خمسمائة عام مرت على غياب الوجود العربي والإسلامي في الأندلس قديما، أسبانيا حاليا، ورغم مرور هذه المدة الطويلة، إلا أن ملامح الوجود العربي والإسلامي في المدن الأسبانية ما زالت شاهدةً على الحضارة العربية في هذه البقعة الأوروبية رغم محاولات (الأسبنة) التي تشهدها المباني التاريخية. كما أنه، ورغم محاولات محو آثار الثقافة العربية والإسلامية وإزالتها نهائيا، ورغم ممارسات محاكم التفتيش وإجبار الناس على تغيير عقيدتهم بالقوة، إلا أن البصمات الإسلامية كانت أقوى من كل ذلك، بسبب عمق هذه الثقافة وغناها الحضاري. وبعد أن كان العرب والمسلمون أصحاب هذه البلاد، إلا أنهم اليوم يزورونها إما للسياحة أو للدراسة، أو بحثا عن "لقمة عيش" عزيزة المنال في بلادهم، رغم كافة المحاولات والممارسات التي تواجههم من قوى ضاغطة في المجتمع الأسباني، أبرزها اللوبي الصهيوني الذي يستعدي الحكومة هناك ضد العرب والمسلمين، وخاصةً بعد تفجيرات مدريد الشهيرة. بعد تلك الأحداث المؤسفة، ومع اتهام مجموعة من العرب بالمسئولية عن التفجيرات، فإنّ الجالية العربية والإسلامية في أسبانيا تعيش لحظات حرجة، تخشى فيها أن تتحول الاتهامات إلى واقع يمكن أن ينعكس على الأوضاع المعيشية لهذه الجالية، خاصة وأنها الأولى من نوعها التي تشهدها أوروبا. شبكة"الإسلام اليوم" انطلقت إلى بلاد الأندلس لِرَصْدِ أوضاع العرب والمسلمين هناك, ولاحظت أنّ هناك العديد من الاتهامات التي تتوزع كثيرا على العرب والمسلمين، وخاصةً من جنسيات المغرب العربي الذين يشكلون غالبية الجالية العربية، ويبلغ تعدادهم قرابة 300 ألف، من بين 600 ألف نسمة هم من العرب والمسلمين ساكني أرض الأندلس. إضافة إلى الهواجس السابقة، فإن شوارع الأحياء العربية في مدريد وغيرها من المدن الأسبانية أصبحت تشهد بعض التوترات، كاحتدام الكلام الذي يتجاوز الملاسنات العابرة بين بعض الشباب العربي ونظرائهم من الأسبان، وأضحت الأحياء العربية في مدريد موضوعًا لوسائل الإعلام المختلفة، الإقليمية أو المركزية في المدن الأسبانية؛ حيث تحاول هذه الوسائل رصد انفعالات الجالية العربية، وردود أفعالها على ما يجرى, في الوقت الذي تنشغل فيه أجهزة الأمن الأسبانية بالهم الأمني، وتحقيق الاستقرار وتوفيره للجميع، مع الاشتباه بكل ما هو عربي أو إسلامي، وخاصة في المطارات. وقد دفع هذا الاشتباه بأجهزة الشرطة على امتداد الأقاليم الأسبانية - التي تصل إلى 17 إقليما - إلى اتباع إجراءات احترازية ضد العرب والمسلمين بدعوى الاطمئنان على هوياتهم، لذلك فمن السهل على المار في شوارع المدن الأسبانية أن يشاهد مرارا وتَكْرارا هرولةَ رجال الشرطة وراء بعض الشباب، وسرعان ما يكشف المرء أنهم من الشباب العربي، وخاصة من الشمال الأفريقي. وبحسب تفسير أجهزة الشرطة الأسبانية فإن ذلك يأتي في إطار الإجراءات الأمنية ضد المخالفين لنظام الإقامة في أسبانيا، وهى الإجراءات التي تؤكد الجاليات العربية والإسلامية أنها تتكرر منذ تفجيرات مدريد، وترديد الشبهات حول العرب بالمسئولية عنها, وإن كان ذلك يدخل في إطار الإجراء الاحترازي، حسب المسئولين. لذلك لم يكن غريبا أن يتم القبض قبل ثلاثة أعوام, على شاب مغربي في مقاطعة فالينسيا, ووقتها رددت أجهزة الإعلام الأسبانية بأن الشاب الذي ألقي القبض عليه في مطاردة بأحد شوارع المقاطعة مشتبهٌ فيه بالمسئولية عن هذه التفجيرات, ثم سرعان ما اكتشفت أجهزة الشرطة عدم مسئولية هذا الشاب عن تفجيرات مدريد! مفارقةٌ أخرى في عمليات القبض العشوائية يرويها شاهد عِيَان عربي في مدريد، عن اعتقال شاب مغربي بذريعة مسئوليته عن التفجيرات, وتوجيه الاتهام الإعلامي السريع له، حتى تم اكتشاف أن الشاب كان في صالون الحلاقة الذي يديره في مدريد