من ضمن النتائج السلبية للممارسات السياسية سالفة الذكر يمكن أن نشير على الخصوص إلى ما يلي: - استمرار تمييع التعددية الحزبية بشكل عبثي لا يعكس تعدد الطروحات الفكرية و الاجتهادات السياسية وتنوع البرامج الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وإنما يعكس تزايد الطموحات الانتهازية لدى الفئات التي تراهن على العمل السياسي لخدمة الأغراض الذاتية والمصالح الخاصة، مما يؤدي إلى صعوبة التمييز واختيار الأصلح والأجدر بتولي المسؤوليات التمثيلية؛ - عدم التجاوب مع رغبات المواطنين والتنصل من الوعود التي تقدم في الحملات الانتخابية، وعدم احترام معظم المنتخبين لمسؤولياتهم داخل المؤسسات التي يحصلون على عضويتها، حيث أصبحت الأحزاب السياسية تبيع أوهاما زائفة وأضغاث أحلام جريا وراء الكراسي والفوز بالانتخابات، فتكثر من الوعود والتسويفات والدجل ولا يقبض المواطن في النهاية غير الريح، وما أكثر السياسيين الذين يحترفون قول ما لا يفعلون وينثرون الرماد في العيون وهمهم الوحيد الوصول إلى السلطة بأي ثمن؛ وقد تربوا على هذا النمط من السياسة طيلة عقود، فتراهم في المجالس يفتون وفي المنابر الإعلامية يُنظرون! - تراجع النخب المنتجة للأفكار داخل الأحزاب، على حساب الزحف الشعبوي؛ ومن تجليات ذلك ضعف الخيال السياسي لدى معظم الذين يتصدرون المشهد الحزبي، وعدم التجديد في الأدبيات السياسية، وضعف أو انعدام المبادرات الناجعة في مواجهة إكراهات الحاضر وتحديات المستقبل، وتكريس ظاهرة استنساخ البرامج، وغياب عنصر التميز لدى كل حزب، وتكرار الخطابات الفارغة والوعود المجانية والطقوس المملة؛ - بروز بعض القيادات والزعامات من أشباه الأميين والصعاليك والفاسدين والمفسدين، وما ينتج عن ذلك من انحطاط في الخطابات ورداءة في الممارسة السياسية، وطغيان الأنانية والوصولية، والدفاع عن المصالح الضيقة، وهدم القيم الأخلاقية والوطنية؛ فوصول تيار الشعبويين إلى مقاليد الزعامات الحزبية يرسم صورة متكاملة عن هذا البؤس ويكشف عن المستوى الحقيقي لسياسيي بلادنا ممن مكنتهم أزمنة الرداءة من الوصول إلى مواقع القيادة والقرار، وبات من السهولة بمكان في زمن البؤس السياسي أن تصبح قياديا حزبيا وأيضا عضوا في الحكومة، وكما صرح رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران ذات مرة: «يمكن أن تصبح رئيسا للحكومة وأنت نائم في منزلك...». كما أن شروط بلوغ ذلك المرام لا علاقة لها بالكفاءة والقدرات الحقيقية، سواء منها السياسية والتدبيرية والتقنية. نحن، إذن، أمام مشهد سياسي بئيس، الخاسر الأكبر فيه هو الديمقراطية وعبرها المواطن المغربي؛ - تدهور اللغة السياسية واعتمادها على قاموس لغوي بعيد عن الإيحاءات الرمزية المطلوبة في الحقل اللغوي السياسي قريبة من لغة القذف والتحقير ومن لغة الاستصغار والنعوت والتشبيهات والاستعارات التحقيرية والقذفية، مثل: (التماسيح، العفاريت، الضفادع، الأفاعي،...)