منظوران يهيمنان على اللحظة الفارقة التي يجتازها الحراك السياسي الاصلاحي في المغرب ، ورؤيتان تتحكمان فى المشهد السياسى الراهن. نلخص كل رؤية فى كلمة واحدة كما يلى: الأولى يمكن أن نطلق عليها رؤية «الجمود» والثانية رؤية «الحركة». وتتصارع الرؤيتان والديناميتان فيما بينهما حول حاضر ومستقبل البلاد السياسي ومنه نمطه التنموي ، و تفرض بالتالي على الحراك الاصلاحي نفسه طبيعة الايقاع الذي من المفروض أن يتحدد به ، فإما التقدم والانطلاق وبناء المستقبل ،وإما الرتابة واعادة انتاج الماضي وبالتالي الجمود والكمون. ماذا نقصد؟ وكيف يتم هذا؟ 1- صراع بين نمطين وسياقين بداية إننا نقصد برؤية «الجمود»؛ منظور ورؤية من جاء إلى السلطة وافدا إليها بقناعة مغرقة في الوثوقية والدغمائية أن دورة الحراك الاصلاحي الجماهيري ذي المسحة السياسية انتهت ، وصار يدير الأمور – من جراء تلك القناعة - بمنطق إدارى مكتبى معزول ومريح حيث كل شىء قد عاد إلى أصله أو ينبغى أن يكون كذلك. أما رؤية «سيولة الحركة »؛ ترى أن دينامية الاصلاح لم تحقق مطالبها بعد ومن ثم وجب الاستمرار فى الاحتجاج والنضال إلى أن تتحقق أهداف الحراك الديمقراطي المغربي. أنه الصراع بين فكر وسكونية الدواوين والترتيبات الادارية وفكر وحركية المجتمع . إنه صراع بين عالمين مختلفين تماما. رؤية الجمود تنظر إلى الأمور بشكل تبسيطى وثنائى. فلقد أجريت انتخابات فرضت نزاهتها التامة ومصداقيتها ومن ثم لابد من القبول بشرعية السلطة التنفيدية الجديدة، وأى خروج على هذا التفكير إنما يعنى أن هناك قوى مضادة للاصلاح تفعل فعلها بدينامية ، ولابد من القبض على ايقاع مثيري التشويش . وأنه ينبغى استكمال بناء مؤسسات الدولة بعد دورة الحراك الديمقراطي سعيا إلى الاستقرار من أجل قدوم الاستثمار وتحريك دورة الانتاج . وأن السلطة التنفيذية تقوم بمهامها على أكمل وجه. فى المقابل نجد وقد تجمعت الأسباب المختلفة للغضب من قبل أنصار «الحركة» لتكون ما أسميه «الغضبة الكبرى» لأنهم يرون أن السلطة الجديدة، وهى جديدة بالفعل من حيث أنهم ليسوا الوجوه التى حكمت على مدى عقود، تتبنى نفس النهج الاقتصادى والتدبيري الذى سلكه من كانوا قبلهم وأدت إلى إفقار البلاد وانتفاء العدالة بكل أبعادها ومستوياتها، واتبعوا نفس السياسات الأمنية القمعية المهينة لأبناء المغرب الكرماء، ولجأوا إلى تقييد الحريات بتبنى سياسات مقيدة للحريات. إذن هو تراجع تام –حسب هدا التقييم -عن تحقيق مطالب الحراك الذى انطلق فى رحم المغرب الجديد ما قبل 20 فبراير 2011 وتعزز من خلال فعالياتها وتاريخيتها. الأخطر أن من ينتمون لحركة الاصلاح الديمقراطي التراكمي قد وجدوا الرموز السياسية والاقتصادية للسلطة الجديدة وقد بدأت تتواصل مع الرموز والمفاهيم الاقتصادية والسياسية للسلطة القديمة. إذن، الرؤية المكتبية الجامدة للاصلاح ترى أن كل الامور تسير على ما يرام وتمضي على الوجه الاكمل ، وفق منطق الاصلاح في اطار الاستقرار ، بشكل طيب لولا المؤامرات وقوى الردة المضادة ويستخدم نفس المفردات التاريخية التى استخدمتها بعض القوى السياسية في التجارب السابقة ، وكأنه يستحضرها من أرشيف ديوان السياسة في البلاد ...