في مناخ الثورات العربية ضد الاستبداد والفساد ، كثر الحديث عن هيبة الدولة، خاصة بعد هروب بنعلي ، واعتقال مبارك وحاشيته والتصفية الجسدية للقذافي ، وما ترتب عن ذلك من وضعية لا استقرار بلغت مستويات تنذر بالتراجع الى حالة اللادولة في كل من ليبيا واليمن بسبب تركيبتهما القبلية المعقدة، ومن احتقان وغليان في الشارعين التونسي والمصري دفاعا عن الثورة وأهدافها ،اضافة الى ما تشهده بلدان أخرى كالمغرب من حراك اجتماعي واتساع لفضاءات الاحتجاج والتظاهر اللذين اتخذا في كثير من المحطات طابعا عنيفا تمثل في اقتحام واحتلال بعض مؤسسات الدولة. فهل نحن فعلا أمام مشهد انهيار هيبة الدولة ؟ أم انهيار نمط من الدولة وأسلوب من الحكم الاستبدادي والشمولي الذي بنى «هيبته «بالقمع والترهيب والريع وتصفية كل صوت معارض (سوريا نموذجا) ؟ في البداية،لا بد من التوقف عند معنى الهيبة، وذلك بفعل ما تنطوي عليه هذه الكلمة من لبس وغموض وامتزاج بين السلبي والإيجابي في مدلولها: فهي تعني المهابة والتعظيم إلى حد التقديس. في معجم لسان العرب الهيبة هي «المهابة والإجلال والمخافة» . فهي مرتبطة إذن بالتخويف والتقديس وما ينتج عن ذلك من سلوك تجاه الشخص المهاب أو الحاكم، يتسم بالخضوع والخشوع والامتلاء بالرعب من «جنابه»، روحا وجسدا ، حيث حركات التعظيم تعبر عن ذلك بشكل حاط من كرامة من يعتبرون مجرد «رعايا» أو «خدما» : سجود وركوع وانحناء الى حد التكور ، تقبيل اليد، وترديد ترنيمات الولاء والطاعة ..الخ في سياقنا التاريخي والمجتمعي الخاص، ارتبطت الهيبة بالمخزن كسلطة ترمز للقوة والقهر والقدرة على بسط النفوذ وفرض النظام ، وبالتالي نشر الخوف والرعب والخضوع « لصاحب المهابة» ، خاصة وأنه يستمد تلك المهابةأيضا من مصدر ديني قدسي... إن هذا المدلول المخزني للهيبة كنمط وأسلوب حكم، والذي نجده في أدبيات مؤرخي الدولة المخزنية وكتابها ، ظل هو المؤسس للعلاقة بين السلطة «والرعايا» والمحدد للرضى والغضب «الأميريين» على المقربين والمنعم عليهم، ومن «العصاة» أو المتمردين والمعارضين الذين يمسون بهيبة الدولة كما هي مشخصة في «صاحب المهابة» . فالهيبة -إذن - في هذا السياق الذي مورست فيه كخطاب وعلاقات وسياسات، تشرعن القمع والاستبداد وتؤسس لمجتمع الخوف والرعب والاستكانة والعزوف عن الشأن العام. إن غاية الدولة المخزنية المهووسة بهيبتها هي ترسيخ الفزع والمخافة، والحرص على كل مظاهر التبجيل والتعظيم للسلطة الممزوجة بالرهبة ، لان ذلك هو ما يضمن لها الاستقرار والاستمرار فوق رؤوس العباد ... وللدولة المخزنية المغربية قبل الحماية، وفي ظلها جولات في ذلك، استمرت بأشكال «متطورة « إلى عهد سنوات الرصاص وما بعده . اليوم، ورغم الكثير من الخيبات التي أثمرها لحد الآن ما يسمى «الربيع العربي» أمسى واضحا أن هيبة الدولة - هنا وهناك - يستحيل إعادة بنائها على ثقافة الخوف وسياسة الترهيب والقمع في عصر انتشار قيم ومبادئ ثقافة حقوق الانسان، واتساع إشعاع الديمقراطية باعتبارها الحل والخيار الممكن للتقدم والانخراط الايجابي في العصر . إن هيبة الدولة في عصرنا: عصر العولمة وقيم الحداثة والديمقراطية وحقوق الإنسان، أصبحت إذن مرتبطة بمدى إرادة وقدرة السلطة على احترام وظائف الدولة وغاياتها التي وجدت لأجلها، وفي مقدمتها حماية الحريات الفردية والجماعية (اسبينوزا)، والحفاظ على الممتلكات الخاصة والجماعية (ج.لوك) ، والاحتكام إلى القانون وفصل السلط الذي هو أساس كل دولة حديثة وعصرية وإنسانية وعادلة (مونتيسكو) ، وإرساء علاقة تعاقدية بين الدولة والمجتمع (روسو) .. فبذلك تقاس وتتوطد هيبة الدول اليوم، وليس بمظاهر التبجيل والتعظيم والتقديس التي تتحول معها الهيبة إلى خشوع وإذلال وانتهاك لروح المواطنة ، ولا بنصائح مكيافيللي للأمير بأن يكون « أسدا وثعلبا» في نفس الآن ،أي أن يكون قويا مفترسا تارة، وماكرا مخادعا تارة أخرى لأجل فرض النظام والاستقرار .. وحدها اليوم الدولة التعاقدية الديمقراطية التعددية، ودولة الحق والقانون والعدالة من تتوفر على المقومات الذاتية للهيبة، وتفرض - بالتالي - الاحترام والوقار لها، لا الخوف والرعب منها. هذا هو المدلول القانوني العقلاني لهيبة الدولة، والذي بدون العمل في اتجاهه ستظل قوى الاستبداد والمحافظة تضع رجلا في ماض ولى موضوعيا، وأخرى في حاضر تناور فيه من أجل التشويش الايديولوجي على المدخل الشرعي للدولة الحديثة ذي الباب الوحيد : باب الحداثة الفكرية والعقلية والسياسية... نعم من الضروري الإبقاء والدفاع عن هيبة الدولة، ولكن ليس «بالزرواطة»، ليس بخطابات الولاء الاعمى وبتكريس مختلف طقوسها و»بروتوكولاتها» العتيقة ، وإنما بالحوار والحكمة واحترام الاختلاف والوفاء بالعهود، وبكلمة : بالإصلاح والحكامة ومحاربة كل مظاهر الفساد السياسي والاقتصادي والانتخابي والأخلاقي كذلك... لقد كان لافتا كيف تعامل بعض وزراء الحكومة الجديدة مع اتساع رقعة الاحتجاجات الاجتماعية، وانزلاقاتها نحو أشكال تعبير عنيفة كاقتحام واحتلال بعض المؤسسات العمومية، حيث ربطوا بين ذلك وبين هيبة الدولة التي لن تكون محل مناقشة «( الرميد) ،» ويجب العمل على استعادتها « (الخلفي) (تصريحات بملف « الوطن الآن « عدد 3 مايو الجاري)، مما يستدعي هنا وضع نقط على الحروف :