على بعد أسابيع من نهاية المهلة التي منحها حميد شباط لرئيس الحكومة عبد الإله بنكيران من اجل الاستجابة لمطلبه والقيام بتعديل حكومي، يُطرح تساؤل عريض حول الخلفيات الحقيقية للخرجات الإعلامية للأمين العام الجديد لحزب الاستقلال، وحول برنامجه السياسي والنتائج الحقيقية التي يستهدفها، سواء من خرجاته الإعلامية، أو من خلال مذكرته التي آثر الترويج لها قبل وضعها رسميا لدى رئيس التحالف الحكومي. فهل يستهدف حميد شباط الحكومة الحالية أم يركز على رئيسها الأمين العام لحزب العدالة والتنمية؟ أم هل يريد بالفعل "تطوير وتسريع أداء الحكومة" عبر تعديل حكومي سياسي أكثر منه تقني، أم يبتغي تحقيق أهداف غير معلنة تعبر عنها مطالب غير واقعية؟ إن النقاش السياسي حول هشاشة التحالف الحكومي، والذي بدأ منذ الانتخاب المثير للجدل لحميد شباط أمينا عاما لحزب الاستقلال، لم يهدأ بتقديم مذكرة التعديل الحكومي لدى رئاسة الحكومة، ولم تواكبه لقاءات تمهيدية أو تنسيقية بين حزب الاستقلال والأحزاب المشكلة للتحالف الحكومي لدراسة حيثياتها وسياقها السياسي كما هو مألوف في مثل هذه الحالات. وهذا ما يثير التساؤل حول حقيقة رغبة حميد شباط في إجراء التعديل الحكومي وحول خلفياته الحقيقية، بل إن الشكوك بدأت تثار بخصوص الجهة المستهدفة فعليا من حروب شباط على الحكومة بتشكيلتها الحالية التي ستكمل سنتها الأولى بعد أسابيع قليلة. الرغبة في إعادة تشكيل التحالف الحكومي يطرح حميد شباط بوضوح رغبته في إجراء تعديل حكومي ذا طبيعة سياسية وليس فقط تقنية، ويؤكد على إعادة التفاوض من جديد على مضامين ميثاق الأغلبية ومراجعته بشكل جذري، وإعادة ترتيب القطاعات الوزارية من جديد قبل إعادة توزيعها بمنهجية مخالفة لما تم خلال تشكيل الحكومة خلال بداية الولاية التشريعية. وهذا المطلب يعني بشكل جلي أن الأمين العام الجديد لحزب الاستقلال يحاول ترتيب واقع جديد على مستوى التحالف الحكومي، مما سيمس بأركان هذا التحالف من أساسه، وهو يعرف جيدا أن هذا الأمر لا يمكن السماح به أو القبول به من طرف باقي الحلفاء وليس فقط من طرف حزب العدالة والتنمية. والتيقن من استحالة تنفيذ هذا المطلب أمر مُفترض ومتوقع من شخص في ذكاء شباط وتجربته السياسية، فهو يعي جيدا أن المرور لمثل هذه المطالب تعني بشكل تلقائي إقفال الباب أما أي تفاوض، كما أنه يعرف مسبقا أن جينع الحلفاء الآخرين سيرفضون هذا الطرح من أساسه، وهو ما يطرح التساؤل المشروع حول أهداف وخلفيات هذه المطالب، وحول الجهة المستهدفة من دفع الحكومة لما يشبه الجمود السياسي، خاصة وأن الإعداد للاستحقاقات يتطلب تعاونا كاملا بين الأحزاب الحليفة قبل فتح المجال للتشاور مع باقي الفرقاء السياسيين. وهذا التفسير يجد مبرراته في الخرجات الإعلامية الكثيفة التي سبقت إعداد هذه المذكرة، بل إن فكرة إعداد مذكرة مكتوبة وواضحة لم تكن على بال أمين عام حزب الاستقلال الذي كان يفضل المناقشة عبر وسائل الإعلام عوض طرح القضية مباشرة ضمن اللقاءات التي يعقدها التحالف الحكومي بشكل دوري. وبالتالي تبقى فرضية طرح طلبات غير قابلة للتحقيق قائمة بالنظر لسياق هذا الجدل السياسي ولطريقة تصريفه إعلاميا، لكن التساؤل العريض يبقى حول الخلفيات والأهداف الحقيقية من طرح مسألة التعديل الحكومي بهذا الشكل ودون انتظار استكمال انتخاب المؤسسات الدستورية الأخرى (الجهات والجماعات الترابية، مجلس المستشارين) والتي