عبد الباري عطوان في مقاله "العصر الذهبي لتنظيم القاعدة" (القدس العربي، 18 / 1 / 2013) يجادل بأن هذا التنظيم الذي ملأ الدنيا وشغل الناس على مدار عقدين من الزمان تقريباً هو "أكبر المستفيدين من الربيع العربي"، وأنه عائدٌ بقوة إلى صدارة المشهد / الأحداث في العالم، مستدلاً على ذلك بحضوره المدوي هذه الأيام في كل من مالي وسوريا والعراق، وهذه العودة القوية هي نتيجة "لسوء تقدير القوى الإقليمية والعالمية لقوة هذا التنظيم"، فضلاً عن "الأخطاء الإستراتيجية التي ترتكبها هذه القوى في مناطق عديدة من العالم الإسلامي، غزواً وقتلاً وتدخلاً، وتجاهلاً لمظالم الشعوب، والشعب الفلسطيني على قمته". عطوان أضاف أن "القاعدة الأساسية التي تخدم تنظيم القاعدة وتزيد من قوته وتوسع فروعه أنه في كل مرة يتدخل الناتو عسكرياً في دولة عربية أو إسلامية، بشكل مباشر أو غير مباشر، يخلق حالة من الفوضى، ويحول دولاً مستقرة إلى فاشلة (يتحدث هنا تحديدا عن النموذج الليبي، والوصف ينسحب على العراق أيضاً)، وهذه الدول الفاشلة تشكل دائما دعوة مفتوحة للتنظيم لتجميع صفوفه، والهجرة إليها لنصب خيامه، والتوسع بطريقة مدروسة، مجنداً الآلاف في صفوفه لتحقيق طموحاته في إقامة المجتمع الإسلامي الجهادي، الذي يعتبر العمود الفقري لإستراتيجيته التي وضعها زعيمه وشيخه بن لادن". قال أيضاً إن تنظيم القاعدة "يتوسع، ويستفيد بطريقة ذكية من أخطائه وأخطاء الغرب معاً، بينما لا يتعلم الغرب مطلقاً من أخطائه"، والدليل أن فرنسا لم تستفد من أخطاء / دروس أفغانستان والعراق وليبيا، وانساقت دون تفكير إلى المصيدة التي نصبها لها التنظيم في مالي... لا يماري أحدٌ في أن كلام عطوان ينطوي على كثير من عناصر الحق، لكن من الواضح أيضاً أنه لا يخلو من كثير من النقاط التي تستوجب المراجعة، وعلينا أن ننتبه إلى أن الخطاب التحليلي لعطوان في ما يخص القاعدة وبن لادن بالذات تحكمه نبرة تعاطفية لا تخطئها العين (على الرغم من الاختلاف العقائدي / الأيديولوجي بين الاثنين: أي عطوان وبن لادن)، الرجل اعترف مراراً بأن لبن لادن فضل عليه، فالحوار الذي أجراه معه في أحد كهوف تورا بورا في أفغانستان في شتاء 1996 ونشره في يوميته "القدس العربي" شكل لحظة تحول حاسمة في مساره المهني، إذ تطور وضعه بلا مقدمات من صحفي عربي عادي لا يختلف في شيء عن كثيرين مثله في لندن إلى نجم متألق في سماوات الإعلام تتهافت عليه وكالات الأنباء والصحف والفضائيات العالمية، لذلك فهو في حديثه الدائم عن القاعدة وشيخها الراحل يحاول بكل ما يتوفر لديه من إمكانيات تحليلية تقديم صورة مرصعة بكثير من عبارات المبالغة عن أهمية هذا التنظيم وقدراته وفاعليته (في كل وقت) كما هو الحال في مقاله المذكور الذي نتعرض له بالنقد في هذه الورقة. إن فكرة صعود القاعدة في زمن الربيع العربي طرحتها صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية أيضاً في تقرير لها أوردته على موقعها الالكتروني (19 / 1 / 2013)، حيث استقصت رأي روبرت مالي (خبير قضايا الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في " مجموعة الأزمات الدولية") الذي اعتبر أن الأوضاع الحالية (يقصد تطورات أزمتي مالي والرهائن الأجانب في الجزائر) تكشف "الجانب المظلم في الربيع العربي" (أي صعود الجهاديين).. قبل هذا، حذر رئيس جهاز مكافحة التجسس البريطاني (أم أي 5) جوناثان إيفانز من أن ثورات الربيع العربي فتحت مناطق جديدة للقاعدة، وأن الجهاديين