استقليت الترامواي من قلب مدينة الرباط، بساحة الجولان، حيث سمات الدولة السائرة في طريق النمو بادية للعيان، أشجار وكراسي مريحة، والناس يتقنون فن التجاوب مع الأمكنة، فيتقمصون شخصية الأوروبي المهذب في أماكن نظيفة وقورة، وشخصية الأفريقي الغابوي حين مر بنا "الترامواي" من مدينة سلا الشعبية، والصوت الأتوماتيكي لتلك السيدة التي تعلن عن وجهات "الترام" يكرر نفس المكان بنفس النطق مرتين، على أساس العربية والفرنسية، في غباوة فذة، وهي تعلن عند وصولنا إلى المحطة الأخيرة: "حي كريمة، حي كريمة".. وعلى بعد أمتار من "حي كريمة" بالإنجليزية "حي كريمة" بالكورية: توجد "هيروشيما" باليابانية! نعم، على بعد أمتار من نهاية سير الترامواي، تلك الوسيلة الحديثة التي أنفقت عليها الملايين قصد إراحة الساكنة من حافلات نقل هرئة صدئة قديمة وتجميل صورة المدينتين إلى صورة الحضارة والمدنية، تصل إلى حضيض البشرية، خرابة لم تنفق عليها الدولة درهما واحدا لتحسن وضع ساكنة لا تنعم بأقل ضروريات الطبيعية الإنسانية: هواء صالح للتنفس، ماء صالح للشرب، بيت صالح للنوم، هي مساحة من الأزبال المتراكمة المتراكبة المتحللة التي تغطي بقذارتها الفضاء، في هرج ومرج وضوضاء، وكأنك في مكان عاش فترة حرب.. إنك في سوق ساعة، سوق الصالحين، دوار الجدير.. إنك في: سوق الكلب! ماركة مسجلة لجوطية ملابس بالية، وأدوات يدوية صناعية ميكانيكية، أثاث منزلية مكتبية، سوق لا نهاية له، لكل شيء مستعمل، حتى غشاء قلم حبر منتهي مأكول قد تجده عند أحد الباعة جنب مسمار صدئ معوج جنب عود خشبي لا يدري هو نفسه لأي شيء يستعمل، باعة، ومخمورين، وسارقي جيوب المشترين، متبرجات ومتنقبات يبحثن عن زبائن، ومتبرجات ومتنقبات يبحثن عن ثياب، وزبائن، وثياب.. من كل لون وشكل وطول وعرض.. وبجانبه كاريانات، وبرارك، وخيم، ودور صفيح وقزدير وزنڭ وخشب وياجور، وكل ما قد ينهار على النائم إن أمطرت ليوم كامل دون توقف.. لكنها ليست فقط ثقافة فقر أو حاجة تلك التي ترغم الفرد على اقتناء القديم بثمن قليل للكسوة وغيرها.. ولا ثقافة الجودة، التي نجدها غالبة في منتوج أجنبي، وفي حال الثياب يكفل الحجم المناسب والمتانة والإتقان حتى ترتدي نفس القطعة أعواما دون أن يبهت لونها ولا أن يتغير بالغسيل حجمها ولا أن تنقطع أو تتمزق.. لا، بل هي ثقافة الماركات، التي استحوذت على عقول بعض الرجال، كثير من النساء والمراهقين والفتيات، إذ غيروا الوجهة اقتصادا أو بخلا، من المتاجر أو المول أو البوتيك، إلى الجوطيات ليمارسو رياضة "ستي بيديك". أغادير مياه الصرف الصحي تجعل من الأرض أحواضا وبرك بول وغائط وزفت، وكأنها مناجم متجددة، لو كانت تُصدّر لاغتنى منها أصحاب المنطقة.. لا تمنع الزائرين من تجاوزها للوصول إلى المقصود.. إلى المكان السري للتأنق والموضا، إلى مصدر الماركات العالمية التي لا يتجاوز ثمنها على الأكثر 60 درهم للمعطف والحذاء، وأقلها درهمان للأقمصة والفساتين، وبين البينين لملابس النوم والسراويل والتنانير.. إذ يهرع الأفواج القادمون من "المدينة" يومي السبت والأحد حين ترد السلع الجديدة أكواما، يشتريها بائعو المكان بالكيلو، ويبيعونها بالتجزئة، ليربحوا منها ما يغنيهم لأسبوع