حل الشاعر العراقي ضيفا على المغرب في إطار الاحتفال باليوم العالمي للشعر، قبلها كنا قد التقيناه في باريس وأجرينا معه حوارا مستفيضا، خص به جريدة "هسبريس" الإلكترونية حول قضايا عديدة، اصغينا إليه وباح لنا بالكثير مما في جعبته من أفكار وصور وقناعات، في السياسة على اعتبار أنه ديبلوماسي، كما في الادب والفكر على اعتبار أنه شاعر قبل كل شيء وباحث وحصل على شهادة الماجستير من السوربون... احتفى به فرع اتحاد كتاب المغرب بطنجة وفرع اتحاد كتاب المغرب بالقصر الكبير، وهو الاحتفال الذي أنهاه بقراءة نص وارف لشاعر المغرب وشاعر المدينة الراحل محمد الخمار الكنوني، تحية له ولشعره الباقي بقاء الحياة. أريد أن أتحدث إلى الشاعر فيك قبل كل شيء، أريد أن أعرف كيف تكتب القصيدة، كيف تجيء إليك، كيف تنتظرها، وأريد أن أعرف المكابدات التي تعيشها في انتظارها؟ علاقتي بالكتابة الشعرية، بالقصيدة، تكاد تكون أقرب إلى ما قاله مرة الشاعر الفرنسي "ديو فيك "هناك من الشعراء من يبحث عن الشعر في القصيدة، يدخل في العملية الشعرية يبحث هو عن الشعر، وقد لا يصل إلى الشعر وفي هذه الحالة يترك لنا القصيدة، يترك لنا نحن عملية البحث عن الشعر دون الوصول إليه كقصيدة. وهناك شعراء لا يبحثون عن القصيدة وإنما يجدونها، وأول ما يجدونها يكتبونها. أنا عندما أجد القصيدة أكتبها فقط، ولهذا أمرُّ بفترات لا أكتب. أحيانا أكتب ديوانا في شهر، حصل هذا معي مرتين، وأحيانا يمر علي سنتين لا أكتب بيتا، لأني لا أجد القصيدة. أعتبر الحالة الشعرية حالة دائمة، أقصد أن الشاعر هو حالة دائمة من الترقب، من الرصد، من الالتقاط، من التخزين بالوعي واللاوعي، هو حالة مستمرة من النسق الطالع والهابط مع العالم، مع المحيط. تتداخل عنده الصور والرؤى دون أن يدري بها. هناك عبارة لآراغون يقول فيها " كل عبارة تأتي هي عبارة حبلى ومنها تتولد القصيدة". أنا أعيش هذه الحالة. كل مشهد، كل لحظة إنسانية تمر علينا، نعيشها جميعا، بمختلف شرائحنا. غير أن لحظة استقبال الشاعر لها تختلف عن استقبال أي إنسان آخر لها، لحظه تخزينه لها تختلف عن تخزينها من قبل أي إنسان آخر، تمثله لها يختلف عن تمثل أي إنسان آخر. كل هذا يبقى في دواخلنا جميعا إلى لحظة الكتابة، حينما تولد القصيدة، حينما ينتقل كل هذا إلى اللغة. ولما يجد طريقه إلى اللغة تصبح قصيدة. أنا أعيش لحظات شعرية عديدة في حياتي، سواء كانت مشاهد الحياة اليومية، سواء كانت أخبارا للعالم، سواء كانت هموما شخصية، ذاتية، أعيشها كحالات شعرية دائمة، لكنها لا تنتقل إلى القصيدة، تبقى شعرا، أعيشها كحالة شعرية لأني لم أجد لها ممرا داخل اللغة. هل تعتقد أنه، في ظل ما يشهده العالم الآن من تطور في وسائل الاتصال الحديثة وانتقال الكتاب من الورق إلى الشاشة الضوئية، لازالت هناك ضرورة أو جدوى للشعر؟ بالتأكيد. الشعر أقدم نص كتبته البشرية، وأول نص ظهر كان شعرا. وإلى أي حد يمكن للغة أن تسهم في هذا الاختراق؟ اللغة هي أهم شيء في الشعر. قد تكون الصور والموسيقى الشعرية مهمة، لكن أهميتها ثانوية أمام المفردة عندما تسقط كالمزمار، وحينما تأتي في مكانها، وحينما تكون مختزلة ومعبرة، وتشعر بها كالصخرة لا تتزحزح. اللغة التي يصل بها الشاعر إلى التعبير بها كمفردة مكتظة بذاتها مكتفية بنفسها، مضيئة. وهذا إدراك ليس سهلا، ولا يمكن لأي كان أن يدعي امتلاكه. ولهذا فإن أي اتكاء آخر، على عكازات غير هذا من أجل تحسين الأداء اللغوي يظهر أنه معيب. ويظهر ذلك أكثر عند الترجمة، أو عندما تمر عليه مرحلة طويلة من الزمن. ولكن النص الماسك بقدرته على التكثيف، وبقدرته على تعبئة المفردة بمخزون إنساني ومعرفي وجمالي وعاطفي، يصير نصا أكثر شاعرية. هل في هذا الإطار، يأتي مشروعكم، كتاب في جريدة؟ أنا أحببت هذا المشروع لأني رأيت فيه نوع من الاحتيال، الاحتيال الجميل، على القارئ. نأتي بكتاب كامل ونخدع الذي لا يقرأ، ننقله إلى جريدة، ونطلب من فنان أن يعرضه بجمالية، ونقدمه مجانا. وإذا أعجبه يقرأه أو يرميه في الزبالة. من صاحب الفكرة بالأساس؟ روائي من البيرو اسمه مانويل إسكورزا، وقد توفي في حادثة طائرة ثم خلفه ابنه خوليو مانويل إسكورزا وحمل الفكرة إلى فيديريكومايور مدير عام اليونيسكو الأسبق، وبعد نجاح الفكرة في أمريكا اللاتينية كلفني بها فيديريكو مايور وكان اسمها بالإسبانية periolibros ، ولما جاءتني الفكرة من مايور سُحرت، غير أني اكتشفت أن أمامها من التحديات ما لا يمكن تصوره. كان على العرب أن يتفقوا على كتاب بعينه، وكل واحد يتبرع بكتابه، وأن تكون هناك مؤسسة رعاية تدفع للموظفين العاملين. وقد واجهت هذه التحديات إلى درجة أن مايور شبهني بعاشق يمشي وراء أميرة يطلبها دون أن ينتبه إلى أن عليه أن يتجاوز أسوارا عالية محيطة بها. برهان باموق الكاتب التركي المشهور قال عندما تسلم جائزة نوبل، بأنه يكتب لأن الكتابة تمنحه حظوة ومكانة بين الناس. هل استطاعت القصيدة، بالنسبة إليك، أن تمنحك هذه الحظوة، خصوصا وأنك تعيش مغتربا بين الناس؟ قد لا أعبر عن الأمر بنفس صيغة باموق، لأني لا أبحث عن الحظوة بين الناس عبر القصيدة. قد تكون الحظوة نتيجة، وقد أرتاح لها، غير أنها ليست منطلقا. أنا أكتب أولا لأني لا أصلح إلا لهذا، أقصد للكتابة، وثانيا لأني عندما أنتهي من نص وأُعجب به، ويبقى حيا دون أن ينتهي به الأمر إلى سلة المهملات، أشعر أني وقتها من أسعد الناس، وأني وجهت صفعة حقيقية للموت، وأني أدخل في دورة حياة مختلفة. هذه هي الحظوة عندي. وماذا عن القصيدة المغربية؟ لا أدعي معرفة كبيرة بالقصيدة المغربية، وهذا ناتج عن نقص في التواصل فقط، لكن القصيدة المغربية كما عرفتها من بعض نصوص الشعراء المعروفين لا أجد فيها ما يبدو أنها تستحقه من عناية، وعدد من القصائد التي أقرأها لأول مرة لشعراء غير معروفين تكون رائعة. هذا بشكل عام، غير أني، بشكل خاص، أرى ثراء حقيقيا في التجربة المغربية خصوصا في قصيدة النثر، من خلال القدرة على التجريب، وامتلاك الإمكانية على كسر الهوة بين الشرق والغرب، أقصد أنه لم يعد قائما الحديث عن قصيدة مغاربية، بل عن نص عربي حديث في أماكن مختلفة فقط. هل استطاعت الكتابة النسائية (وإن كنت لا أومن بهذا التقسيم) أن تنتج نصا قويا؟ أعتبر أن الكتابة النسائية لا تستحق هذا السؤال لأن فيه إساءة لقدرتها. وقد قرأت نصوصا نسائية لا يصل إلى مستواها النص الذكوري. التفاوت بين الشعراء ليس جنسانيا وإنما نصيا. أهم مظاهر الحداثة أن أنهي النظر إلى الكتابة من منظور أبيسي، ومن منظور الأعراف والتقاليد. ننتقل الآن إلى فضاء الحراك العربي الحالي، أين يتموقع الشاعر شوقي عبدالأمير؟ ما حصل لنا منذ عام 2011 لم يحدث في كل التاريخ العربي ولا في مخيلته. منذ 1500 سنة كانت الحيرة، وهي دويلة صغيرة، تابعة للفرس، وكندة، وهي دويلة صغيرة، تابعة للروم. وعندما جاء الإسلام قام بثورة بالمعنى الاجتماعي والديني، وقام باحتلال المدائن وأسس أخيرا الإمبراطورية الإسلامية. وهذا أمر حصل مع كل الإمبراطوريات لأن التاريخ يكرر نفسه. لكن العرب بعدها انكسروا تاريخيا في القرن 13 مع سقوط بغداد، وشكل ذلك منعطفا جبارا، حيت انتهى الكيان العربي، وتم الدوس عليه وسحقه من قبل المغول، وانتهى به الأمر إلى عصر الانحطاط لمئات السنين إلى أن جاء الاستعمار الحديث حيث سقطت المجتمعات تحت سيطرته، و بعد الاستعمار جاءت الحركات التحررية التي هيمن عليها صوت العسكر والعائلات التي بدأت تحكم العالم العربي. هذا باختصار تاريخ العرب. أين صوت الشعب داخل هذا كله؟ أين احترام إرادة الشعب عبر احترام صوته من خلال صناديق الاقتراع؟ لم يحصل ذلك في التاريخ العربي كله. في رأيي، ما يحصل الآن يشكل بداية تحول وجودية. الآن بدأ العرب دخول التاريخ. أما سابقا فكان التاريخ هو الذي يجرهم إليه عبر عربات دون قاطرة. الآن أصبحت الشعوب العربية هي القاطرة. لكن هناك مفارقة، ذلك أن كل الأفكار التي تحدثت عن القومية العربية، وأن العرب دولة واحدة ليس لها أي دليل حقيقي على وجود وحدة تحققت على مستوى الواقع. عبدالناصر مثلا قام بانقلابات، ودبج خطبا نارية وشكل وحدة مع سوريا، واليمن أشعل الثورة، دون أي دليل على أن المجتمعات العربية تتحرك بشكل عضوي مشترك، لكن مواطن واحد من تونس أحرق نفسه تساقطت على إثره الدول العربية مثل الدومينو. الشعوب العربية الآن أثبتت أن بينها مشتركات كثيرة، وأنها تتحرك كشعب واحد، حينما واجهوا مصيرهم الحقيقي الذي هو دخول التاريخ. لكن هناك من يتحفظ على هذا الكلام بين المثقفين، لأن هذا التحرك انتهى بتتويج الحركات الإسلامية التي اقتنصت نتائجه. وأنا أختلف معهم حتى وإن كان الثمن الآن تتويج الأغلبية الدينية، غير أني سأظل من أوائل المعارضين لهذه الأغلبية بكل الوسائل الحضارية. لأنه يمثل السلطة وأنا أمثل المعارضة. وهذا أمر مختلف عن الصورة القديمة التي كانت فيها السلطة قمعية وأنا كنت أمثل المقموع. القبضة لعسكرية لبشار الأسد في سوريا مثلا لا يمكن مواجهتها بمعارضة، لكن عندما ستصل الحركة الدينية إلى السلطة ستكون هناك معارضة وستكون اللعبة الديمقراطية أكثر تكاملا وصحيةً. ومن جهة أخرى فإن الدين لم يكبر ولم يهيمن على حياتنا العامة ولم يطبق على مرافق الحياة إلا لأنه بقي في المعارضة، بقي مشرقا، بقي صاحب مثل عليا، وليس هناك أقسى وأوسخ من السلطة، فليدخل الدين إلى السلطة وليتسخ، أو يتطور، أو يستقيل مثلما حصل للكنيسة. وسيعود وقتها إلى لمساجد. دعونا نرى. فهذه تجربة كبرى، فلماذا نخاف من التجربة الدينية. وللنظر إلى تجربة الحكم الديني في مصر مثلا، فقد وقعت في عدة مطبات خلال أربعة أشهر. وفي إيران أكثر الناس الذين كُرهوا هم رجال الدين. وكلما مر الزمن أكثر سيُكرهوا أكثر. والثورة الفرنسية دامت 150 سنة إلى أن استقر البرلمان الفرنسي. إذن لابد من دخول التجربة.