يحاولون (مجدداً) كسب موطئ قدم لهم في العالم العربي، وأن أجزاء من العالم العربي (يقصد مجتمعات الربيع العربي) أصبحت مرة أخرى "بيئة صالحة لعمل القاعدة" (الجزيرة نت، 26/ 6 / 2012). في مقابل هذه الفرضية، يذهب كثير من المحللين إلى أن الثورات العربية كشفت زيف ادعاءات القاعدة بأنها تمثل الطليعة المسلمة التي ستحدث التغيير الجذري / الثوري في المجتمعات العربية والإسلامية، وأنه بالعنف (= الجهاد) وحده يتحقق التغيير، وأثبتت أن النموذج الثوري بحسب الصياغة القاعدية غير مرحب به لدى ملايين المسلمين الذين اختاروا أن يثوروا على أنظمتهم التسلطية باستخدام أدوات النضال السلمي حصراً ("إستراتيجية "المقاومة اللاعنفية" كما يسميها منظرها الأمريكي جين شارب)، من أهم التحليلات الصادرة في هذا الصدد كتاب فواز جرجس الأخير "صعود وأفول القاعدة" (نيويورك، 2011) الذي يتابع فيه مسار القاعدة منذ بداياتها وصعودها ثم أفولها بسبب جملة من العوامل، منها ما هو موضوعي يتعلق بالمعطيات الخارجية المتغيرة إقليمياً ودولياً، ومنها ما هو ذاتي له علاقة بأساسيات / ترتيبات التنظيم الداخلية وأهدافه الإستراتيجية. طبعاً يجب أن نميز في الحديث بين صعود الإسلاميين المعتدلين (الإخوان المسلمين) في السياق الثوري العربي الذي يرمز له البعض بعبارة "الخريف الإسلامي" بدلاً من "الربيع العربي"، وصعود الجهاديين الذي يدور حوله الكلام في مقال عطوان، ذلك أن التمايزات القائمة بين الطرفين (المعتدلين والمتشددين / الجهاديين) على مستوى "إستراتيجية العمل الإسلامي" نوعية وحقيقية. يذكرنا هذا الجدل بجدل آخر كان قد أثير (وما يزال دائراً) في الأوساط البحثية حول التهديد الذي تمثله القاعدة والدور الذي تؤديه في تفاعلات السياسة الدولية بعد الحادي عشر من سبتمبر 2001، فبينما يرى بعض المحللين أن الخطر الجهادي ما يزال يشكل التحدي الأهم والأكبر الذي يواجه النظام الدولي المعاصر (مثلاً: أندرو فيليبس في كتابه: "الحرب والدين والإمبراطورية: تحول الأنظمة الدولية"، كامبريدج، 2011)، يخالفهم آخرون الرأي ويعتبرون أن القاعدة كتنظيم لم يعد لها أهمية فعلية في الوقت الحالي، وأن أهميتها باتت تنحصر في العنصر الأيديولوجي، أي في الخطابة الجهادية (= السلفية الجهادية) نفسها التي تشكل عامل جذب لعدد كبير من الشباب الساخطين على الأوضاع، سواء على المستوى القطري (نظم الحكم العربية = العدو القريب) أو على المستوى الدولي (النظام العالمي الجديد الذي تمسك بزمامه الولاياتالمتحدةالأمريكية = العدو البعيد)، وحتى هذه الخطابة بدأت تفقد تأثيرها بسبب ما راكمته القاعدة من أخطاء وتجاوزات في كل ساحات "النفير" التي مرت بها (أفغانستان، باكستان، السعودية، العراق، لبنان، فلسطين..). في هذا السياق من الجدل والمطارحات المختلفة، هناك جملة من الحقائق التي لا بد من استحضارها وبلورتها كمداخل تحليلية أساسية قد تساعد في تكوين صورة شاملة عن الوضع العام للقاعدة في زمن الربيع العربي (أو الخريف الإسلامي)، وهي حقائق تخالف تماماً ما أورده عطوان في مقاله المذكور من أن القاعدة تعيش اليوم "عصرها الذهبي": 1 خلال السنوات التي أعقبت تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر 2001، خاصة بعد تفجيرات مدريد (مارس 2004) وتفجيرات لندن (يوليو 2005)، تحولت القاعدة بالتدريج إلى مجرد ظل باهت للتنظيم الذي كانته قبل 11 سبتمبر (تأسست القاعدة في نسختها الأولى في أفغانستان سنة 1988 في سياق عملية "الجهاد الأفغاني"، لكن التأسيس الفعلي تم بعد عودة بن لادن إلى أفغانستان مطروداً من السودان سنة 1996، وتبلورت هويتها الأيديولوجية وهيكلها التنظيمي سنة 1998 بعد الإعلان عن تشكيل "الجبهة الإسلامية العالمية لقتال اليهود والصليبيين")، فقد أدت الديناميكيات / الترتيبات العسكرية والأمنية الواسعة الخاصة بالحرب على الإرهاب التي أعلنها الرئيس الأمريكي السابق جورج دبليو بوش بعيد "غزوة سبتمبر" (اسم تفجيرات سبتمبر في أدبيات القاعدة) إلى تحطيم بنيتها التحتية بالكامل في أفغانستان (الهيكل التنظيمي الأساسي، مراكز التدريب)، حتى مركز القيادة والتحكم لم يسلم من سلسلة من الضربات المركزة التي أصابته في مقتل أكثر من مرة، فخلال سنوات 2002 2010 فقدت القاعدة معظم قيادييها وكوادرها، سواء من الجيل المؤسس (أولهم أبو حفص المصري الذي قتل في أفغانستان في نوفمبر 2001، ومصطفى أبو اليزيد الذي قتل في مايو 2010، وآخرهم بن لادن نفسه)، أو من الذين انضموا إليها في تشكلها الثاني (بعد 1996) وأبرزهم: أبو زبيدة الفلسطيني الذي اعتقل في باكستان في مارس 2002، عبد الرحيم الناشري الذي اعتقل في الإمارات العربية المتحدة في أكتوبر من السنة نفسها، خالد شيخ محمد (العقل المدبر لتفجيرات 11 سبتمبر) الذي اعتقل في باكستان في مارس 2003، أبو الفرج الليبي الذي اعتقل في باكستان في مايو 2005، أبو الليث الليبي الذي قتل في يناير 2008، ثم أبو يحيى الليبي الذي قتل في باكستان في يونيو 2012... وهنا نشير إلى أن رئيس مكتب مكافحة الإرهاب في وزارة الخارجية الأمريكية دانيال بنجامين قال في ديسمبر 2012 إن بلاده "أزالت أكثر من 20 من كبار قياديي تنظيم القاعدة المتمركزين في أفغانستانوباكستان من ساحة المعركة منذ تولي الرئيس باراك أوباما منصبه" (في يناير 2009). 2 من جهة أخرى، كان للتجاوزات / الأخطاء الإستراتيجية التي ارتكبتها القاعدة في أكثر من مكان (في السعودية والعراق تحديداً) دور أساسي في ضياع مصداقيتها لدى قطاعات واسعة من المسلمين، كما أن التوسع في استخدام العنف ضد المسلمين وتبرير ذلك بمقولات / مسوغات دينية أفقد خطابها الدعائي (التحريضي) كثيراً من عناصر جاذبيته وأكسبها سمعة سيئة على نطاق واسع (أثبتت الإحصاءات أن 15 في المائة فقط من قتلى هجمات القاعدة خلال سنوات 2004 2008 كانوا من الأجانب، 85 في المائة الباقية كانوا كلهم من المسلمين)، الأمر الذي جعلها في الفترة الأخيرة معزولة بشكل ملحوظ عن حاضنتها / قواعدها الشعبية، وتؤكد هذه الحقيقة المعطيات الحاسمة التي وفرتها "رسائل ابوت آباد"، وهي الرسائل التي عثرت عليها القوات الأمريكية في بيت أسامة بن لادن بعد تصفيته في مايو 2011 (نشرت وزارة الدفاع الأمريكية 17 نموذجا منها حتى الآن)، إذ تشير بوضوح بالغ إلى أن الأوضاع الداخلية للتنظيم في السنوات الثلاث الأخيرة لم تكن على ما يرام أبداً، وأن بن لادن ومن معه (أو من تبقى معه) كانوا يعرفون أن الجماهير فقدت الثقة في "القاعدة" بسبب الأخطاء الفادحة التي ارتكبها "القاعديون" في أكثر من "بيئة عمليات"، وأنه (أي بن لادن) كان يخطط لاستعادة هذه الثقة ببيانات مطمئنة تمد مجدداً "خطوط التواصل بين المجاهدين وأمتهم" (الوثيقة 0019 مؤرخة في مايو 2010)، كما تكشف هذه الوثائق كيف أن بن لادن اعترف بنفسه دون مواربة في إحدى رسائله بحالة الضعف التي آلت إليها قاعدته (الوثيقة 0015 مؤرخة في أكتوبر 2010). 