من خلال استراتيجية الخطاب الملكي تعد البنية السياسية المغربية من أعقد البنيات التي تستعصي على التفكيك والفهم الدقيق لعدة اعتبارات نوجزها فيما يلي: - الكثافة التاريخية التي تتمتع بها. - قيام شرعيتها على الخلفية الدينية والعُرفية. - غموض المفاهيم وتعدد أبعادها. - التوفر على آليات استراتيجيات متعددة لاحتواء كل الهزات. - ضعف المعارضات السياسية وكل الفاعلين الاجتماعيين والثقافيين.... في حوار مع صحيفة لوفيغارو سنة 2002 قال محمد السادس مجيبا عن سؤال حول طبيعة الملكية في المغرب بأنها تنفيذية ،ووصفها في خطاب 30يونيو2007 بأنها فاعلة. هذا التحديد له أهميته القصوى في أي مقاربة تفكيكية ،لأنه صادر من أعلى جهة سلطوية في الدولة ،والتي قررت أن الملكية تتميز بخاصيتين اتنثين تجعلها تحتوي البناء السياسي كليا،هذا البعد العملي يستمد قوته من الخلفية النظرية التي تتميز بها الملكية بالمغرب، نقصد بهذا أنها مؤسسة قائمة على مبدأ البيعة الشرعية بين الراعي والرعية التي ترتد إلى المرجعيات السلطانية الإسلامية،وليست خاضعة لمبدأ الانتخابات، وهذا الأمر أصبح من المستحيل التفكير فيه في الحقل السياسي المغرب. *خطاب 9مارس2011 : محاولة تفكيكية إن السياق الزمني الذي جاء فيه الخطاب هو التحركات الشعبية بمنطقة شمال أفريقيا والشرق الأوسط المطالبة بالإصلاحات الجذرية والحريات العامة، والحقوق الأساسية والعدالة الاجتماعية، وغيرها من مستلزمات العيش الكريم، إضافة إلى عامل تبلور حركة 20 فبراير الشبابية، ومسيراتها الاحتجاجية الواسعة بكل المدن المغربية. وفي ظل الظروف التي يعيشها الشارع المغربي، فالخطاب جاء ضمنيا كمرحلة استباقية ووقائية اعتبرت ذكية عند بعض المحللين. ونسجل ملاحظتين مهمتين: 1) أراد الخطاب أن يتموضع زمنيا في سياق استكمال مشروع الجهوية الموسعة والمتقدمة: "بما تنطوي عليه من تطوير لنموذجنا الديمقراطي التنموي المتميز"، وبهذا فهو حلقة من حلقات هذا النموذج، وليس ردا أو استجابة لمطالب حركة 20فبراير. فالخطاب هنا يؤسس لنفسه القوة والفاعلية عبر آليات الإقصاء والاستبعاد والإضمار والنفي والتهميش...، لأن عملية التصريح بكون الخطاب هو استجابة لضغط الشارع يضعف من القيمة السلطوية للنظام السياسي الملكي المغربي. 2) كرس الخطاب السلطة العليا للمؤسسة الملكية بوصفها قائدة الإصلاح الشامل بالمغرب، واستبعد بل تجاوز فاعلية الأحزاب والفاعلين السياسيين والاجتماعيين والاقتصاديين، حتى اعترف أحد قادة الأحزاب السياسية التاريخية بأن الملك "أكثر تقدمية من الأحزاب". إن التنفيذية والفاعلية التي وصف بها الملك طبيعة الملكية بالمغرب تنعكس لغويا وأسلوبيا داخل بنية هذا الخطاب بشكل قوي جدا. ويكفينا أن نقوم بعملية جرد للأفعال والضمائر التي احتواها الخطاب لنجد هاتين الخاصيتين: (أخاطبك نموذجنا كلفناه منوهين أعلنا ندعو أننا نعتبر ارتأينا قررنا عملنا اعتلائنا هدفنا أننا لا نريد حرصا منا ارتأينا أقدمنا رسخنا إن إدراكنا إلا لالتزامنا ولنا ثوابتنا قررنا رسخناه قررنا راعينا أسندنا داعين نظرنا أننا نتوخى ندعو اعتزازنا شعبنا متطلعين إن إطلاقنا نموذجنا سنعمل ثم يختم الخطاب بالآية القرآنية: " إن أريد إلا الإصلاح مااستطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنبت"). إنها أفعال مقترنة بضمير "نا" الدال على الفاعلية الذي يحمل دلالة العظمة والتفخيم والسلطة، منتقاة بعناية تامة ومتفاعلة تركيبيا مع حقل معجمي دلالي يعكس القدسية والقوة والاستمرارية