تعتبر أساس التنزيل المؤسساتي للدستور الجديد. بين التنافس على الزعامة وربح المواقع السياسية تبدو الخرجات السياسية والإعلامية للأمين العام الجديد لحزب الاستقلال في أشكال متعددة، تدعو للاعتقاد تارة بوجود نوع من التنافس على الزعامة السياسية، وتارة أخرى بالرغبة في الإسراع بربح مواقع سياسية جديدة يستطيع بها الوفاء بما وعد به ناخبيه داخل الحزب. وليس المقصود هنا بالتنافس على الزعامة السياسية ما يعتقده البعض من تنازع على من يقود التحالف الحكومي أو بنوع من الندية في التعامل بين "الزعيمين" عبد الإله بنكيران وحميد شباط، وإنما الامر أعقد بكثير من هذه الصورة السطحية ذات البعد الشعبوي في المتخيل الذهني السياسي. فالامر يتعلق بالأساس بالرغبة في رسم صورة داخل الحزب شبيهة بالصورة التي يتمتع بها أمين عام حزب العدالة والتنمية داخل المشهد السياسي، خاصة وأن البعض يعتبر أن "عبد الإله بنكيران بنى قوته السياسية على مواجهة حزب الأصالة والمعاصرة في عز قوته وسطوته"، لذا حدد حميد شباط هدفه على هذا الأساس، أي بناء زعامته وقوته داخل حزبه على مواجهة حزب العدالة والتنمية في أوج قوته وعنفوانه، وكأنه يعتقد بذلك أن اعتماد نفس الآليات سيؤدي بالضرورة لنفس النتائج؟؟ وبالموازاة مع هذا المنهج في "بناء الزعامة السياسية الداخلية"، تبدو الضرورة ملحة لديه لتقوية المواقع الحكومية لتيار الأمين العام الجديد لحزب الاستقلال، وغذا عدنا لبداية تشكيل التحالف الحكومي سنجد ان مخاضا قاسيا عاشه حزب الاستقلال بين الأمين العام السابق وبعض الغاضبين داخل اللجنة التنفيذية وعلى رأسهم حميد شباط حول الأسماء المرشحة للاستوزار، وزادت الصراعات بشكل أكثر حدة بعد التعيين الرسمي لأعضاء الحكومة. وعلى هذا الأساس يبدو منطقيا أن يلجا الأمين العام الجديد للحزب إلى الموضوع الرئيسي الذي كان يصارع من أجله السنة الماضية، وسيكون من البديهي أن يحاول "تصحيح ما يراه اختلالا" في التشكيلة الحكومية، خاصة على مستوى وزراء حزب الاستقلال في الحكومة، وهذا ينسحب أيضا على نوعية الحقائب الوزارية نفسها، على اعتبار أن التيار الغاضب من الأمين العام السابق كان يرفض بشكل قاطع التخلي عن عن كل من وزارة الصحة ووزارة التجهيز والنقل. وهذا ما يفسر بجلاء الحروب الغعلامية التي يشنها الجيل الجديد من قيادة حزب الاستقلال، وبشكل ممنهج، على وزير الصحة الحسين الوردي وعلى وزير التجهيز والنقل وعلى برامجه وسياساته المتبعة، فيما يبدو أن مطالب حزب الاستقلال حاليا بتشغيل الأطر المعطلة حاملي الشهادات نوعا من الوفاء للحزب وليس للحكومة السابقة، باعتبارها آلية للتبرير ولإبراء الذمة أكثر منها مطلبا حقيقيا يتعين على الحكومة الاستجابة له. تهديد التحالف الحكومي أم ترتيب التحالفات المقبلة؟ على الرغم من أن حميد شباط، الأمين العام الجديد لحزب الاستقلال، لم يقل يوما أنه يستهدف التحالف الحكومي برمته، إلا أن المهتمين بالشأن السياسي يعتبرون هذه الخرجات الإعلامية تهديدا مباشرا للتحالف الحكومي برمته، ويؤكدون بأن هذا الوضع يطرح تساؤلات حول مدى استمرارية الأغلبية الحكومية الحالية. وقد بدأ البعض فعلا برسم سيناريوهات بديلة لوجود حزب الاستقلال في الحكومة عبر إدخال أحزاب أخرى أو إسقاط الحكومة الحالية وإعادة تكليف حزب العدالة والتنمية لتشكيل حكومة جديدة وفق أحكام الفصل 47 من الدستور، بل إن البعض حسم في قرب إسقاط الحكومة وحل