من خلال التربية التقليدية التي تلاقاها أغلب أفراد المجتمع المغربي من طرف أسرهم أو النوافذ المؤثرة الأخرى في حياتهم، نلاحظ أن هذه التربية تتسم بالكثير من السلبية والقليل من الإيجابية، وكلنا يحفظ العديد من الأمثال الشعيبة المشكّلة للخارطة الثقافة الموجهة للفكر والسلوك الإجتماعي المغربي، ومن أشهرها (سبّق الميم ترتاح) و (دير حسنة مايطرى باس) و (والله ماقفلتي لفورتي) و (خوك في الحرفة عدوك) وغيرها كثير ... فهذه الأمثال للأسف تشكل عائق ومانعا أمام تقدم ثقافة المشاركة والتعاون والتسامح والفاعلية والإيجابية داخل المجتمع، وتكرس ثقافة الأنانية والحرص على الذات والاحتياط من الآخر وسوء الظن به، مما يؤدي إلى شيوع نمط سلبي يمحق خيوط التواصل والتنمية وتحقيق المصلحة للناس. المجتمع المغربي وثقافة السلبية والعدمية: وإن من الملاحظ أن مجتمعنا المغربي تطغى عليه النظر السلبية في العديد من مناحي الحياة في السياسة والثقافة والأعراف والعلاقات وحتى في النظرة إلى أحكام الدين وتعاليمه، ففي الأسرة- مثلا - نلاحظ كثرة قطع الأرحام وانقطاع التواصل بين العائلات والأسر والأفراد بسبب أمور بسيطة، الأخ يقطع أخاه نهائيا بسبب كلمة قالها في حقه، أو عدم دعوته إلى عرس ابنه أو ابنته، أو غيابه عن عزومة مهمة لديه، أو يقابل الحسنة بالحسنة أو السيئة بالسئية، فلم يعد أفراد المجتمع يستحضرون ثقافة الواجب والأجر في صلة الأرحام، فعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [ ليس الواصل بالمكافئ ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها ]. رواه البخاري " بمعنى أن الوصل فعلا يكون في حالة الإنقطاع "أن تصل من قطعك" وليس أن تصل من وصلك. ونرى في المدرسة أن الأستاذ المجدّ الجاد الذي يحرص على تدريس التلاميذ الدرس ويفرض سياسة الحزم والمتابعة والمراقبة والموضوعية في الامتحانات ووضع النقط، هذا النوع من الأساتذة في نظر التلاميذ لا يصلح لأداء هذه المهمة لأنه لا يرحم من في القسم ولا يضع النقط ويصنع المعروف في حق الكسالى والضعفاء، فالتلاميذ لا ينتبهون إلى الجانب الإيجابي المشرق في هؤلاء الأساتذة الفضلاء لأنهم متشبعون بروح المسؤولية والورع والمواطنة الجادة في أداء واجبهم المهني. والأمثلة لا حصر لها. ففي واقعنا الذي نعيش فيه نرى المتمدرسين ينقطعون عن الدراسة لأن المستقبل معدوم وحجر الدراسة زنازن مفتوحة والشهادة لا قيمة لها، وترى العامل لا يتن عمله لأن أجره زهيد وصاحب الشركة أو المؤسسة لا يلبي له حاجياته الماية ولم يسوّي له الوضعية، ترى الطلبة والتلاميذ يدمنون على الغش في الامتحان بحجة أن المجتمع كله فاسد ومبني على الغش و"إذا عمت هانت" كل شيء غير مستقيم وغير واضح فالظلام أسود والنور أسود، وإذا لاح شعاع النور من وسط الظلام، يعتقد الكثيرون أن أنه السراب في صحراء لا ماء فيها ولا سبيل للنجاة والهلاك أمر محتوم. الإسلام وثقافة الإيجابية في الفكر والممارسة: وقد عالج الإسلام قيمة السلبية عبر إعادة بناء مجموعة من المفاهيم وبيان فضل وأثر الإيجابية على الفرد والمجتمع معا، حيث أن الرسول الكريم أكد أن مهمته الأساسية تتجلى في إتمام مكارم الأخلاق واستكمال إصلاح منظومة القيم الإنسانية فقال: "إنما بعثت لأتمم مكارم لأخلاق" رواه الترمذي وصححه الألباني وكما هو معلوم أن النبي الكريم أقر مجموعة من الأخلاق التي كانت سائدة