كل متتبع لمسارات الإصلاح التربوي ببلادنا، يقف عند مفارقة محيرة، إذ أن المغرب منذ الاستقلال إلى الآن وهو لازال يتصارع من أجل إقرار منظومة تربوية رائدة، ولذلك ما فتئ العقل السياسي التربوي في إنتاج برامج إصلاحية، فمنذ تشكيل اللجنة العليا للتعليم سنة 1957، فاللجنة الملكية الملكية لإصلاح التعليم سنة 1958، مرورا بلجنة التربية والثقافة سنة 1959، فالمجلس الأعلى للتعليم برئاسة وزير التربية الوطنية 1959 فمناظرة المعمورة سنة ،1964 فأول مجلس أعلى للتعليم يرأسه الملك(الحسن الثاني)، سنة 1970 فمناظرة إفران السنة1970، وإفران سنة 1980، فاللجنة الوطنية للتعليم سنة1994 والتي لم ير مشروعها النور( بسبب رفض الملك الحسن الثاني لمبدأ التعريب التام لكل أسلاك التعليم، وأيضا للمجانية كما وسمها الملك ب"الهوجاء"). ولعل في قراءة أولية لهذا المسار يتبن مدى الصراع الإيديولوجي والسياسي بين السلطة المخزنية، وبين باقي الفاعلين خصوصا التيارين الإسلامي والعلماني. وقد كانت بؤرة هذا الصراع في المنظور المرجعي لإصلاح التعليم، حيث برز توجهان: الأول يريد إصلاحا جذريا يمس كل المنظومة بما يعنيه ذلك من إعادة الاعتبار للقيم الدينية والروحية للمجتمع المغربي ومن ثم صياغة مشروع إصلاحي تربوي ينسجم مع هذه الرؤية الكلية، بما يعنيه ذلك من تعريب لمختلف أسلاك التعليم، ومن ربط التعليم بالقيم الدينية والانطلاق من الذات ومن مقوماتها ومدخراتها لإحداث النقلة النوعية في مسار الإصلاح، وقد مثل هذا الاتجاه جبهة العلماء والفاعلين المتشبعين بالروح الدينية وبالقيم الإسلامية. الثاني، يرى أن منطلقات الإصلاح التربوي، لا بد أن تستحضر الربط بين القيم الدينية والقيم الكونية و الحفاظ على مخلفات الإرث الفرنكوفوني، ممثلة في ضمان استمرارية الازدواجية اللغوية وإقامة تجاسر بين هاتين المرجعيتين، ويستند هذا التوجه، على مستمسكات تقول بكون المغرب بلد منفتح وقابل للتفاعل مع كل القيم بنوع من الذكاء والعبقرية الحضاريتين، وقد مثل هذا التوجه بشكل كبير السلطة السياسية المتحكمة، ومن يدور في فلكها من هيئات وتيارات، كانت ترنو لإقامة حداثة قسرية مستوردة وملفقة للمغرب الحديث. في هذا السياق المحموم وفي ظل توالي الإخفاقات التي عرفها المغرب في الحقل التربوي، سيصدر تقرير البنك الدولي الشهير(1995) والذي خصص حيزا هاما للمسألة التعليمية والإدارة المغربية، ودعا لضرورة ملحاحية الإصلاح التربوي، قلت في هذا السياق، سيعرف المغرب ولادة لجنة خاصة للتربية والتكوين ترأسها الراحل "محمد مزيان بلفقيه" والتي تمخض عن أشغالها ميلاد "الميثاق الوطني للتربية والتكوين" سنة 2000. ورغم التمثيلية الواسعة التي ضمتها اللجنة الخاصة، حيث شملت كل أطياف اللون السياسي والنقابي والحزبي والجمعوي والعلمي، فإن عناصر التوتر بين الاتجاهين البارزين في الملف: الاتجاه العلماني والاتجاه الإسلامي، والتي تمثلت في موضوع مكانة