ورؤية الحراك الديمقراطي التى ترى أن هناك الكثير الذى لم ينجز والأكثر إعادة انتاج القديم وضخ الدماء الجديدة الفوارة فيه...وبين الرؤيتين: «الجمودية الستاتيكية » و «الميدانية الحركية»، تكمن الأزمة السياسية والاجتماعية الراهنة...كيف؟ 2- تحولات كبرى .. استجابات كبرى بالعودة إلى خبرات الآخرين وإلى الأدبيات المعتبرة التى رصدت وسجلت ونظرت لنضالات الشعوب من أجل التقدم، نجد أن أحد أهم المعايير التى يقاس بها مدى كفاءة وفعالية التقدم هو حدوث «تحولات نوعية فارقة » فى مجالات المواطنة والديمقراطية والتنمية والنهوض الاجتماعي العام . وفى نفس الوقت تجاوزت دول الموجة الرابعة من التحول الديمقراطى بمعناه الشامل بحسب الباحثين في مجال العلوم السياسية ما يلى: • في تجاوز مازق النظرة التقليدية للاصلاح وهى النظرية التى كانت تسمح بانتهاك الحقوق بدعوى ضرورات الانتقالية ثورية كانت او اصلاحية . أو تدفع الحاكم بدعوى ضبط الوضع العام والتحكم في مقاليد الأمور والسيطرة على المؤسسات أن يلجأ إلى بناءات وصياغات دستورية استثنائية تصنع شرعية مناقضة للشرعية التى جاءت به. والمفارقة الكبرى هنا إننا سوف نجد السلطة الجديدة قد وقعت فى نفس الأخطاء الكبرى التى وقعت فيها كل السلطات السياسية الانتقالية داخل اللحظات التاريخية الكبرى على اختلافها. واقع الحال لم تستطع الذهنية «الديوانية،المكتبية» للسلطة الجديدة, ومعها حتى لا نظلم السلطة الجديدة ما يلي: • الكثير من عناصر النخبة الفكرية والاعلامية والسياسية . • كذلك القوى و البنيات والمؤسسات القديمة التى لا تزال تحلم بعودة القديم وإعادة إنتاجه ، ومده باسباب الحياة . • وأيضا الشرائح الاجتماعية التى كانت لها مصالح وثيقة مع النهج القديم للسياسة والاقتصاد . • بالإضافة إلى جزء من الطبقة الوسطى المترددة والتى تظن أن القديم كان أفضل مع غموض المستقبل وطول المرحلة السياسية الحالية والموسومة بالانتقال و التى ربما تؤدى بنا إلى ما لا يحمد عقباه من تهديد اسس الاستقرار والوفاق المجتمعي العام . أقول لم تستطع السلطة الجديدة ومعها ما سبق ذكره لحد الان ، الاستجابة لما أطلقت عليه المرحلة التاريخية بالتحولات الكبرىولا الوفاء بمقتضياتها ، التى جرت فى مغرب اليوم بفعل حراكات اصلاحية عميقة غير نمطية، أظنها مستمرة وممتدة بأشكال عدة مبتكرة. وهنا مربط الفرس. 