يدل لفظ البؤس في التداول اليومي على معاني متعددة، قد يشير إلى واقع الفقر والحرمان الذي تتخبط فيه شرائح اجتماعية عريضة، ويدل أحيانا على حالة وجدانية ونفسية تتصف بالحزن والكآبة كقولك يالك من بئيس، أو كنعت قدحي تحقيري يطلق على شخص تجرد من القيم الإنسانية واتصف بالخبث والنذالة إذ يصرخ في وجهه عادة بئس الرجل أنت مقابل نعم الرجل، كما يحمل أيضا على صنيع الإنسان وأفعاله، وعلى قراراته وأحكامه. أما لفظ السياسي فلا يقل دلالة عن البؤس بل يبدو اشد تعقيدا والتباسا ويطال كل مناحي الوجود الإنساني ويترسخ حضور السياسي في حياتنا اليومية وفي نمط معيشنا إلى درجة أن الإنسان العادي أصبح يربط شؤونه الخاصة والعامة وهمومه وقضاياه بما هو سياسي، فهذا الأخير يمسه في قوته اليومي وفي حله وترحاله، وفي أفكاره ومعتقداته مادام السياسي يخول لنفسه مهام التنظيم والتدبير والتوجيه والضبط والتحكم والمراقبة والعقاب...أضف الى ذلك يرتبط لفظ السياسي بفئة خاصة من الناس تتوفر على مؤهلات وإمكانات وتحكمها منظومة قيم وضوابط وتتولى النهوض بعبء مهام، وتطلع يوميا على شاشا ت التلفاز وعلى صفحات الجرائد، إلى درجة صارت مألوفة عند المتفرج أكثر من أعلام الفن والرياضة وتحولت موضوع المقاهي وقنوات تصريف الغضب...هكذا يشكل السياسي نسيجا وبناء علائقيا يربط من جهة بين السياسي ومنظومة القيم والمبادئ والضوابط التي تحدد مجال السياسي وتنظم فعله وحركته ومن جهة ثانية يشير إلى علاقته بالواقع والحياة وبالبيئة والمحيط. ولكن السؤال الذي يفرض نفسه بعد استقراء أهم دلالات كل من اللفظين البؤس والسياسي هو: ما سر هذا الزواج بينهما في العنوان والعلاقة التي تجمعهما ؟ ألا يمثل البؤس طبيعة وماهية السياسي؟ بمعنى أن حضور البؤس يلازم حضور السياسي ملازمة الظل لصاحبه وملازمة الاحتراق للنار أم انه مجرد أمر عرضي وحالة طارئة تصيب السياسي عرضية العلل التي تطارد الجسد؟ وهل نحتاج إلى تشخيص وتشريح خاصين للكشف عن خصوصية البؤس السياسي وتميزه وحتى لا نفتقده خلف أشكال البؤس الأخرى كالبؤس الفلسفي والبؤس الأدبي والفني والبؤس الديني والبؤس الثقافي...ألا يعتبر البؤس السياسي مصدر وأساس مختلف أشكال البؤس الأخرى بحكم أن الإنسان حيوان سياسي بطبعه على حد تعبير المعلم الأول أرسطو؟ وما هي اذن مظاهروملامح البؤس السياسي بالمغرب ؟ لقد أصبح البؤس بالمغرب من السمات المميزة للعمل السياسي بسبب ما تراكم منذ عدة سنوات من عمليات مقصودة للتمييع والتدجين والتبخيس، ورغم التغيير الحاصل في الخطابات الرسمية خلال السنوات الأخيرة، فإن العاهات التي أصيب بها المجتمع السياسي المغربي أصبحت مزمنة ومستعصية على العلاج أو على فرض وجود إرادة حقيقية لعلاجها. لعل الجميع أصبح يلاحظ في الآونة الأخيرة أن المشهد السياسي بالمغرب أضحى أكثر سوداوية وأكثر قتامة من ذي قبل بأغلبيته ومعارضته ولعل ما يحدث الآن للأغلبية الحكومية فيما بينها من تصاريح وتصاريح مضادة وفيما بينها وبين المعارضة خير دليل على ذلك. نحن حقيقة أمام بؤس سياسي