وأكثر.. هكذا كان ولازال سوق الكلب وجهة للعلامات التجارية المحلية والعالمية.. رغم اسمه الذي يقلل من شأنه، والذي يخجل الزائرين من ذكره. وقد قال لي أحد قرائي حين وضعت صورة السوق على صفحتي على الفايسبوك، شريف بن عبد الله، أنه سمي "سوق الكلب" كما يحكى والله أعلم لأن أحد الجزارين المتطفلين على المهنة استقدم كلبا من منطقة السهول وقام بذبحه وبيع لحمه على شكل صوصيص فرآه أحدهم وروج لذلك الخبر بين أصحابه، وكذلك شاع وسمي.. كما أعلمني القارئ، محمد زهير، أن تاريخه يرجع إلى ما قبل الخمسينات.. ولا عجب، فمروري من هناك أنساني أني أعيش في القرن الواحد والعشرين.. بل هي مناطق كثيرة لم تخرج بعد من الاستعمار! هكذا، بسيارة أجرة أو حافلة نقل أو بالتراموي، أو يقدم المريدون بسياراتهم الفخمة، ويلبسون الثياب الرثة، ويقصدون سوق ساعة ساعة في الشهر لاقتناء علامات تجارية قصد التفاخر والتباهي والخيلاء، بملابس أبيضها من أزرقها عندهم سواء.. المهم أن اسم العلامة مكتوب في خلف الثياب، أو أن شكلها ظهر في أحد المحلات أو عروض الأزياء.. خلف البرارك على الجانب الأسير.. حيث وسيلة النقل الوحيدة هي كرارس البغال، ماركات من النوع المتوسط: مونڭو زاغا إيطام پرومود سطراديڤاريوس.. ثم جنب بيت قزديري لأحد الصعاليك.. بعد أن تدخل دكاكين قصبية متجوارة ضيقة، علامات تجارية من النوع الأرقى بقليل: أش أند إيم جينيفر دييزيل سيليو إينيرجي.. ويقال والعهدة على النساء اللواتي سمعت منهن هذا الكلام، أن الدولة تبني في كل مرة عمارات لإخلاء تلك المنطقة من السكن العشوائي، ولتنقل أهاليها إلى شقق جديدة بأثمنة رمزية بين 4000 درهم ومليوني سنتيم، وما يقع أن الناس تقوم بكراء "البرارك" لمن يرغب بشقق جديدة، بأثمنة تصل إلى 10 مليون سنتيم، فإذا جاء العاملون لنقل الساكنة ينقلون المكترين عوض أصحاب "البرارك" الأصليين، وحين يعودون لإخلاء المكان وهدم المساكن العشوائية، يجدون أصحاب المكان عادوا إلى المكان.. ولا يستطيعون إخراجهم ولا هدم "البرارك" فوق رؤوسهم، يعني أنها "تبزنيسة" ظل يحبكها أصحاب الجوطية لسنين حتى يئست منهم الدولة! هكذا إذن، قد تصل عقلية التباهي وإغرا ات الميديا التي لحست الأدمغة ببرامج الستايل والموضا ومجموعات الشتاء والصيف المتجددة، بالإنسان المسلوب الذوق والقرار، الغير القادر على أن يختار أن يكون نفسه، الذي أعمى الغرب بصيرته بالإبهار، في هرع وجري وراء التقليد، بحثا عن التحضر والحداثة والتمدن والتجديد، إلى البرارك والكاريانات وأودية الصرف الصحي والبول والراوئح الكريهة والأزبال وبقايا الخضراوات المتعفنة لسنوات، ليمتثل للتنويم المغناطيسي الاستهلاكي، ويشتري اسما بأبخس الأثمان، ويتباهى بشكل سروال لبسه فلان.. ولو أني لا أحمل في نفسي شيئا سلبيا لهذه الدرجة من أصحاب ثقافة الماركات وتقليد الغير، لكني أخذت الفرصة كاملة لأوصل عبرها صورة عن الترامواي الذي بدأ من العاصمة إلى محطة نهاية السير! مكان ربما لم يتح لكم أن تزوروه أو تعرفوه.. لأذكر بوجوده من ربما عمدا أهملوه! يالاه.. مقال مثل غيره نشر أم لم ينشر.. .. لن يزيد ولن ينقص في الواقع من أمر! مايسة www.facebook.com/elmayssa www.elmayssa.com