البرلمان وتنظيم ثاني انتخابات تشريعية في أقل من سنة ونصف في ظل الدستور الجديد. لكن هذه السيناريوهات بقيت بعيدة عن طبيعة وواقع الأحزاب السياسية بالمغرب، ولا تتلاءم مع السياق السياسي المغربي برمته. فلا حزب الاستقلال على استعداد للتضحية بوجوده في الحكومة، ولا باقي الأحزاب وخاصة المعارضة الجديدة مستعدة للرجوع لصناديق الاقتراع، لأن النتائج الأخيرة للانتخابات الجزئية التي تم تنظيمها خلطت الحسابات السياسية لجميع الاحزاب. ويبقى الهدف الأساسي لهذه الوقائع الناتجة عن مذكرة حميد شباط يتمثل في البحث عن ترتيبات سياسية جديدة تبدأ من تشكيلة الحكومة، وتركز بالأساس على استشراف التحالفات المقبلة على مستوى الجماعات الترابية والجهات، وبدرجة أقل حدة على مستوى مجلس المستشارين. فالمسلسل الانتخابي الذي لم يكتمل كان من الضروري أن يتم خلال 2012 أو منتصف 2013 على أبعد تقدير، إلا أن السنة الماضية عرفت تباطؤا غير مبرر في الإعداد السياسي والقانوني لهذه الاستحقاقات الانتخابية، وجاءت الانتخابات الجزئية بكل من طنجة ومراكش لتزيد من التخوفات التي نشأت عن الانتخابات التشريعية 25 نونبر 2011، وقد لوحظ عندها تردد كبير لدى مختلف الأحزاب السياسية، وبشكل خاص حزب الاستقلال الذي يطمح في منافسة العدالة والتنمية على المدن الكبرى. وهنا كان الأمين العام الجديد أمام تحدي مصيري بالنسبة لوجوده على رأس الحزب، من جهة لديه إكراه الاستمرار في الاحتفاظ بقوته داخل الحزب عبر العمل من داخل التحالف الحكومي وبالتالي إدخال وزراء موالون له بغض النظر عن التعديلات التي ستتم، ومن جهة ثانية التحكم في القرارات الحكومية عبر تواجد الموالين له داخل التشكيلة الحكومية، ومن جهة ثالثة التمكن بالهدفين السابقين من ترتيب الاستحقاقات الانتخابية الجهوية والمحلية وضبط تحالفاتها القبلية، والتي تعتبر أساس العمل الميداني وأساس قوة حزب الاستقلال. وأمام استحالة قدرته على تحقيق هذه الأهداف الثلاثة بشكل موازي وفي نفس الوقت، يبقى الأمين العام الجديد أمام احتمالين اثنين لا ثالث لهما: - إما مصارحة حزبه بتعقد الوضع السياسي وباستحالة تحقيق جميع هذه الاهداف في نفس الوقت، وبالتالي إعادة صياغة مطالب قابلة للتفاوض حولها وتنزيلها بشكل توافقي، واللجوء للآليات التنظيمية الطبيعية لمدارسة الإشكالات العالقة بما فيها التعديل الحكومي الذي قد يعتبر آنذاك أمرا عاديا؛ - أو التشبت بنفس المطالب وبنفس منهجية الصراع السياسي والإعلامي، وهنا سيكون الاستمرار في النزاع هدفا في حد ذاته للحفاظ على الجبهة الداخلية (في ظل الاستقطاب السياسي الحاد داخل حزب الاستقلال) والاستمرار في التنافس على الزعامة السياسية بنفس الوتيرة لحين تنظيم الانتخابات الجهوية والمحلية، وبعدها يكون قد تجاوز المرحلة الخطرة في تدبير الصراع داخل حزب الاستقلال. وإلى حين وضوح الصورة بخصوص الحسم في منهج الاشتغال داخل التحالف الحكومي، ستبقى نفس الخرجات الإعلامية في محاولة للبقاء في المشهد السياسي وتصدير الصراعات الداخلية لحزب الاستقلال. وإلى حين مرجعة حميد شباط لوثيقة طلباته الحكومية، فإن المغرب سيبقى بدون استكمال تشكيل المؤسسات الدستورية الاخرى، وخاصة الجهوية واللامركزية ونصف البرلمان المغربي، وبالتالي سيبقى ثُلثُ الدستور الجديد معطلا إلى إشعار آخر، بالنظر لمقاطعة شباط لأي إعداد سياسي للاستحقاقات الانتخابية المقبلة. *دكتور في الحقوق