وهرج ومرج يراد من خلاله تصفية حسابات سياسوية لن تخدم المواطن المغربي في شيء مما يعانيه من ضنك العيش وقساوته ونار الأسعار ولهيبها التي لم تلهب جيوب النواب والوزراء على حد سواء وإنما اكتوى بنارها فقط المواطن البسيط . هرج ومرج بعيد كل البعد عن المطالب الاجتماعية والاقتصادية والحقوقية الملحة لمغرب مابعد دستور فاتح يوليوز 2011. وهناك شبه إجماع بين المغاربة اليوم بان العنوان البارز في المشهد السياسي المغربي هو البؤس السياسي والاهتمام بالقضايا الثانوية ورهن مستقبل البلاد بحسابات شخصية آو سياسوية . وتبرزبعض مظاهر البؤس السياسي بشكل أكثر وضوحا في الهاجس الانتخابي الذي يسكن عقلية أحزابنا السياسية حيث يطغى الهدف الكمي عليها، وتكاد تتفق كلها في هاجس الحصول على أكبر عدد ممكن من المقاعد، سواء تعلق الأمر بالانتخابات التشريعية أو الجماعية أو المهنية، دون الاحتكام إلى معايير الاستقامة والكفاءة والفعالية؛ وما دام أن التجربة تؤكد بأن الذين يستطيعون «الفوز» في أغلب الحالات هم الأعيان وأصحاب المال الوفير، الحلال منه والحرام، فإن الأحزاب السياسية عوض أن تتنافس في وضع برامج واقعية، وتجتهد في ابتكار الحلول الناجعة للمشاكل المطروحة، فإن جهودها أصبحت تتجه أكثر للتسابق على استقطاب أكبر عدد ممكن من أصحاب (الشكارة) لترشيحهم باسمها، وتحقيق نتائج «مشرفة» بفضل البركة التي تكمن في (ثرواتهم)، والتمكن بالتالي من احتلال المراتب المتقدمة داخل المؤسسات. ومع وجود الهاجس المشار إليه لدى الأحزاب فإن أصحاب المال والجاه والنفوذ يتمتعون بحظوة خاصة، فالجميع يطلب ودهم، وحينما يتم استقطاب عناصر من هذه الفئة يتم منحها المكانة التي «تستحقها» داخل الحزب الذي وفدت إليه، ليس في الترشيح للانتخابات فحسب، وإنما كذلك في المؤسسات القيادية للحزب الذي استقطبها، وذلك على حساب المناضلين الحقيقيين للأحزاب المعنية، بقطع النظر عن رصيد هؤلاء أو كفاءتهم، أو تجربتهم، لأن المطلوب هو المقاعد التي يسهل الحصول عليها بالمال والجاه وهو ما لا يتوفر إلا لفئة يمكن تسميتها بالكائنات الانتخابية التي تمارس الترحال السياسي ويمكنها أن «تفوز» بأي لون سياسي مرورا باليمين والوسط واليسار دون أي حرج أو خجل . إننا فعلا نعيش زمن البؤس السياسي ، لأن البؤس بات قرينا ملازما للمشهد السياسي المغربي ، فكيف سنتخيل مؤسسة تشريعية حقيقية بوجوه انتخابية غير قادرة على التشريع و ضمان الدفاع عن التأويل الديمقراطي للدستور ؟ و كيف نريد ممارسة سياسية سليمة في ظل مشهد سياسي متأزم ما بين أحزاب سياسية تتحول في فترة الانتخابات إلى دكاكين انتخابية همها الأساسي هو استقطاب الأعيان و" أصحاب الشكارة" ، و دولة مازالت تتعامل مع الانتخابات بمنطق التحكم فيها و تكريس ثقافة الريع السياسي و هندسة الخريطة السياسية و التحالفات الحزبية ؟ إنها سياسة البؤس التي تنتج بؤسا ساسيا من نوع خاص جدا جدا . في ظل هذا الوضع الذي يميز مشهد نا السياسي يحصد المغرب الكثير من العاهات والأعطاب التي تؤثر سلبا على مساره التنموي، وتؤدي إلى المزيد من تفاقم مشاكله الاقتصادية والاجتماعية؛ ومن النتائج السلبية للممارسات السياسية السالفة الذكر يمكن أن نشير على الخصوص الى ما يلي : • استمرار تمييع التعددية الحزبية بشكل عبثي لا يعكس تعدد الطروحات الفكرية، والاجتهادات السياسية، وتنوع البرامج الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وإنما يعكس تزايد الطموحات الانتهازية لدى الفئات التي تراهن على العمل السياسي لخدمة الأغراض الذاتية والمصالح الخاصة ، مما يؤدي إلى صعوبة التمييز واختيار الأصلح والأجدر بتولي المسؤوليات التمثيلية. • عدم التجاوب مع رغبات المواطنين والتنصل من الوعود التي تقدم في الحملات الانتخابية، وعدم احترام معظم المنتخبين لمسؤولياتهم داخل المؤسسات التي يحصلون على عضويتها،حيث أصبحت الأحزاب السياسية تبيع أوهاما زائفة وأضغاث أحلام جريا وراء الكراسي والفوز بالانتخابات فتكثر من الوعود والتسويفات والدجل ولا يقبض المواطن في النهاية غيرالريح وما أكثر السياسيين الذين يحترفون قول ما لا يفعلون وينثرون الرماد في العيون وهمهم الوحيد الوصول إلى السلطة بأي ثمن وقد تربوا على هذا النمط من السياسة طيلة عقود فتراهم في المجالس يفتون وفي المنابر الإعلامية ُنظرون!!! • تراجع النخب المنتجة للأفكار داخل الأحزاب، على حساب الزحف الشعبوي ومن تجليات ذلك ضعف الخيال السياسي لدى معظم الذين يتصدرون المشهد الحزبي، وعدم التجديد في الأدبيات السياسية ، وضعف أو انعدام المبادرات الناجعة في مواجهة إكراهات الحاضر وتحديات المستقبل، وتكريس ظاهرة استنساخ البرامج، وغياب عنصر التميز لدى كل حزب، وتكرار الخطابات الفارغة، والوعود المجانية، والطقوس المملة. • بروز بعض القيادات والزعامات من أشباه الأميين والصعاليك والفاسدين والمفسدين، وما ينتج عن ذلك من انحطاط في الخطابات ورداءة في الممارسة السياسية، وطغيان الأنانية والوصولية، والدفاع عن المصالح الضيقة، وهدم القيم الأخلاقية والوطنية . فوصول تيار الشعبويين الى مقاليد الزعامات الحزبية يرسم صورة متكاملة عن هذا البؤس ويكشف عن المستوى الحقيقي لسياسيي بلادنا ممن مكنتهم أزمنة الرداءة من الوصول إلى مواقع القيادة و القرار، وبات من السهولة بمكان في زمن البؤس السياسي أن تصبح قياديا حزبيا و أيضا عضوا في الحكومة وكما صرح السيد رئيس الحكومة عبد الاله بنكيران ذات مرة : "يمكن أن تصبح رئيسا للحكومة وأنت نائم في منزلك..." كما أن شروط بلوغ ذلك المرام لا علاقة لها بالكفاءة والقدرات الحقيقية سواء منها السياسية والتدبيرية والتقنية نحن اذن أمام مشهد سياسي بئيس الخاسر الأكبر فيه هي الديمقراطية وعبرها المواطن المغربي . • تدهور اللغة السياسية و اعتمادها على قاموس لغوي بعيد عن الإيحاءات الرمزية المطلوبة في الحقل اللغوي السياسي قريبة من لغة القذف و التحقير ،ومن لغة الاستصغار والنعوت والتشبيهات والاستعارات التحقيرية والقذفية مثل : ( التماسيح ، العفاريت، الضفادع ، الأفاعي...)