ما أن تعبر عتبة بابها الحديدي، والذي كتبت عليه بثلاث لغات، منها العبرية، عبارة "المقبرة الإسرائيلية لمدينة فاس"، حتى تجد نفسك وسط مقبرة مكتظة بحوالي 13 ألف قبر لمغاربة يهود ممن عاشوا بمدينة فاس، وهم يرقدون في سلام تحت الظلال الوارفة لغابة من الأشجار المتنوعة. وأنت تطأ أرض هاته المقبرة اليهودية بالعاصمة الإدريسية، والمعروفة ب"الميعارة" والممتدة على مدخل حي الملاح المقابل للبوابة الرئيسية للقصر الملكي، تطالعك العبارة التي يتلوها الزائر اليهودي للمكان، والتي تقول باللغة العبرية: "مبارك أيها الرب، إلهنا ملك هذا العالم". معظم قبور "الميعارة" مصبوغة بالجير، فيما تلك التي تعود إلى أشهر "الربيين" مبنية على شكل غرف يزيّنها الرخام المنقوش عليه. فضلا عن النجمة السداسية، كُتب بالحروف العبرية اسم صاحب القبر وصفته ونبذة عن حياته وتاريخ وفاته؛ ضمنها أضرحة أشهر الحاخامات ك"يهودا بن دحان"، و"فيدال سرفاتي"، و"حايم كوهين"، و"يديديا مونسيكو". ويسرد البورقادي أوكاشة، أحد حراس المقبرة لفترة تمتد ل30 سنة، حكاية القبر المتميز داخل "الميعارة" بقبته الزرقاء، فيقول إن هذا القبر، الذي يتوسط قبور عائلة السرفاتي، يحتضن رفات للا سوليكة، المعروفة عند اليهود ب"الصديقة صول"، والتي تتضارب الروايتان الإسلامية واليهودية في شأن إعدامها سنة 1834 م، وهي في 17 ربيعا من العمر. ويوضح متحدث هسبريس، الملم بأدق تفاصيل عادات يهود حي الملاح بمدينة فاس، أن التجويف الذي يوجد بقبر للا سوليكة مخصص لإيقاد الشموع تبركا بروح صاحبة القبر، والتي تورد الرواية الإسلامية أنها أعدمت بعد أن ارتدت عن الإسلام الذي اعتنقته للزواج من شاب مسلم بمدينة طنجة، حيث كانت تقيم أسرتها الوافدة من الأندلس؛ عكس الرواية اليهودية التي تؤكد أن "صول"، الجميلة والفاتنة، لم تتخل عن دينها قط وماتت شهيدة في سبيله. لكن المؤكد في قصة للا سوليكة، يوضح البورقادي، أن أحد "الربيين" اليهود اشترى جثة الفتاة اليهودية بعد إعدامها حتى يتسنى دفنها بالمقبرة اليهودية، مبرزا أن قبرها ظل مزارا للتبرك من قبل فتيات فاس، المسلمات واليهوديات على حد سواء، تترددن عليه باعتبار للا سوليكة ولية صالحة. وبين القبور ناصعة البياض، يوجد متحف صغير، يحوز مفتاحه القائم على المقبرة، شقيق الراحل ألبير دوفيكو الرئيس السابق لمجلس الطائفة اليهودية بمكناس دفين المقبرة ذاتها، والذي كان خلال زيارة هسبريس لها خارج مدينة فاس؛ وهو متحف، يورد البورقادي، يزخر بعدد من الأغراض اليهودية النادرة، مثل كرسي "النبي إلياهو" المستخدم في طقوس الختان عند اليهود، وأحد أسفار التوراة، ومجلد كبير يدوّن فيه الزوار انطباعاتهم عن التعايش بين المسلمين واليهود. متحدث الجريدة قال بأنه دأب، بالإضافة إلى حراسته للمقبرة الإسرائيلية، على صنع القماش الذي تلف فيه أسفار التوراة، والمحفظة التي تسلم إلى الطفل اليهودي عند بلوغه سن التكليف في الديانة اليهودية والمكتوب عليها بالعبرية عبارة "بر ميتصفا" التي تعني، وفق الطقوس اليهودية، "الولد الصالح" أو "الابن المسؤول"؛ وهي أغراض قال البورقادي بأن المتحف المذكور يحافظ على عدد منها. ويضيف حارس المقبرة اليهودية بفاس، والذي طالب بتخصيص مكافأة لكل الذين ساهموا في المحافظة على الإرث اليهودي بالعاصمة العلمية للمملكة بمناسبة استئناف العلاقات المغربية الإسرائيلية، أن المقبرة المذكورة مقسمة إلى مربعات وأرقام متسلسلة؛ ما يسهل، حسبه، التعرف على قبور أصحابها، مشيرا إلى أن المربع الذي توجد به قبور بدون هويات تعود إلى متوفين خلال فترات تفشي الأوبئة، والذين قال بأنهم دفنوا على عجل لمحاصرة الجائحات.