لم تشهد الساحة السياسية المغربية، من قبل، ما تعيشه الآن من حركية واهتمام وترقب مع ما يكتنفها من ضبابية في تفسير الظاهرة تفسيرا يعتمد مقاربة وصفية مع ربط ذلك بأفق انتظار العامة والخاصة. يعيش الشعب المغربي قاطبة حالة ترقب قصوى؛ فهو ،من جهة، يريد قطف ثمار الثورة البيضاء التي كان شعارها هو محاربة الفساد والمفسدين المادي والسياسي، ومن جهة أخرى، يتوخى إنجاح الحكومة التي كانت نتيجة اختياره. وما نتائج الانتخابات الجزئية المتمثلة في إعادة انتخاب أربعة نواب من بين ستة بنسب فاقت 50% من المصوتين إلا دليل واضح على إرادة راسخة لدعم خيارات الحكومة: ولا مناص من الوقوف مليا عند بعض الإحداثيات لفهم طبيعة المرحلة وتناقضاتها، ففي الوقت الذي كانت الحكومة المعينة في انتظار تنصيبها من البرلمان لمناقشة الميزانية شبه النصفية والمصادقة عليها كانت المعارضة تشن حملتها، وتُحمّل الحكومة الجديدة كل انكسارات وفشل السياسات الحكومية الماضية، فتهاوت عليها التعجيزات من لدن الأصالة والمعاصرة والاتحاد الاشتراكي. وكنا يومئذ أمام فرجة سريالية لمطالبتهما بتطبيق أجندة المعارضة التي أبانت عن فشلها عوض برنامج الحكومة. ومن البديهي، والحالة هذه، أن تصطدم الحكومة بمثل هذه الاستفزازات لأن أولئك هم ممن كانوا يرون أنفسهم، قبل الربيع العربي، مؤهلين للقيادة، ولكن الصناديق أتت بما لا تشتهي الأقلية: وعلى هذا الأساس، لم يمر اجتماع أو ندوة أو جلسة برلمانية من دون عمل حزب الأصالة والمعاصرة على تبخيس عمل الحكومة، والتركيز على النيل من حزب العدالة والتنمية، وموازاة ذلك بمغازلة الاستقلال والحركة الشعبية لإيجاد أنصار داخل الأغلبية. وفي المقابل كانت هذه الاستفزازات تغذي استنكار بعض نواب العدالة والتنمية وتشحنهم للرد على الطعون والتحامل والانتقاد، أو ما يعتبرونه كذلك، ثم الخروج أخيرا من دائرة الترافع عما هو موضوع الساعة إلى النبش في أصول الحزب وجذوره، وأسباب إنشائه، وما إلى ذلك مما يثير حفيظة المنتقدين، ويزكي جذوة الخلاف، ويلبي رغبات ضعف النفس البشرية. وبالتالي فإن هذا الصراع يجر المتنافسين إلى رهن المصداقية بالثأر والانتقام لا بالتنافس الجاد في المشاريع المنتجة والخلاقة لخدمة الشعب. وقراءتي لظاهرة انتقاد الأشخاص والأحزاب بدل البرامج والسياسات لم تقف عند أحزاب المعارضة ونوابها ضد الأغلبية، بل تجاوزتها إلى صراعات ومناوشات وابتزازات حتى داخل الاغلبية وبين مكوناتها. ولو استقر الوضع عند هذا الحد، رغم مساوئه، لقلنا إن هذا الأمر معروف ومعمول به في كل ديمقراطيات العالم من خلال عمل الأقلية والأغلبية، إلا أن النزال تعدى كل أدبيات الحوار والنقاش السياسي الجاد، ودخل في متاهات المناوشات الشخصية التي لا تحمد عقباها، ولا يرجى منها خير العباد والبلاد. وما السباب ومبادلة الألفاظ البذيئة تحت قبة البرلمان بمرأى ومسمع كل المغاربة عبر النقل المباشر للتلفزة الوطنية سوى انحدار لمستوى التمثيلية، وخروج النواب من مناقشة الأفكار إلى منافشة الأشعار. فليس من الحكمة في شيء أن يجر هذا النقاش بين الحزبين رئيس الحكومة للدخول في هذه المتاهات كلما واجهه أحد نواب هذا الحزب أو ذاك باستفسار أو سؤال لا يتماشى ورؤيته، أو يناقض مشروعه السياسي، أو يتعمد استفزازه. وللإشارة فإن رئيس الحكومة المغربية بمجرد تعيينه من لدن الملك ومصادقة البرلمان على الحكومة أصبح شخصية عامة، لذلك يتوجب عليه الترفع عن كل ما هو خاص. والعمل على التنسيق وتقريب وجهات النظر من دون لمز أو همز. وإذا كان في البرلمان أو خارجه من يبحث عن إرباك العمل الحكومي عبر التشكيك في قدرة الرئيس أو في أهلية مؤسسة الرئيس فعلى السيد بنكيران أن لا ينجر وراء انفعالاته أو استفزازاتهم، بل عليه أن يكظم غيظه، ويتغاضى عن خصمه، ويلتزم حياده، ويولي كل عنايته للشأن المغربي بعامة. ولست هنا في موقف الدفاع عن أسلوب هذا أو ذاك بقدر ما أحاول جرد ما يدور، ومحاولة فهمه في إطار المشهد العام. فصعود نجم حميد شباط بعد مؤتمر حزب الاستقلال الأخير، وتوليه منصب الأمانة العامة من دون مشاركته في عملية الاستوزار السابقة، وما يمكن أن ينتج عنها