أثناء وقوع التفجيرات! وهو ما يشير إلى أن الإعلام الأسباني سرعان ما يقوم بإطلاق الاتهامات ضد العرب والمسلمين في حال القبض على أية عناصر عربية أو إسلامية كإجراء احترازي . والواقع، فإن الإجراءات الأمنية في الوقت الحالي تبدأ منذ أن يتقدم المواطن العربي للحصول على تأشيرة دخول أسبانيا، مرورا بالمطارات؛ حيث يتم توقيف العرب للتفتيش، وسؤالهم عن أماكن اتجاههم وإقامتهم في أسبانيا، والسبب وراء حضورهم إلى البلاد. ولذلك فإن الإجراءات الأمنية العشوائية تعكس وجود اتجاه ضد العرب في أسبانيا, وهو ما ينتقده أبناء الجاليات، مطالبين بضرورة عدم تعميم الاتهام للعرب والمسلمين بالمسئولية عن أية أحداث، وعدم استعداء الحكومة الأسبانية ضدهم، وألا تظهر في شكل عنصري . "" رفض التعميم ويعتبر مسئولون أسبان أن تعميم الاتهام ليس مقبولا لأي غرض من الأغراض، وأنهم ضد إطلاق اتهامات على أي طرف جزافا، دون أن يكون لذلك سند معلوماتي أو أمني أو قضائي، وأن هناك تفهمًا واضحًا لعدم إطلاق الاتهام على العرب والمسلمين بأنهم إرهابيون في حال ارتكاب البعض منهم لمخالفات لا يقرها بالطبع الإسلام، حسب قولهم, فضلًا عن رفضها من جانب الرموز العربية والإسلامية. ويؤكد المسئولون أنّ هناك تعاونًا من جانب الجالية العربية في أسبانيا للقضاء على ظاهرة ما يسمى بالإرهاب، فضلًا عما أبدته هذه الجالية من موقفها الرافض المستنكر لتفجيرات مدريد الشهيرة، واعتبارها مخالفة للإسلام والتقاليد العربية, وهو أمر يؤكد أن التعميم بإطلاق الاتهامات على الجالية العربية والإسلامية أمر غير مقبول، على حد تأكيدهم . وبحسب تعبير الكثير من المواطنين الأسبان، فإن وجود المسلمين بجوارهم من الجاليات العربية في محيطهم السكني أمرٌ لا يشكل لهم خطورة أو انزعاجا عند الاحتكاك بهم، كما أن الكثير منهم جيران طيبون لا يتدخلون في شئون غيرهم, وإذا كانت توجد بعض الحالات التي تقدم نموذجا سيئا عن العرب، فإن هذا استثناء، على حد قولهم. وربما يكون ذلك القول نابعًا من وجود بعض الظواهر التي تحتاج إلى وقفة بالفعل، وهي حالات التسول الشائعة لدى بعض الفتيان والفتيات العرب، فضلًا عن استشراء الانطباع الذي تُرَوِّج له بعض الدعايات الغربية والصهيونية عن العرب والمسلمين، من عدم الاعتناء بالمظهر الخارجي، وافتراش الطرقات للتسول، أو اتخاذها مكانًا للنوم. ما بعد السقوط وإضافة إلى ما أعلنته الجالية العربية الإسلامية برفضها للإرهاب، فإنها تناشد التيارات والمنظمات التي ترفع الإسلام شعارا، وتتبنى خط المواجهة مع الغرب، أن تتوقف عن عملياتها داخل أسبانيا، تحديدًا خلال المرحلة المقبلة، فضلًا عن أوروبا بشكل عام. ويعللون ذلك بأنه من الضروري كسب الانحياز الأسباني لمطالبات الشعب العراقي بسحب قوات الاحتلال من بغداد، فضلًا عن تحية رئيس الحكومة الأسبانية "ثباتيرو" بسحب القوات الأسبانية من العراق، وهو ما ساهم في كسر محور أوروبا -أمريكا الذي ساهمت فيه بقوة حكومتا (أزنار، وبيرلسكوني). والملاحظ في أسبانيا، وبعد سقوط حكومة اليمين المتطرفة أن الموقف السياسي من العمليات الاستشهادية في فلسطين، لا يزال على حاله، وربما يكون ذلك متفقا مع السياسية الأوروبية المناهضة للمقاومة، على نحو ما تعتبره إرهابا, مخالفةً بذلك الحق والعدل, الذي ترفعه شعارا لها . ومَرَدُّ ذلك- بحسب تعبير دبلوماسيين عرب في مدريد- هو موقف أوروبي شامل من حركة "حماس"، عندما أدرج الاتحاد الأوروبي الحركة على قائمة الإرهاب، واعتبارها من الحركات الإرهابية، لا من حركات المقامة للاحتلال الإسرائيلي، فضلا عن رفض أوروبي واضح لعقد مؤتمر دولي للإرهاب، حتى لا تدخل قوات الاحتلال الإسرائيلي ضمن قائمة الإرهاب باعتبارها قواتٍ محتلة، وتمارس إرهابًا