التي جسدها سيميائيا حضور ولي العهد"الحسن الثالث". لنحاول الآن التوغل أكثر في بنية الخطاب محاولين تفكيكه وتأويل دلالاته ومقاصده المعلنة والمضمرة. يقول الخطاب: "ونود في البداية الإشادة بالمضامين الوجيهة لتقرير اللجنة الاستشارية الجهوية التي كلفناها منذ ثالث يناير من السنة الماضية بإعداد تصور عام لنموذج مغربي للجهوية المتقدمة منوهين بالعمل الجاد الذي قامت به رئاسة وأعضاء وبالمساهمة البناءة للهيئات الحزبية والنقابية والجمعوية في هذا الورش المؤسس" هذه العبارات تعكس دلالة يمكننا بسطها بالشكل الآتي: إن الملك بوصفه القوة الفاعلة والنافذة سياسيا واجتماعيا واقتصاديا ودينيا، أطلق مشروعا وطنيا لبناء نموذج مغربي لجهوية متقدمة، وكلف لجنة تتلخص وظيفتها المقيدة بفعل الاستشارة التي تخولها الخلفية الدينية لكونها من ركائز ودعائم الملكية بالمغرب بإعداد تصور يتضمن الخطوط العامة، أما التفاصيل والجزئيات فإنها من وظائف العنصر الفاعل والنافذ، ولأجل هذا المجهود استحقت اللجنة الإشادة والتنويه.؟؟ والنتيجة التي نخلص اليها هي: - المؤسسة الملكية وظيفتها التشريع والتخطيط وإعداد المشاريع السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدينية. - الفاعلين السياسيين والمؤسسات الرسمية وظيفتها الاستشارة والتنفيذ. وهذا كله تجسيدا لنظرية السيد والعبد، فالأول يأمر والثاني ينفذ، وفعل الأمر هنا موجه من ذات آمرة مستعلية إلى ذات ضعيفة لا تملك لنفسها شيئا يتوجب عليها التنفيذ الفوري(البعد اللاهوتي التقديسي) يقول الخطاب: " لقد اقترحت اللجنة في نطاق التدرج إمكانية إقامة الجهوية المتقدمة بقانون في الإطار المؤسسي الحالي وذلك في أفق إنضاج ظروف دسترتها، بيد أننا نعتبر أن المغرب بما حققه من تطور ديمقراطي مؤهل للشروع في تكريسها دستوريا". هذا المقطع الخطابي نؤول دلالته كما يلي: إن اللجنة التي كلفها الملك بإعداد التصور العام حول الجهوية المتقدمة، اقترحت صياغة قانون معين لتفعيلها لكن من داخل المؤسسات الدستورية القائمة في انتظار توفير إمكانية دسترتها مستقبلا، لكن الملك برؤيته التقدمية النافذة، ونظرته الاستراتيجية يرى أن المغرب مؤهل بفعل تطوره الديمقراطي إلى دسترة الجهوية المتقدمة اليوم قبل الغذ. إن الخطاب مارس هنا خطوتين اثنتين: - استحضار وذكر مقترحات اللجنة كما هي، والتي تميزت بالمحدودية وعدم الفاعلية. - الإقصاء والاستبعاد والاعتراف بالهامشية عبر آلية التجاوز التي عكسها المقترح الملكي. والمقترح الملكي حول دسترة الجهوية يخضع لتوجهات يقترحها الملك نفسه، لخصها في خمس نقاط أساسية(أنظر الخطاب). فالمقترح ملكي في كليته" شكلا ومضمونا"، ويتلخص دور المؤسسات في التنفيذ. يقول الخطاب: "وفي نطاق عقلنة عمل المؤسسات فإن تمثيلية الهيئات النقابية والمهنية تظل مكفولة بعدة مؤسسات وعلى رأسها المجلس الاقتصادي والاجتماعي...". هذا المجلس المستحدث من قبل الملك نفسه هو أداة تنفيذية واحتوائية في الوقت نفسه، إضافة إلى بعده الخطير المتمثل في تكريس المقاربة الأمنية عبر تعيين وزير الداخلية السابق على رأس المؤسسة. لماذا لم يتم مثلا انتخاب المجلس بدل تأسيسه فوقيا؟ إن الذي يميز هذا الخطاب هو دقته في بناء الدلالات والمقاصد، بأسلوب إقناعي محبوك،وفي استراتيجيته الدقيقة في الانتقال من فكرة إلى أخرى. ولنتأمل مثلا عملية انتقاله من الحديث عن دسترة الجهوية إلى الحديث عن التغيير الدستوري الشامل، وأول ما يثيرنا هو عبارة "شعبي العزيز"، التي تعتبر لازمة حجاجية تنبيهية ذات بعد إقناعي، بحيث تكررت ثلاث مرات وفي تناغم مع نبرة تصاعدية في مستوى الخطاب، وهي عبارة تعكس العلاقة الرابطة بين الراعي والرعية. ولإعطاء المشروعية والجدية للتغيير الدستوري الشامل المقترح، يصرح الخطاب بعدة انجازات تقررت عمليا في البنية السياسية المغربية: "أجل(الدلالة التقريرية التأكيدية)لقد حقق المغرب مكاسب وطنية كبرى، بفضل ما أقدمنا عليه من إرساء مفهوم متجدد للسلطة، ومن إصلاحات وأوراش سياسية وتنموية عميقة، ومصالحات تاريخية رائدة رسخنا من خلالها ممارسة سياسية ومؤسسية صارت متقدمة بالنسبة لما يتيحه الإطار الدستوري الحالي.." هناك إذا عدة منجزات تحققت فعلا داخل ما سمي "العهد الجديد": • المفهوم الجديد للسطة. • أوراش إصلاحية وتنموية كبرى عميقة(مشروع التنمية البشرية). • مصالحات تاريخية رائدة(هيئة الإنصاف والمصالحة). ولكنها إنجازات إبداعية حقيقية تجاوزت كليا المؤسسات الدستورية التي أنجزها العهد القديم، ولهذا فلابد من بناء وتجديد البنية الدستورية لتتناغم وتتفاعل مع تلك المنجزات. ففرادة العهد الجديد تتمثل في تجاوز العهد القديم كليا، وهذه العملية يمكننا حدسها بشكل كبير في خطابات محددة لكل من محمد الخامس والحسن الثاني مباشرة بعد تسلم السلطة وستظهر التماثلات والتشابهات. إن الدستور الجديد أو «الميثاق الجديد بين العرش والشعب"مسيج بقدسيات خمس تدخل فيما أسميناه "المستحيل التفكير فيه في الحقل السياسي المغرب": 1)الإسلام مرجعية الدولة 2)إمارة المؤمنين 3)النظام الملكي 4)الوحدة الترابية 5)الخيار الديمقراطي لايكتفي الخطاب بتوصيفها بعبارة "القدسية"، وإنما يضيف إليها حجة أخرى هي"الإجماع الوطني" لتعميق دلالتها التقديسية في أذهان المتلقي/الرعية. بعد هذه المقدمة التقريرية التي لا تقبل الجدال، ينتقل الخطاب إلى الحديث عن المرتكزات التي سيبنى عليها الإصلاح الدستوري والتي لخصها في سبعة مرتكزات. ونظرا للخاصية التي أبدعها العهد الجديد والمتمثلة أساسا في المقاربة التشاركية بين الراعي والرعية، فإن الراعي قرر إنشاء لجنة للقيام بعملية مراجعة الدستور القديم، لكن بناء على تلك المقدسات الخمس والمرتكزات السبع؟، والإصغاء إلى كل السياسيين والنقابيين والاجتماعيين، وعند الانتهاء من إعداد المقترحات المحصورة بمدة زمنية محدد(شهر يونيو) سترفع إلى ما سماه الخطاب "نظرنا السامي" ليطلع عليها ويقرر القرارات النهائية. وفي نهاية الخطاب يتم إعادة عبارة "نموذجنا الديمقراطي التنموي المتميز" لتقريرها في الأذهان وترسيخها، كما استدل الخطاب بآية الإصلاح للتعبير عن حسن النية والتعلق بالمقصد الديني. *سلطة الخطاب و قدسيته إن الخطاب عبارة عن نظام ديناميكي يفرض سلطة معينة من خلال بنيته الداخلية المتمثلة في البناء اللساني اللغوي والمعجمي، والخارجية المتمثلة في التفاعل مع بنية المجتمع وعناصره ومؤسساته. ولقد حاولنا أن نوضح بعضا من تلك الخصائص التي ميزت خطاب 9مارس، والتي تساندت وتفاعلت للتدليل على البعد السلطوي والتقديسي. وإذا كان المؤلف يعد عند البعض مجرد تقنية خادعة في تحديد هوية النص(مشيل فوكو)، فإن دلالته هنا لها بعد إقناعي هائل جدا، ولنستحضر التعبير الذي مهد للخطاب: "أيها المواطنون والمواطنات صاحب الجلالة يخاطبكم" فالمؤلف/المتكلم/المخاطب ليس شخصا عاديا إطلاقا، ودلالة الصفة "صاحب الجلالة" تعبر عن المقصود وما تقتضيه من معان يجب أن يستحضرها المتلقي بشكل تلقائي. ملاحظة: كتبت المقالة يوم 10 مارس 2011