من نيلها شعت الحضارة، ومن أهراماتها يعبق التاريخ، هكذا كان الماضي أما الحاضر فيسجل لميدان تحريرها أساطير وخرافات، كما بطولات وشهامات. المصري البسيط الذي قاد بي سيارة الطاكسي من مطار القاهرة الدولي إلى الفندق يحضر أمامي ماثلا وأنا أتابع برنامج "البرنامج" الساخر لباسم يوسف على قناة "سي بي سي" المصرية كل جمعة. أتذكر ذاك الشاب العشريني وهو يضغط بقوة جنونية دواسات السرعة قائلا "الشغل جدي ومافيش حد ممكن يتفرعن علينا..طردنا الخوف إلى الأبد". أتذكر إصراره وعزمه وقد استهوته لعبة الثورة عقب السقوط المدوي لمبارك، وأتابع برنامج باسم يوسف، وأقول فعلا تستحق مصر حكاما أرقى من كل الذين حكموها. باسم يوسف ظاهرة إعلامية جديدة في العالم العربي(حلقات برنامجه المبثوثة على اليوتوب تشاهد بالملايين)، ظاهرة لا يمكن إلا أن تكون نتاج مجتمع عانى من الكبت والقهر والتضييق والمسخ لأكثر من ثلاثين سنة، وحين انفتح أمامها ميدان التعبير لا بد أن يسخر من كل شئ. هو شكل من أشكال تطهير الذات مما علق بها من أوساخ تضخيم الذات والنفاق والسكوت والقاذورات السياسية والدينية والإعلامية النتنة، التي تبتلى بها المجتمعات بفعل دناءة الاستبداد. البرنامج الذي يعده طاقم ضخم، يزاوج بين النقد السياسي اللاذع والسخرية من كل شئ، من الذات ومن المواطن البسيط إلى أعلى هرم السلطة. يقول قائل " باسم هو مجرد كلب للميلياردير المصري "ساوريس" الذي فتح له أول مرة قناة "الأون تي في" بعد أن كان يلقي بحلقاته على اليوتوب. ويقول آخرون وراءه ماما أمريكا. أما هو فيقول عن نفسه" من ارتضى تسيير الشأن العام فعليه أن يخضع لقواعد المراقبة الشعبية مادامت مؤسسات الدولة في طور البناء". لا تخلو حلقة من حلقات برنامج البرنامج من تهكم على الرئيس مرسي وجماعة الإخوان وجبهة الإنقاذ والمعارضة والبرادعي وحمدين صباحي وعمرو موسى وشيوخ السلفية وغيرهم. المتضايقون من باسم يوسف يعتبرونها قلة أدب، لكن الشعوب الثائرة تعرف كيف "تتمسخر" من أحوالها ومن حكامها لتصحيح الانحرافات المحتملة. هناك في مصر سخرية من الرئيس وجماعته المتهمة بتسييس الدين والظلامية والرجعية، وهنا في المغرب مغن تجرأ على تسمية نفسه بالحاقد فأودعوه السجن لأنه نوى أن يصير مغنيا للإصلاح وليس للثورة. في برنامج البرنامج أغاني لاذعة تتهم مرشد جماعة دينية بما لا يمكن ان يقال دون خوف او وجل من متابعة، وهنا أغنية على اليوتوب لا زالت تقود في بلاد الاستثناء العربي إلى السجن لسنوات طوال. هناك في مصر يعبث برنامج البرنامج بلحية الرئيس وخطاباته وأقواله، ويتم تقليم أظافرها حرفا حرفا، وهنا من تجرأ على حمل قناع سخرية غير ملائم، يكون مصيره سنوات وأشهر من الإذلال في السجن. طبعا لم يصل أصدقاؤنا المصريون إلى هذه "النعمة" مجانا، دفعوا شهداء كثر(آخر التقديرات تقول 1000شهيد قتلوا على يد نظامي مبارك ومرسي)، وفقد العديدون أطرافهم وعيونهم، لكن للمغاربة نصيبهم، إذ لا أدري بالضبط كم من شاب فبرايري يقبع حتى الآن في سجون بلاد الاستثناء العربي، في بلاد تسمى مجازا دولة الحق والقانون، وتحاسب على النيات وتحاسب من حلموا ذات يوم بمغرب أكثر عدالة وحرية وأوسع آفاقا. من لم يجدوا له تهمة أو ممرا للاعتقال ألبسوه تهم السبعينات من تعاطي للحشيش واعتداء على موظف وتهمة الهجرة السرية وغيرها. أما الرسالة الموجهة للحالمين بغد أفضل فهي "كل حلم بالتغيير خيانة". طبعا هم لا يدركون أو على الأقل يتناسون أن المجتمعات الحية هي مجتمعات تسمح للأبناء بتجاوز الآباء. فلننصت إلى قول السوسيولجي المغربي جمال خليل في آخر محاضراته "المجتمعات التي تترك لشبانها فرصة التحرر بدرجة أو أخرى من ثقل العادات والقيم التقليدية هي مجتمعات حية وتتوفر على فرص كبيرة للإقلاع، لأن من خصائص الشبان البحث المتواصل عن الذات ولا يجب بأي حال من الأحوال اعتبار ما يقومون به نوع من الخيانة لمبادئ الآباء". بين برنامج "البرنامج" في مصر المحروسة، وتخوين الحالم بالتغيير في بلاد الاستثناء العربي بون شاسع...هناك مجتمع يطهر أوساخه بصراع سياسي ولو بالسخرية من كل شئ وهنا محاولات جادة لإعادة عقارب الخوف إلى نفوس الناس وتطهير عقولهم من جرأة فبرايرية حالمة ...ومابين الحالتين مخاطر شتى .. فهل يتعظ المتعظون؟..مجرد سؤال !