجل تحديد شبكة استدلالية جديدة لرواتب القضاة و اعتماد راتب مرجعي بما يضمن حياة مهنية كريمة، و من أجل محاربة الرشوة و الفساد. فهل راتب قضاة الدرجة الثالثة الذي هو 9000,00 درهم بإمكانه توفير أوضاع عملية و معيشية مريحة؟ لا نعتقد ذلك، و نفس الأمر يقال بالنسبة لقضاة الدرجة الثانية ( 12.000,00 درهم)، وقضاة الدرجة الأولى ( 18.000,00 درهم)، أما أجر القاضي الأمريكي فيصل إلى 200 ألف دولار، يمنح له سنويا في شكل بطاقة اعتماد بنكي. و بالنسبة لأجر قاضي مبتدأ في فرنسا وصل في سنة 2008 إلى مبلغ 2600,00 أورو شهريا، و للقاضي في نصف مشواره المهني أجرة 5000 أورو ليصل عند نهاية العمل مبلغ 7000 أورو، علما أن العدد الإجمالي للقضاة بالمغرب وصل سنة 2011: 4050 قاض، 3154 ذكور، و 896 إناث ( 22,12 %). التكوين المستمر للقضاة: يستهدف التكوين المستمر تأهيل الموارد البشرية على مستوى المعارف و المهارات و المواقف و السلوكيات لان القاضي بلا تكوين كالشجرة بدون جدع ولا أغصان كما قال احد القضاة و هذا ما يتطلب: -إصلاح شروط ولوج المعهد العالي القضاء ومراجعة المناهج البيداغوجية . * تحسين النظام الأساسي للقضاة على مستوى التكوين المستمر و الإسراع بالصادقة عليه. * إعداد مخطط توجيهي وطني للتكوين المستمر و آخر جهوي يكملان بعضهما البعض في إطار علاقة تكامل، مع العمل على توفير الوسائل الضرورية لإنجاح هذا المخطط، المادية و البيداغوجية. * توفير الإعتمادات المالية لضمان نفاذ نظام التكوين المستمر. * إعداد متخصصين في مجال التكوين و التأطير و انتقاء الكفاءات من اجل تأطير فعال و هادف. *تشجيع الشراكة في مجال التكوين المستمر مع المؤسسات والمعاهد و الجامعات. تأهيل الكفاءات القضائية: إن تأهيل مرفق القضاء يتطلب اعتماد الموضوعية في إختيار المسؤولين لإسنادهم المسؤولية القضائية، و ذلك بإعتبار عنصر الكفاءة العلمية و القدرة على تنفيذ السياسات القضائية، و من أجل تحقيق ذلك، يتعين الأخذ بعين الإعتبار عنصر الشباب و معيار الخبرة العلمية، و اللياقة و الإستقامة و النزاهة، لأن دور المسؤول القضائي هو بمثابة المشرف و الموجه، يراقب و يتابع و يقيم أداء القضاة و الموظفين. بصفة عامة، كل مخطط يروم إصلاح القضاء و تأهيل أطره، يجب أن يستند إلى برنامج شامل يروم التخليق الشامل و ترسيخ الشفافية و دمقرطة مرفق القضاء . ومن المعلوم إن ولوج القضاء يتم عبر طريقين, طريق الملحقون القضاء يون بواسطة مباراة وطريق التعيين المباشر يهم أساتذة الحقوق لمدة عشر سنوات أو المحامين الدين زاولوا مهمة الدفاع لمدة خمسة عشر سنة. لكن الوضعية المادية الحالية للقضاة لا تشجع على استقطاب هده الفئة لولوج مهنة القضاء . إضافة إلى كون مسطرة ترقي القاضي بطيئة فانه يتحكم فيها أيضا كل من رئيس المحكمة, وكيل الملك, الوكيل العام للملك, ووزير العدل في غياب معايير موضوعية منصوص عليها في التشريع.كما أن وزارة المالية تمارس نوعا من الرقابة القبلية و اللاحقة على الترقيات بمبرر المناصب المالية الشاغرة هدا ما يشكل تحكما في قرارات السلطة القضائية ومساسا باستقلاليتها وبمبدأ فصل السلط . * دكتور في الحقوق محام بهيئة وجدة