مستقبلا إيجابا أو سلبا جعله يتموقع في وضعية لا يحسد عليها. فبغض النظر عن تلميح بعض المحللين إلى فرضية وجود نية لديه لتصفية حسابات المؤتمر الأخير على حساب بعض الوزراء، إلا أن ذلك لا يمنع من وجود أسباب قد تكون موضوعية أيضا فتفرض عليه المشاورة مع الحلفاء للتباحث حول إيجاد صيغة توافقية للتعديل الحكومي المقترح. وليس الإشكال والغرابة في المقترح في حد ذاته بالقدر الذي يبدو في الشكل والطريقة؛ بحيث لا يُفوّت شباط فرصة من دون أن يلوح بورقة التعديل الحكومي. فهو يضع رجلا في الحكومة وأخرى في المعارضة كمن يريد تحقيق النقيضين في لحظة واحدة. وبهذا الشكل يمكنني القول إن حزب الاستقلال يعيش صراعا داخليا بين الخط الإيديولوجي القريب من العدالة والتنمية وبين الرباط الكتلوي المتهدل مع الاتحاد الاشتراكي، فهو في حيرة من أمره أيضا لأنه انتقل من الزعامة التاريخية إلى الزعامة الديمقراطية بتعبير محمد ضريف، مع ما يواكب ذلك من مد وجزر داخل هياكل الحزبأ. وهذه التذبذبات في المواقف، والتلون القزحي لا يقتصر على الأسباب الآنفة الذكر بل قد تكون هناك أسباب أخرى خارجية يختلف في شأنها المتتبعون ومنها: _ أن السيد بنكيران قد خطف الأضواء بحصوله على الأمانة العامة للحزب ورئاسة الحكومة. _ تزايد شعبية بنكيران ونسبة متابعته في القنوات المرئية غير المسبوقة. _اقتراب الانتخابات الجماعية في ظل صعود نجم العدالة والتنمية وأفول نجم الاستقلال. _التشويش على الملفات الشائكة لبعض الاستقلاليين أو محاولة تجميدها (النجاة مثلا). _تخمين خطورة الامتحان العسير المرتقب في دورة المجلس الوطني لانتخاب أعضاء اللجنة المركزية لما لعبد الواحد الفاسي من حضور قوي. _المراهنة على كسب النقط من التلويح بالتعديل الحكومي سواء قوبل بالموافقة أم بالرفض لأنه: +إذا تبنته الأغلبية فإنه يكون قد سجل حضوره وبصمته، وكسب مصداقيته، وأبان عن قوته وثقل حزبه. + وإذا رٌفض طلبه يكون ذلك حجة له أمام المنتخبين يوم الاقتراع أو يوم المحاسبة وبخاصة إذا فشلت الحكومة لا قدر الله. هذا عن حزب الاستقلال الذي هو جزء من المنظومة الحكومية، أما حزب الأصالة والمعاصرة والاتحاد الاشتراكي والأحرار فإن من يتتبع تدخلاتهم في البرلمان بغرفتيه أو في الندوات وفي المحافل الوطنية والدولية يلاحظ أنهم لا يركزون على تثمين ما يرونه مهما في السياسة الحكومية، ولا يقدمون بدائل في ما لا ينسجم وتطلعاتهم، بل هم يتشبثون بالعموميات والانتقاد الذي يصل أحيانا إلى القذف في الأشخاص، ويقطعون مع أسلوب التعاون وتقديم المشورة والسياسات البديلة، لأنهم أدركوا أن رئيس الحكومة جاد في أقواله وأفعاله، وأن قوة حزبه في تزايد مستمر بعد نتائج الانتخابات الجزئية وهو ما يؤهله لقيادة المرحلة بامتياز، ومستقبله السياسي واعد. إذن هذه الأحزاب مجتمعة لها تخوفاتها من مستقبلها السياسي الذي قد يحجبه إشعاع حزب العدالة والتنمية لمدة قد تطول، وهو ما لن يخدم توجهاتها. لذلك فهي تعمل كل ما في وسعها لإفشال الحكومة، انطلاقا من المعارضة. وتستنجد بالاستقلال من داخل الائتلاف عساها أن تصل إلى مبتغاها المتمثل في: _ تعميق الهوة بين الاستقلال والعدالة والتنمية عبر ضرب التقاطعات الاستراتيجية بالملاسنات الشخصية. _الخوف من انتزاع العدل والاحسان للشرعية وتشكيل حزب سياسي، وما يترتب عنه من تقوية القطب الإسلامي، أو مساندة الجماعة للعدالة والتنمية عن طريق توجيه أعضائها للتصويت. _العمل على تأجيل الانتخابات الجماعية. _التوجه نحو انتخابات تشريعية سابقة لأوانها. _التشويش على تنزيل الدستور. _التشكيك في مؤسسة رئاسة الحكومة؟ _الإيحاء بأن لا أحد يمكنه أن يحل محل الملك في جمع الكلمة وفي تطبيق مقتضيات الدستور وتسريع وتيرة التنزيل. لكن ألا يؤدي هذا إلى عكس المتوخى منه مثل: _المطالبة بتعديل الدستور أو بمجلس تأسيسي لوضع دستور منبثق عن الشعب. _العزوف عن السياسة وما قد يترتب على ذلك من غلو وتطرف والخروج عن النهج الديمقراطي. _فتح الأبواب أمام فضاء غير محسوب العواقب. _زيادة السخط الشعبي وإثارة الشغب. _نبذ السياسة وعدم قدرة الدولة على التحكم في الاشخاص بدل الأحزاب.