؛وهي ألفاظ مخلة بأبسط قواعد الحوار سواء من قبل أعضاء في الحكومة أو أعضاء في البرلمان بغرفتيه ،وإن جزء كبيرا من تدهور اللغة السياسية يتحمل فيه أعضاء الحكومة المسؤولية و هو أمر يُعْزى لدى بعضهم إلى رفع اسهم "شعبويتهم" علما أن مثل هذا المستوى اللغوي المنحط لا يعيد الاعتبار إلى المؤسسات الدستورية التي تناط بها المهام التشريعية و التنفيذية بقدر ما ستكون له انعكاسات سلبية على المدى المتوسط والبعيد ؛فكيف ضاقت اللغة على التعبير والتبادل وكيف لم تتمثل معاجمنا ديمقراطية الاختلاف ، ولم تنتج من أجل تجديرها حروفا وقواعد تعلمنا كيف نختلف دون أن نتقاتل؟ ومن المؤسف حقا أن البؤس السياسي أنتج لنا أجيالا لا تحصى ولا تعد من الانتهازيين وخاصة من طبقة أشباه المثقفين والجامعيين وأصحاب المال والنفوذ الذين استعملهم المخزن بوقا للدعاية الزائفة للتأثيرعلى الرأي العام كما أنتجت مواطنا خائفا و فاقدا لإرادته مستسلما لقدره غابت عنه المبادرة والحس المدني والمواطنة الحقيقية . وفي المجتمع الذي تستفحل فيه مثل هذه العاهات السياسية لا يمكن استغراب تزايد نفور الشباب ومختلف الشرائح من العمل السياسي والعزوف عن المشاركة في الانتخابات، وفقدان الثقة في المؤسسات، وخطورة الحالة التي وصلنا إليها لا تنحصر في رفض العمل السياسي المشروع، وإنما تكمن في الدفع بعدة طاقات للتطرف بتغطيات إيديولوجية متباينة يجمع بينها اليأس من العمل في إطار المؤسسات المشروعة مما يهدد الاستقرار ويجعل المستقبل مفتوحا على كل الاحتمالات التي لا تُحمد عقباها، خاصة وأن البلاد تعاني من انتشار الفقر والبطالة والأمية والتفاوت العميق بين فئة قليلة موسرة وفئات عريضة محرومة من وسائل العيش الكريم، فضلا عن التفاوت بين الجهات، وما تعرفه بعض المناطق من تهميش وحرمان من التجهيزات الأساسية والخدمات الاجتماعية، وترجيح المقاربة الأمنية في مواجهة الحركات الاحتجاجية على الحوار، والتضييق على الحريات، وغير ذلك من الظواهر والحالات المثيرة للتذمر والاستياء في الأوساط الشعبية. وخلاصة القول ، فإن البؤس السياسي داء خطير يضرب المجتمعات ليدخلها في أزمات متوالدة، وهو بالفعل مصدر وأساس مختلف أشكال البؤس الأخرى . وعليه فان الربيع العربي بما أدخله من مفاهيم جديدة ومتطورة قد خلخل البنى المجتمعية وحرك المياه الراكدة مما يتطلب القطع مع الماضي بكل هزائمه وكوارثه والتوجه نحو سياسة منتجة وإيجابية هدفها تحقيق مصلحة المواطن والوطن أولا وأخيرا، ولذلك فإن الحاجة الملحة للإصلاح لابد وأن تنطلق من معالجة الأمراض التي يعانيها المشهد السياسي، ولا يمكن وضع حد للبؤس السياسي الذي أصبح يلمسه الجميع إلا باتخاذ تدابير سياسية وتشريعية وزجرية ملموسة في هذا الاتجاه، وخلق الظروف الملائمة لعقلنة الممارسة الحزبية والعمل السياسي ، وضمان الفرص المتكافئة أمام التنافس المشروع، مما يساعد على إفراز نخب جديدة، ويعطي الأمل في الخروج من دوامة البؤس السياسي ، ويفسح المجال لقيام مؤسسات تتميز بالمصداقية، ويفتح الآفاق أمام الأجيال الصاعدة للمشاركة في بناء الغد الأفضل .