3 فضلا عما سبق، ساهمت المراجعات الفكرية التي أنجزها عدد من منظري التيار الجهادي في السنوات الأخيرة (بعد 11 سبتمبر 2001) في إثارة الغبار حول الحجية الشرعية لعمليات القاعدة الدامية، فمراجعات الجماعة الإسلامية في مصر في 2002، ومراجعات "مشايخ التكفير" في السعودية (علي الخضير، ناصر الفهد، أحمد الخالدي) في 2003، ثم المراجعات المدوية التي أعلن عنها عبد القادر عبد العزيز (الدكتور فضل) في 2007، وهو من أكابر المفكرين داخل أطلس الأيديولوجيا الجهادية الحديثة والمعاصرة، ومؤلف كتاب / دستور "العمدة في إعداد العدة" الذي نشره أول مرة في بيشاور الباكستانية سنة 1988 (سنة تأسيس القاعدة)، ويعتبر المرجع الأساسي الذي يحتكم الجهاديون من القاعدة وغيرها إلى أوامره ونواهيه في كل أمور / نوازل "جهادهم"، كذلك مراجعات الجماعة الإسلامية المقاتلة الليبية في 2009، كل هذه أثرت بشكل فعال في سيولة عملية الاستقطاب التي تعتمد عليها القاعدة في تكثير سوادها، خاصة أن قنواته المعهودة (أي الاستقطاب) لم تعد متوافرة كثيراً بفعل الضغط الأمني المتواصل (باستثناء الانترنت طبعاً)، وجعلت الخطاب السلفي الجهادي الذي يعمل مشايخه بهمة لا تفتر على تصدير مفرداته / مقولاته إلى جميع أرجاء العالم العربي والإسلامي موضع جدل حقيقي، والثابت أنه بموجب هذه المراجعات تخلى أفواج من الجهاديين ومشاريع الجهاديين عن أحلام / أوهام "جهادهم" بعدما تبين لهم الخيط الأبيض من الخيط الأسود وعادوا أدراجهم إلى مواطن الحقيقة. 4 إن أفول نجم القاعدة واحتراق معظم أوراقها على الصعيدين الأيديولوجي والتنظيمي (الحركي) يبدو واضحاً اليوم على أكثر من صعيد، والقول بأن الربيع العربي يشكل فرصة أخرى للقاعدة للانبعاث من رمادها واحتلال صدارة المشهد من جديد كما كان عليه الأمر في عصرها الذهبي الأول (1998 2001) هو محض تمنيات لا تسندها معطيات موضوعية موثقة وحاسمة، فتمدد القاعدة في الهوامش الجيوسياسية التي تخلقها / تخلفها مناطق النزاع لا يعني أنها قادرة على ملء الفراغات بالتأكيد، في العراق مثلا التي يستشهد به عطوان مُنيت القاعدة بواحدة من أسوأ انتكاساتها على الإطلاق، علماً أن العراق بالتحديد كان فرصتها الذهبية التي جاءتها في الوقت المناسب تماماً لتدارك / تعويض انتكاستها الكبرى في أفغانستان بعد سقوط حكم طالبان أواخر 2001 (كثير من تفاصيل سقوط القاعدة في العراق متوفر في: برايان فيشمان، "اختلال الوظيفة والانحدار: الدروس المستفادة من داخل شبكة القاعدة في العراق"، مركز مكافحة الإرهاب في أكاديمية ويست بوينت، نيويورك، 2009)، الأمر نفسه ينسحب على اليمن الذي يضم الفرع الأخطر للقاعدة بحسب التقديرات الاستخباراتية الأمريكية (مثلاً: تصريح كبير مستشاري الإدارة الأمريكية لشئون مكافحة الإرهاب جون برينان بأن قاعدة اليمن هي الأنشط على مستوى العالم، وأن الخطر الذي تمثله على الولاياتالمتحدة يفوق خطر التنظيم الرئيسي بقيادة بن لادن المتمركز على الحدود بين باكستانوأفغانستان، اليوم السابع، 19 / 12 / 2010)، حيث لم تستطع "القاعدة في جزيرة العرب" أن تحقق أي انتصارات تذكر على الأرض، مع أن اليمن "دولة فاشلة" منذ وقت طويل، وفيه كل المواصفات المثالية التي توفر لها فرصاً أكبر للتمدد وإقامة نظامها الإسلامي، أما الصومال التي ذكرها عطوان أيضاً، فإن "حركة الشباب المجاهدين" ليست في حقيقتها أكثر من ميليشيات مسلحة ترفع راية التمرد في سياق الفوضى وحالة "اللادولة" التي تعيشها البلاد منذ أوائل التسعينيات من القرن الماضي، ولا يمكن تصور أن تذهب أبعد من ذلك بحكم التطورات الراهنة في السياقين الإقليمي والدولي التي لا تسير أبداً في صالح الراديكالية الإسلامية ومشاريعها السياسية. 