على نطاق واسع، في الوقت الذي تنتقد فيه الدول الأوروبية دور حركات المقاومة في فلسطين للدفاع عن أرضها، وتسبغ صفة الإرهاب الإسلامي على معظم الحوادث التي تقع في دول العالم ! ووفق ما يعبر عنه أبناء الجالية العربية بأسبانيا، فإن الإعلام الأسباني كثيرا ما يمارس الكيل بمكيالين، ولذلك يطالبون بعدم الإسراع في توجيه الاتهام إلى العرب والمسلمين بالإرهاب, في الوقت الذي لا تُنْتَقَدُ فيه -ولو بالإشارة السريعة- جرائم (إسرائيل)،بل تواجه أعمالها الوحشية بالصمت من قبل الإعلام الأسباني، على الرغم من أن ذلك هو الإرهاب بعينه في حق الشعب الأعزل. ويقول أبناء الجالية : إن أوروبا لابد أن يكون لها دور موضوعي قائم على الحق والعدل، بعيدًا عن ممارسات الإعلام الصهيوني، والضغوطات اليهودية لاستعداء الحكومة الأسبانية ضد العرب والمسلمين، وهذا الدور لا يمكن لها أن تلعبه إلا إذا أعلنت رفضها للهيمنة الأمريكية، وأصبح ذلك واقعًا فعليا، خاصة مع التحولات الحاصلة في أسبانيا، وسقوط ثاني أكبر حلفائها في أوروبا، وهو "أزنار", قبل عدة سنوات. وحسب وجهة نظر الصحفي الأسباني "لويس ماريا"، فإن الإعلام الأسباني يسعى إلى نقل الأحداث وتناول كافة القضايا من وجهات نظر متعددة، وليست وجهات نظر محددة أو أحادية الرأي، وبالشكل الذي لا يعني تسيير القضية لصالح طرف من الأطراف، وأن مهمته فقط تقتصر عند حدود ما يقع وتحليله، كُلٌّ حسب وجهة نظر صحيفته. وهنا يخلص ماريا إلى القول بأن الصحف الأسبانية لا تخضع إلى توجيهٍ معين، وترفض الإملاءات أو الضغوط عليها، وهي تعكس فقط ما يحصل دون أدنى تدخل في تغيير مسار كل قضية !! تجاوز المأساة أمام الحرص على إبداء الوجه الصحيح لأسبانيا، وأنها لا تناصر سوى الحقيقة يطرح السؤال نفسه: ما هو مستقبل العرب والمسلمين في ظل الظروف الآنية ؟ الواقع يجيب بأنه يمكن للجالية العربية والمسلمة أن تتجاوز تفجيرات مدريد الشهيرة، خاصةً وأن التصريحات الرسمية تصب في مصلحة المعتدلين منهم، وما يؤكد ذلك حرص السلطات الأسبانية على تدارك الأمر. وهو ما يعبر عنه عمدة مدريد بأنّ الجالية العربية جزءٌ لا يتجزأ من المجتمع الأسباني، ويثني عمدة العاصمة على مسارعة المسلمين في التعاطف والتضامن مع الأسبان ومع عائلات الضحايا، فضلًا عن دعوته للتضامن مع مسلمي أسبانيا باعتبارهم في مرحلة صعبة. وبدورهم، فإن ممثلي الجالية يؤكدون على ضرورة تفادي الخلط بين الإسلام وبين الإرهاب؛ لتبقى الأمور في إطارها, خاصةً وأن في أسبانيا منظمة إرهابية شهيرة، هي منظمة "إيتا"، مما يؤكد أن الإرهاب ليس له جنس ولا دين . أما بالنسبة إلى مستقبل الجالية في ظل فوز الاشتراكيين، والتحولات السياسية في أسبانيا، فإن الحال يُبَشِّر كثيرا بالخير بالنسبة لهم، على الرغم من ضعف هذه الجاليات، وإن كان ذلك على المستوى الغربي بشكل عام، ففي الوقت الذي شقت فيه أسبانيا (أزنار) عصا الطاعة على زعامة أوروبا التقليدية الممثلة بالمحور الفرنسي الألماني، وشجعت لندن على تشكيل محور أمريكي التوجه، فإن حكومة "ثباتيرو" لا تزال تعمل على إفشال ما يُسَمَّى (أوروبا الأمريكية.) كما أن سقوط اليمين في أسبانيا سينقل بلاد الأندلس إلى موقع الجسر السياسي والثقافي بينها وبين الوطن العربي؛ لتعود أسبانيا -كما كانت- من أكثر الدول الأوروبية تعاطفا مع القضية الفلسطينية، وليس كما كانت في موقع المتفرج اللامبالي، دون أن تتبنى المواقف المنحازة لإسرائيل، كما كانت تفعل حكومة "أزنار"، وهو ما يُؤَكِّدُهُ أركان حزب "ثباتيرو", والذي أعلن أيضا عن تخفيف الغلو في المواقف المعادية للمهاجرين، وإبطاء التوجه الأوروبي نحو المزيد من الابتعاد عن الوطن العربي، وعدم الانحياز الْمُطْلَقِ لإسرائيل. عن شبكة الإسلام اليوم