مواد التربية الإسلامية في المنظومة التربوية المغربية، بين داع لشطبها وبين مطالب للحفاظ عليها. وفي حقيقة الأمر لم يكن هذا التوتر الجزئي إلا مؤشر على توتر آخر وهو المنظور المرجعي لإصلاح التربية والتكوين والذي بقي مرتبكا بين المرحعية الكونية لحقوق الإنسان والمرجعية الإسلامية، ورغم أن الميثاق عبر عن توافق بين كل هذه المكونات، حيث حاول أن يقدم مشروعا مجتمعيا يحقق" المشترك" بين كافة أطياف المجتمع المغربي، إلا أنه ضم في طياته عوامل ضمان الازدواجية ليس اللغوية فحسب ولكن الازدواجية القيمية مما يمثل أحد الأعطاب المزمنة لانطلاق المشروع الإصلاحي التربوي ببلادنا، ولعل ذلك ما يفسر استمرار نفس الأعطاب منذ بداية هذا المسار، والتي لا تتجلى في نظرنا في استمرار الأمية اللغوية والمعرفية عند شريحة هامة من المجتمع المغربي، وليس في عدم المواءمة بين مخرجات التعليم وسوق الشغل، وليس حتى في ضعف المردودية أو الكفاءة الداخلية لمنظومتنا التربوية، كالهدر المدرسي، والرسوب، وتراجع التحصيل المعرفي، وكذا الأداء الوظيفي لكل الفاعلين التربويين من تلاميذ ومدرسين، وأطر إدارية وتربوية، هذا مع تسجيل فروقات متباينة بين الوسطين القروي والحضري( وهذا ما تكشف عنه مختلف التقارير الرسمية والدولية)، ولا أيضا في التخبط والتشرذم الذي لا زالت تعاني منه المدرسة العمومية وبقية المدارس الخاصة، والتي مازلت غير موحدة في مضامينها وأهدافها ومناهجها وفلسفتها... وغيرها من الأعطاب التي لا يتسع المجال لجردها وذكرها وتفصيلها كلية (وهذا ما يشكل عملا مستقلا يمكن أن يبلور في مشروع أكاديمي مستقل). قلت ليست هذه الأعطاب التي ذكرتها هي الوحيدة وهي المؤشرة على فشل مشاريع الإصلاح (رغم ما تحقق من ايجابيات، وهي محدودة على كل حال)، بل إن الفشل الحقيقي في نظرنا المتواضع، هو أولا عدم القدرة على تحقيق الاستقلال الثقافي، بما يعينه رسم الاختيارات الاستراتيجية المنبثقة من الذات والمتجاسرة مع القيم المشتركة للمغاربة، والتي تشكل سندا قويا لإصلاح أي مشروع ومنه بطبيعة الحال المشروع التربوي الذي يقع في قلب هذه الإصلاحات. وثانيا عدم الاستجابة للتحدي المعرفي الذي يفرضه التطور العلمي المتسارع، والذي يتميز بحرب الأفكار، وهذا المكون المعرفي، لا يتولد بنقل المعرفة من تجارب أخرى، والعمل على استنساخها، بل إن المعرفة لها امتدادات فكرية عميقة تضرب في جذور البناء ألهوياتي للمجتمع، فلا وجود لمعرفة بدون رؤية كونية مؤطرة. في هذا الإطار نتساءل هل حكومة التغيير بقيادة حزب العدالة والتنمية قادرة على تحقيق هذه النقلة النوعية في مسار الإصلاح، والإجابة عن سؤال الأسئلة؟ أي مدرسة نريد؟ وبأية قيم؟ ولأي مواطن؟ ولأي مستقبل نريد؟ هذه الأسئلة أو الفرضيات التي لا ندعي الإجابة عنها لكننا سنعمل في العمود المقبل بإذن الله على مناقشة بعض من جوانبها وسياقاتها وهواجسها وآفاقها. *باحث في سوسيولوجيا التربية