"لغاندي مهاتما" قولة جميلة ودقيقة يصف بها عنف السلطة ضد المواطنين السلميين؛ فهو يقول أن الحاكم عندما يواجه الحركة الشعبية السلمية بالعنف، يكون كمن يضرب الماء بسيفه ليقطعه. بمعنى أن العنف لا يوقف زحف الحركات المجتمعية السلمية حتى وإن آذى رجالها. ويبدو أن النظام المغربي لا يستوعب هذه الحقيقة، ويمكن أن نقف على ذلك جليا من خلال ارتفاع منسوب العنف المفرط الذي تواجَه به كل التحركات الشعبية سواء كانت خلفياتها اجتماعية أو سياسية. من سيدي إفني إلى صفرو إلى تازة ومراكش وخريبكة وغيرها. ومن الأحياء المهمشة إلى الشوارع إلى الحرم الجامعي. ومن النساء إلى الرجال إلى الشباب وطلبة الجامعات. لا شيء يعلو على صوت الضرب والقمع والاعتقال والمحاكمات والقتل. يضاف لهذا العنف المادي عنف معنوي سياسي، مرتبط من جهة بانتهاك الحريات العامة من حق التعبير والتجمع والاحتجاج وغيرها، ومن جهة أخرى بتشويه الصورة السلمية للاحتجاجات وتقديمها في الإعلام على أنها اضطرابات مخلة بالأمن العام للدولة وبهيبتها. والحقيقة أن مظاهر عنف النظام على المواطن المغربي يتجاوز مهمة أجهزة الدولة في القيام بوظيفتها الأساسية وحفظ أمن الوطن والمواطنين، بل الأمر صادر عن إرادة سياسية وقرار تصدره السلطة ليتم استغلال أجهزة الدولة في التنفيذ والتنزيل. والملاحظ أنه كلما ضاقت دائرة المناورة، واتسع العجز عن تقديم الأجوبة على الأسئلة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي يطرحها المجتمع بإلحاح متزايد، جنح النظام إلى العنف وزاد التضييق على خصومه لأجل إسكات الأصوات الفاضحة لِعَوَرِه، وحماية مصالحه الخاصة، وهي ليست بالضرورة مصالح الدولة بمعناها العميق. فإذا كانت ماهية الدولة تُختزل في كثير من الأحيان في السلطة الحاكمة، فإن ذلك لا ينبغي أن يوقعنا في خطأ تماهي الدولة العميقة مع هذه السلطة. فالدولة تتشكل أساسا من قوة جماعة بشرية، تنتج عن كثافة العلاقات المتبادلة بين أفرادها، وعن ترابط مصالحهم وفعلهم الجماعي وتدافع آرائهم وأهوائهم. هذه الكثافة وهذا الترابط يحتمان عليهم التنازل عن حقهم لِمُسَمَّى "الدولة"، بناء على ميثاق وعقد اجتماعي يجعل مهمتها حماية حريتهم وأمنهم وسلامتهم ومراقبة تنفيذ القوانين. فالدولة كيان سياسي وإطار اجتماعي قائم على ثلاثة عناصر متكاملة وهي الشعب أولا والأرض ثانيا والسلطة ثالثا، لذلك يجب ألا تُختصر في عنصر وحيد وهو السلطة أو النظام الحاكم. وإن معارضة هذه السلطة لا ينبغي أن تعتبر تقليلا من هيبة الدولة. فالشعب هو المحور الأهم الذي تقوم عليه الدولة، والسلطة نفسها تستمد شرعيتها من الشعب، لذلك فهيبة الدولة تهتز أساسا عندما تمس حقوق الشعب وتهمل مطالبه وتمارس عليه أشكال القمع والتهميش الاجتماعي والسياسي، مقابل انفراد السلطة بتسطير القرارات واستغلال موقعها