يستوقفني دائما في مطالعاتي للنص القرآني، عمق التقدير الذي خص به الله الإنسان، تقدير منح للجوهر الإنساني عمقه وكتب تفاصيل مجده. الإنسان تبرير كوني عميق لحكاية الحياة وحكاية الخلق. الإنسان كيفما كان موضع تكريم وتثمين دلالي ورمزي، لذلك أعتبر هذا مدخلا مناسبا لمقاربة هذا الموضوع المختوم بالشمع الأحمر في الذات المسلمة. الحديث عن الصحابة اليوم، هو حديث عن فكرتنا عن القداسة، القداسة الخاصة جدا، المورطة جدا، القداسة غير الإنسانية ، قداسة تتشرب نسغ المطلق وتتنفس هواء مشارف الألوهية. ثمة طفل في مكان ما من الوطن يسأل أباه بسذاجة وعفوية: لماذا لا أرى عليا أو عمر أو أبى بكر في المسلسل؟ لماذا أسمع كلام أبي بكر ولا أراه؟ كيف أفسر يأبي تلك الهالة المشعة من النور، الهالة التي تحيط بوجه ممثل يؤدي دور علي، هالة تمنعني من تبين ملامحه؟ لا يحير الأب المسكين جوابا، فهو نفسه تعود على ذلك ، تم تنميطه بطريقة ما - أشبه بالصناعة الهوليودية- على أن يقبل شكل تقديم الصحابة في الأعمال الفنية دون اعتراض أو حتى تحفظ. الأب المسكين ليس مفردا بل هو يكاد يكون أمة ، أو شعوبا بكاملها ألفت ورضعت الحليب ذاته، ولم تنتبه لسبب ما، لداع ما، إلى أن الحليب الذي رضعته قد يؤخر نموها الطبيعي نحو الإنسان ونحو استحقاق الحياة، الحياة المفعمة بالممارسة الإنسانية، حيث الإنسان هو المقدس الأول والأخير. أطرح اليوم سؤال ذلك الطفل الذي كنته في زمن ما.لأني قريبا قد أصير ذلك الأب المسكين، ولا أحسبني سأكون فخورا بوضع الأب المحرج الذي لاينبس بكلمة تشفي غليل طفل مترع بالأسئلة،طفل متطلع لجواب يصله بالحياة. أباشر هذا الرغيف الساخن المحرم، من حيث يحرق أصابعي ومن حيث يلدغ وجدان أمة.فالصحابة لم يأتوا من كوسموس غيبي مختلف، ولم تتفتق بتلات الحياة فيهم بطريقة مريخية . الصحابة بشر يأكلون كما نأكل وينامون كما ننام، ويذهبون لدورة المياه كما نذهب، يغضبون كما نغضب، ويتسامحون كما نتسامح من فضل العفو وكرم الصفح.الصحابة يصيبون كما نصيب ، ويكرعون من نخب الخطأ كما نكرع،لهم ماضيهم كما لنا ماضينا ، صافحوا الحياة بيد الألم وصافحوها بيد اللذة. لماذا إذن تنقلب الآية عندما يتعلق الأمر بتقديمهم في عمل فني ؟ أو حين يتعلق الأمر بعرض سيرة عصرهم؟ العصر الذي اقتربت فيه السماء كثيرا من الأرض، لكنها لم تسحق الأشجار والجبال وتفاصيل الحياة المادية الدنيوية. لماذا نمعن في سحقها نحن الآن ؟ وكأن في ذلك الاقتراب وقع تحول غريب ، تحول فضائي المنشأ، تماما كما في قصص وأفلام الخيال العلمي، تحول تنفس فيه الصحابة برئة السماء، وسكنت أجسادهم البشرية أنوار بهاء قدسي ، أنوار سفحت دم الشرايين التي تغذي أجسادهم بمصل البشرية والطين الإنساني. لحظة آمن الصحابة بالدين وأنارت نفوسهم بالفيض الرباني، وعميقا تجذرت المبادئ الجديدة فيهم، لحظتها لم يحدث أن قطعوا الصلة ببشريتهم، بذلك النفس المشترك الذي منه نأخذ جميعا تفاصيل إنسانيتنا. لقد استمروا في العيش كما نعيش، يصيبون كما نصيب، ويخطئون كما نخطئ، يمشون في الأسواق ويتبتلون في المساجد،يقيمون الليل، ويأخذون نصيبهم من الراحة ، يضحكون كما نضحك ويبكون كما نبكي، ويكتبون يومياتهم بحبر الإنسانية العظيم، بل ويمرضون كما نمرض، ويغتبطون في شرفات الصحة كما نغتبط. المرض الذي زار أجسادهم لم يتحرج في مشارفتها لأنهم صحابة ، بل سار وفق منطق الحياة، المنطق الذي يذبح اليوم بسكين البلاهة قربانا لقداسة غريبة شائهة. لأنهم كذلك، يقول الطفل الذي كنته:مالذي يمنع اليوم من أن يقوم بأدوارهم فنيا ممثلون بشر أكلوا معهم من نفس رغيف البشرية المشترك؟ مالمانع من أن نرى شخصية أبي بكر أو علي أو أبي بكر يؤديها ممثل مقتدر متمرس على الأداء الفني؟ لماذا نعتبر ذلك تشويها لصورة الصحابة؟ وأين تحديدا يكمن التشويه؟ وأسأل اليوم بنفس الروح الطفولية البريئة : ماذا سيكون موقف سادتنا سدنة المقدس لو نضج فن النحت في زمن الصحابة ووصلتنا صور عن وجوههم المنحوتة ببراعة نحات مقتدر؟ أكان في ذلك منقصة لصورتهم؟ أيمكن أن نعتبر إطلالة أفعال الصحابة من خلال جسد ممثل، تطاولا على القدسية؟ هل فقد الممثل كل قدسيته كإنسان؟ كيف يصير الإنسان تشويها للإنسان؟ لماذا نصر على إخفاء شخصياتهم خلف سدف الأصوات؟ هل الصوت البشري مادة غير بشرية؟ لماذا لا نعتبر ذلك تطاولا على المقدس؟ في كثير من مشاهد عرض الصحابة في شاشاتنا، نسمع دائما ساردا أو راويا مفترضا ينقل ردود أبي بكر أو عمر أو علي إلى المتلقي.أبو بكر أو عمر أو علي وغيرهم لا يحضرون في الصورة، إنهم خارجها ملتفين بغياب بصري وحجاب لساني يمثله ضمير الغائب. أنهم خارج الصورة، خارج المشهد الإنساني، لنذكر سدنة المقدس الشائه أن الناس في زمن الصحابة كانوا يرونهم . أجساد ووجوه بشرية حقيقية صنعتها يد صانع واحد وأعطت مادة الكرامة لكل إنسان بعدل وتقدير. الناس لم يروا قط هالة نورانية تفيض من وجوه الصحابة ، وإن قيل ذلك فهو على محمل المجاز التثميني. أما عن الذين سيثورون في وجهي هذا حرام فأقول لهم أنا مواطن مسلم محب لله ورسوله وهذا برهاني فهاتوا برهانكم إن كنتم تفقهون. بات من الملح اليوم، الاعتراف أمام طفلنا الصغير بأننا أخطأنا لحظة شوهنا صورة الصحابة أمامه، فشوهنا معها صورته عن الإنسان وصورته عن نفسه. أقل ما يمكن أن يشفع لنا عنده هو أن ندعوه إلى عمل فني يمثل فيه الإنسان دور الإنسان ليولد مقدس واحد اسمه الإنسان. الإنسان هذا الإبداع الرباني المبهر. ""