3- مأسسة المطالب الاصلاحية ، دينامية المجتمع كسند لعمق الاصلاح إن الحراك الاصلاحي الذى جرى فى المغرب لم يكن حراكا نمطيا على شاكلة الحراكات الاصلاحية الكبرى أو ما تلاها من ارتدادات أو ثورات أخرى. إنه «حراك مركب»؛ تداخلت فيه عناصر عدة منها : الجيلى والطبقى والمكانى والجهوى والدينى والمذهبى والجنسى. حراك تم على مراحل واتخذ اشكالا مبدعة من الاحتجاج فى ظل لحظة معرفية وتقنية يسرت للطليعة الشبابية أن تؤمن تغييرا غير مسبوق وفريد. حراك فى مواجهة عقود من الاستبداد السياسى والريع الاقتصادي والجمود الثقافى أوصل البلاد إلى ما هى عليه. وعليه فإن ذهنية الجمود الاداري لن تنجح إلا إذا استجابت للتحولات الكبرى التى حدثت من: أولا: التحرك القاعدى للمواطنين، وثانيا: مواجهة النظام السلطوي الأبوى، ثالثا: إسقاط القداسة والعصمة عن السلطة/الحاكم ونفي مركزية الحاكم ، رابعا: إسقاط الشمولية كنهج في السياسة والاقتصاد والثقافة . وأى محاولة للارتداد عليها فسوف تواجه بذهنية وإبداع الحراك الديمقراطي الاصلاحي العميق. خاصة أن هذه التحولات تحدث فى ظل أجواء عالمية تشهد تضاعفا للمعرفة وتجددا للتكنولوجيا غير مسبوق. الأمر الذى يستدعى خروجا على المألوف. إن الحراك هو نقيض الجمود. وواقع الأمر أن خروج المواطنين على اختلافاتهم إلى الساحات العامة والفضاء العمومي إنما يعنى أنهم ضاقوا بكل ما هو نمطى وتقليدى ومكتبى وظيفته «تستيف» الملفات...الخ، مع بقاء كل شىء على حاله. لابد إذن لمواطنى الحراك الديمفراطي أن يجدوا السلطة التنفيدية الوليدة و الجديدة تعبر عنهم وعن مطالبهم برؤى ولغة مختلفة. المواطنون فى الميادين أبدعوا فلما لا تنتقل هذه الإبداعات إلى السلطة أو يتم مأسسة إبداعات الميادين. ألا يستوقف أهل الجمود السلطوي المحافظ هذه الإبداعات النضالية الجماهيرية التى لا حصر لها ، والتى تتم خارج المؤسسات الطبيعية أو القنوات المؤسساتية التى من المفترض أن تخرج منها الإبداعات والاقتراحات. لننظر إلى الفعاليات الشبابية فى شتى المجالات وكيف تبدع فى كل مساحة شاغرة تجدها حتى تصطدم بموظفى الدواوين الوزارية والتراتيب الادارية يمنعونهم وفق اللوائح وهكذا ورثت السلطة الجديدة من السلطة القديمة أسوا ما كانت تحمى به نفسها من جهة وتمنع به حراك المواطنين من جهة أخرى. ••• الأكيد أن حركة المواطنين سوف تستقوى بالميادين وبالساحات الجماهيرية ، وتستلهم روحيتها وتعود إليها عند اللزوم إذا ما ظن البعض أنه يمكن حصار التغيير أو كبحه أو حده طبقا لمصالح القلة من النخب المعزولة. التغيير إن لم يكن كاملا مكملا ووفق أعلى المستويات التى عرفتها الإنسانية على اختلاف ثقافاتها فسوف تستمر الحيوية فى الساحات النضالية الجماهيرية ويجب ان تستمر تحصينا للمرحلة واحقاقا للتوازن الاجتماعي المأسور... وسيكون لسان حال المواطنين ما قاله أحد المفكرين الرموز في نبرة لها يقين النصر في الخلاص التاريخي من أعطاب الماضي الاستبدادي: التاريخ لنا ، وجهته تحددت ،وأشرت لمصير نهائي حتمي .. و هو من يصنع الشعوب... غير أن التاريخ لا تصنعه سلطة قاهرة ولا قوة باطشة ،حتى وإن كانت ناعمة ، فإنهما لن تستطيعا إيقاف سير التطورات الاجتماعية والسياسية الكبرى ، الماضية باصرار في اتجاه التاريخ ومنطقه حتى منتهاه.