5 إن البلدان العربية تشهد اليوم تحولات جذرية في بنيتها الاجتماعية والسياسية والثقافية والدينية بفعل تأثير الربيع العربي، صحيح أن ثورات هذا الربيع لم تحقق بعد أيّاً من أهدافها المعلنة، ولا يبدو أنها ستحقق شيئاً في المدى المنظور على اعتبار ما تشهده مجتمعات الثورة حالياً من ارتباك واضح في موازين القوى الداخلية سببه الأساسي عمليات السطو المنظمة التي ينفذها بلا هوادة لصوص الثورات من تيار الإسلام السياسي (الإخوان تحديداً)، لكن الصحيح أيضاً أن كثيراً من الثوابت الراسخة على مستوى مفاصل الوعي والإدراك (مستوى العقل العربي الإسلامي أقصد) تعرضت لعملية خلخلة حقيقية لا يمكن تجاوز أو تجاهل ما سيترتب عليها من تداعيات على اتجاهات / مسارات المستقبل. لقد صار كل شيء مختلفاً اليوم، وهذا الاختلاف ليس في صالح القاعدة في كل الأحوال والظروف والمآلات. لقد فقدت القاعدة مبرر حربها في "أرض الإسلام" بسقوط نظم الحكم العربية المستبدة والفاسدة (= العدو القريب) على أيدي ثوار مسالمين لم يرفعوا سلاحاً ولم يتزنروا بحزام ناسف ولم يفجروا عربة مفخخة وسط الشارع، لذلك فإن حسابات ورهانات اليوم ليست هي حسابات ورهانات أمس وما قبله، فقواعد اللعبة تبدلت كلياً في هذه الحقبة الفاصلة من التاريخ العربي الحديث والمعاصر، كما أن الضرورات لم تعد هي نفسها كما اتضح (ويتضح في كل وقت) في ميدان التحرير في مصر وفي غيره من مراكز الثورات العربية، هناك ذهنية / سيكولوجية جديدة مختلفة تتشكل فعلاً في المنطقة، وهناك أحلام وانتظارات كبيرة وممتدة هي في طور التحقق إذا تدارك الثوار أخطاءهم الماضية ونجحوا في استعادة ثوراتهم المسلوبة / المنهوبة بفعل فاعل يدعي أنه إسلامي وهو في غضون أشهر معدودة ليس أكثر أثبت بالدلائل القاطعة التي لا تقبل الشك أو الطعن أنه في صميمه أكثر تسلطاً واستبداداً ولؤماً وخبثاً وطمعاً في الحكم والسلطة من الجلاوزة السابقين الذين أطاحتهم شعوبهم الساخطة، الهاربين والمسجونين والمقبورين، وأنه لا يختلف عن هؤلاء إلا في الشكل والمظهر (اللحية تحديداً) الذي يحاول من خلاله تسويق أوهامه الساذجة والمستحيلة للناس مرة أخرى بعد سقوط أوهام الأزمنة الماضية التي دفعت المجتمعات العربية أكلافها الباهظة على مدار سنوات طويلة كالحة، وبالتأكيد فإن القاعدة بخطابها / مشروعها الراديكالي الماضوي (بدلالاته السلبية) ليس لها موطئ قدم في هذه الأحلام / الانتظارت، ولا يمكن أن يكون لها دور في المرحلة المقبلة إلا دور الشرير الذي يفسد على الناس الآمنين حياتهم. باختصار، لا أعتقد أن هناك مجالاً للمقارنة بين القاعدة في عصرها الأول والقاعدة في هذا العصر (عصر الثورات) وبناء استشرافات حالمة على ضوء هذه المقارنة كما فعل عطوان في مقاله المذكور، طبعاً هذا لا يعني أن القاعدة صارت غباراً منثوراً بالكامل، وأنها خرجت تماماً من معادلة / مربع الصراع، أبداً.. فهي ما تزال قادرة على استغلال بعض الفرص والهوامش والفراغات المتاحة في هذا المكان أو ذاك للضرب كعادتها بلا تردد.. هي فعلاً ما تزال قادرة على التشكل في صورة كابوس، قادرة على الإيذاء، ولكنه إيذاء مجاني لا طائل من ورائه.. ولا ننسى أن الطير قبل أن يموت لا بد أن (يرقص مذبوحاً من الألم).. إنها سنة الحياة التي لا تبديل لها كما يخبرنا تاريخ الذين ذهبوا..