لتثبيت مصالحها الخاصة. فهكذا وضع يدفع الشعب إلى سحب ثقته في سلطة الحاكم. يقول ابن رشد عن الحكم الفردي الذي يسميه "وحداني السلطة": "ولهذا يعظم هذا الفعل منه على الجماعة (يعني الشعب) فيرون أن فعله هو عكس ما قصدوه من تسليمه الرئاسة، لأنهم إنما قصدوا بذلك أن يحميهم من ذوي الأضرار ويقربهم من ذوي الفضائل والخير وأمثالهم من أهل المدينة لما كان هو من أصحاب الحكم والسلطان ليستتب أمرهم بسياسته وسياسة خدامه. ولذلك تسعى الجماعة (الشعب) الغاضبة عندها إلى إخراجه من مدينتهم، فيضطر هو إلى استعبادهم والاستيلاء على عتادهم وآلة أسلحتهم، .... فالجماعة (الشعب) إنما فرت من الاستعباد بتسليمها الرئاسة إليه، فإذا هي تقع في استعباد أكثر قسوة. وهذه الأعمال هي جميعها من أعمال رئاسة وحدانية السلطة". فالشعوب أوجدت لها قادة للدفاع عن حريتها وليس لإخضاعها. وعليه فإن هيبة الدولة، بما هي احترام والتزام بقراراتها وقوانينها المجمع عليها، تنهل من استقلاليتها عن اختلاف الآراء والتوجهات داخل المجتمع مادام التعبير على هذه التوجهات يظل سلميا. وهذا وحده ما يضمن لها القدرة على الوفاء بالعقد الافتراضي المبرم بينها وبين مواطنيها، وليس من خلال تسليط العنف الذي تمتلكه ضدهم لصالح جهة ما، لأن ذلك ببساطة سيدفعهم للتوقف عن لعب دور المحكوم. والمعلوم أنه كلما ازداد نظام الحكم قسوة ازداد ضعفا، وإن لم يبق للحاكم من سبيل لانتزاع الهيبة والشرعية إلا ممارسة العنف ضد معارضيه فإن ذلك يؤذي هيبة الدولة ويهدد استقرارها. ومهما بدا توظيف العنف حلا جاهزا وسريعا لمواجهة أي تحرك أو إجهاضه في مهده، فإن توقعه والاستعداد لمواجهته بالسلمية والإصرار على المطالب العادلة، يضع السلطات في موقف المتهم الضعيف، ويعري حقيقة تخلفها عن التطور الذي عرفه المجتمع ووعيه المتزايد بحقوقه وأشكال انتزاعها. إن الشعب المغربي يطمح اليوم إلى كنس كل مخلفات السنين السابقة من قمع وتسلط واحتكار للقرار، لذلك فإنه انتفض وسينتفض كلما غابت العدالة عن القرارات والقوانين الصادرة عن السلطة. رغم أنه لُقِّن لسنوات أن الخضوع لقرارات تلك السلطة التي تشكل له مرآة للخوف والظلم والإجحاف، هو احترام لهيبة الدولة وضمان لاستقرارها. هكذا عندما تستأثر السلطة بالدولة كلها، ويُغَيَّب الشعب وتنزع منه مصادر قوته ومعنى وجوده نكون أمام تهديد حقيقي لهيبة الدولة، فعنصرها الأول (الشعب) مضطهد وعنصرها الثالث (السلطة) مرفوض، وهذا ينذر بزعزعة أركانها. لذلك فإن تواصل الاحتجاجات في بلادنا، واعتماد السلطة على صم الآذان والقمع لمواجهتها، يتطلب مبادرة عاجلة لعقلاء هذا الوطن الخائفون على كيان الدولة لبلورة حوار وطني ينتج عنه عقد اجتماعي شعبي عادل متمثل في دستور حضاري، يحفظ البلاد والعباد من الخراب والهلاك ويمنع من تدهور الأمور إلى ما لا يحمد عقباه.