، وهي ألفاظ مخلة بأبسط قواعد الحوار، سواء من قبل أعضاء في الحكومة أو أعضاء في البرلمان بغرفتيه. وإن جزء كبيرا من تدهور اللغة السياسية يتحمل فيه أعضاء الحكومة المسؤولية؛ وهو أمر يُعْزى لدى بعضهم إلى رفع أسهم «شعبويتهم» علما بأن مثل هذا المستوى اللغوي المنحط لا يعيد الاعتبار إلى المؤسسات الدستورية التي تناط بها المهام التشريعية والتنفيذية بقدر ما ستكون له انعكاسات سلبية على المديين المتوسط والبعيد؛ فكيف ضاقت اللغة على التعبير والتبادل وكيف لم تتمثل معاجمنا ديمقراطية الاختلاف، ولم تنتج من أجل تجذيرها حروفا وقواعد تعلمنا كيف نختلف دون أن نتقاتل؟ ومن المؤسف حقا أن البؤس السياسي أنتج لنا أجيالا لا تحصى ولا تعد من الانتهازيين، وخاصة من طبقة أشباه المثقفين والجامعيين وأصحاب المال والنفوذ الذين استعملهم المخزن أبواقا للدعاية الزائفة للتأثير على الرأي العام، كما أنتجت مواطنا خائفا وفاقدا لإرادته، مستسلما لقدره، غابت عنه المبادرة والحس المدني والمواطنة الحقيقية. وفي المجتمع الذي تستفحل فيه مثل هذه العاهات السياسية لا يمكن استغراب تزايد نفور الشباب ومختلف الشرائح من العمل السياسي والعزوف عن المشاركة في الانتخابات وفقدان الثقة في المؤسسات. وخطورة الحالة التي وصلنا إليها لا تنحصر في رفض العمل السياسي المشروع، وإنما تكمن في الدفع بعدة طاقات إلى التطرف بتغطيات إيديولوجية متباينة، يجمع بينها اليأس من العمل في إطار المؤسسات المشروعة، مما يهدد الاستقرار ويجعل المستقبل مفتوحا على كل الاحتمالات التي لا تُحمد عقباها، خاصة وأن البلاد تعاني من انتشار الفقر والبطالة والأمية والتفاوت العميق بين فئة قليلة موسرة وفئات عريضة محرومة من وسائل العيش الكريم، فضلا عن التفاوت بين الجهات، وما تعرفه بعض المناطق من تهميش وحرمان من التجهيزات الأساسية والخدمات الاجتماعية، وترجيح المقاربة الأمنية في مواجهة الحركات الاحتجاجية على الحوار، والتضييق على الحريات، وغير ذلك من الظواهر والحالات المثيرة للتذمر والاستياء في الأوساط الشعبية. وخلاصة القول أن البؤس السياسي داء خطير يضرب المجتمعات ليدخلها في أزمات متوالدة، وهو بالفعل مصدر وأساس مختلف عن أشكال البؤس الأخرى. وعليه، فإن الربيع العربي بما أدخله من مفاهيم جديدة ومتطورة قد خلخل البنى المجتمعية وحرك المياه الراكدة، مما يتطلب القطع مع الماضي بكل هزائمه وكوارثه والتوجه نحو سياسة منتجة وإيجابية هدفها تحقيق مصلحة المواطن والوطن أولا وأخيرا، ولذلك فإن الحاجة الملحة إلى الإصلاح لا بد أن تنطلق من معالجة الأمراض التي يعانيها المشهد السياسي، ولا يمكن وضع حد للبؤس السياسي الذي أصبح يلمسه الجميع إلا باتخاذ تدابير سياسية وتشريعية وزجرية ملموسة في هذا الاتجاه، وخلق الظروف الملائمة لعقلنة الممارسة الحزبية والعمل السياسي، وضمان الفرص المتكافئة أمام التنافس المشروع، مما يساعد على إفراز نخب جديدة، ويعطي الأمل في الخروج من دوامة البؤس السياسي، ويفسح المجال لقيام مؤسسات تتميز بالمصداقية، ويفتح الآفاق أمام الأجيال الصاعدة للمشاركة في بناء غد أفضل.