في الجاهلية من مثل مقولة "انصر أخاك ظالما أو مظلوما" فقد تركها على حالتها من حيث الرسم واللفظ، وأعاد بناء وصياغة مضمونها بما يوافق التصور الإسلامي مؤسسا مبدأ الإبداع والتجديد في التغيير والإصلاح الثقافي والعقدي للأمة، فالنصرة الأولى "انصر أخاك ظالما" تقع بمقام الأخد على يد الظالم منعه من ارتكاب الظلم ونهيه عنه، والنصرة الثانية "انصر أخاك مظلوما" تأتي في واجب الإعانة في الاستنصار والدفاع عن الحقوق والمطالب المشروعة. وقد سطر القرآن الكريم منهجا فريدا في منهج التعامل مع الآخر التدافع معه قال عز وجل: "وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيم"(فصلت:34) فحرف "الفاء" هنا للفورية والمبادرة والسرعة لأن منهج التدافع في الإسلام يقوم على أساس الإيجابية والميل إلى خير، واختيار الطريق الذي يقود إلى الصلح والهدنة وتجاوز الحرب والدّم والإنقطاع وقال تعالى: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم){الأنفال/61} وقد حارب النبي العظيم السلبية حتى على مستوى التواصل اللفظي لأن اللفظ يعبر عن الصورة الذهنية التي يحملها الإنسان، فأرشدنا النبي الجميل إلى أن نتلفظ بالقول الجميل وأن نبتعد عن القول الخشن، فقال صلى الله عليه وسلم:"لا يقولن أحدكم خبثث نفسى وليقل لقست نفسي" والمعنى من الناحية اللغوية متقارب أو متطابق ولكن اللفز الأول خشن وله وقع قوي على الأذن والنفس، يوحي إلى السلبية ولا يؤدي وظيفة الإصلاح والتنمية الذاتية. مميزات الإيجايية وأثرها في حياة المواطن: فالإيجابية ثقافة بدونها لا يمكن أن نحقق التقدم لهذا المجتمع، وهي أسلوب راق في التفكير، بحيث يصبح المواطن ينظر إلى الأشياء في أجمل تجلياتها ويبحث عن مكامن القوة والخير فيها ويحولها إلى طاقة روحية ومبادرات راقية تحقق النفع للمجتمع، وتعتبر الإيجابية أيضا من بين القيم الأساسية التي ينبغي للمسلم أن يتحلى بها ويطبع بها أفعاله وأقواله وأحواله، لأنها تعبر عن الخصال الطيبة الكامنة في نفس المؤمن وتعبر عن حالته الثقافية والوجدانية. وإن مجتمعنا في حاجة ماسة إلى قيمة الإيجابية وأخلاق الإيجابية للحفاظ على تماسك روابط الاتصال والتواصل بين أفراد المجتمع، وبناء الثقة والعرى الضامنة للإيمان بالمستقبل والمصير المشترك للأمة، وإذاكانت الإيجابية قيمية أساسية في طبيعة العلاقة بين أفراد ومؤسسات المجتمع، فإنه سيكون أقرب إلى الوحدة وأبعد عن الفرقة والتجزئة والتنازع، وأقرب إلى المشاركة وأبعد عن العزوف والإنكماش، وأقرب إلى الاجتهاد والإبداع وأبعد عن التواكل والغش والجمود، وأقرب إلى الصذق ونكران الذات والرغبة في العمل والعطاء بلا حدود وأبعد عن عن الكذب والنفاق والبطالة والعديد من الأخلاق الخبيثة.. خلاصة القول: إن مسلسل التنمية والتقدم واللحاق بالركب الحضاري العالمي في شتى المجالات لايمكنه أن يحقق النجاح المنشود والاستمرار والاستقرار بدون قيمة الإيجابية وتبعاتها الحضارية المثالية، التي ينبغي أن تغدو نسقا عاما ونفَسًا طاغيا يدفع المجتمع بكل مكوناته إلى المشاركة والمبادرة في صناعة المستقبل للبلاد. لأن السلبية وباء قاتل للإيمان بالمستقبل، قاتل لقيمة العمل والإبداع وحسن الظن، والمجتمع الذي استشرى فيه هذا الوباء مجتمع مهدد بأزمات أخلاقية متتالية هادمة للفعل الحضاري، بدون نظرة إيجابية مشاركة مواطنة مخلصة لا مستقبل للبلاد ونجاح للتنمية.