تمهيد : لقد بذل أسلافنا تضحيات جسام في سبيل تحرير الوطن من الاحتلال الظالم، فاسترخصوا أنفسهم، وسخروا كل قواهم وممتلكاتهم لتحقيق هذا الغرض، بقيادة المغفور له محمد الخامس طيب الله ثراه . ولذلك يخلد المغاربة ذكرياتهم الوطنية الغالية المرتبطة بهذا الحدث كذكرى المطالبة بالاستقلال، وهي سنة حميدة اعتادها المغاربة منذ حصولهم على الاستقلال. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل يكفي الاحتفال بهذه الذكريات لنؤدي واجبنا نحو الوطن ونحو أسلافنا؟ أم أن الواجب الوطني يقتضي منا أكثر من ذلك؟ إن المواطنة الحقة تفرض علينا أن نفكر في كيفية استثمار جهود أسلافنا، وذلك باستلهام الدروس والعبر من نضالهم ومقاومتهم وما تحلوا به من أخلاق وقيم دينية ووطنية، أهلتهم لتحقيق ما حققوا من بطولات وانتصارات. إن الاحتفال الحق بذكرياتنا الوطنية الغالية يتمثل في بناء الإنسان، بناء المواطن الصالح الذي يحب وطنه، ويضحي من أجله بالغالي والنفيس، ويساهم في تنميته وتطويره وتقدمه... المواطن الحريص على القيام بالواجب أكثر من حرصه على المطالبة بالحق، المواطن المستشعر للمسؤولية والأمانة، الزاهد في المغنم، المواطن الذي يضع مصلحة الأمة فوق كل اعتبار. 1 وقفة مع المفهوم: إن مفهوم المواطن الصالح في الإسلام لا ينفصل عن مفهوم الإنسان الصالح، والإنسان لا يكون صالحا في الإسلام إلا إذا صلح عمله وكان مؤمنا، قال الله تعالى: (والعصر إن الانسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر). فالإنسان الصالح مؤمن بربه ورسوله صل الله عليه وسلم ، سليم في عقيدته، وما يصدر عنه من أعمالٍ أعمالُُُُُُُُُُ صالحة، ليس هذا فحسب، بل إنه فضلا عن ذلك يتواصى بالحق ويتواصى بالصبر، فهو صالح مصلح. ويتميز مفهوم الإنسان الصالح في الإسلام، بأن من اتصف بهذا النعت يكون صالحا لنفسه ولأهله ولوطنه ولأمته بل وللبشرية جمعاء. لا كما نجد في بعض الثقافات الأخرى التي تهتم بصلاح المواطن لوطنه ولا يعنيها فساده خارج بلده. فقد أمر الله عز وجل المسلمين بالعدل مع الجميع دون تمييز بين مسلم وكافر، ولا بين صديق وعدو، فقال سبحانه:(ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اِعدلوا هو أقرب للتقوى). وفي خلق الوفاء بالعهد يتوعد الله تعالى من يخلف عهده مع الكافر بالعذاب العظيم لأنه بذلك يصده عن سبيل الله كما جاء في تفسير ابن كثير لآية النحل 94:( ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم)، يقول:»حذر الله تعالى عباده عن اتخاذ الأيمان دخلا أي خديعة ومكرا لئلا تزل قدم بعد ثبوتها،مثل لمن كان على الاستقامة فحاد عنها،وزل عن طريق الهدى بسبب الأيمان الحانثة المشتملة على الصد عن سبيل الله، لأن الكافر إذا رأى بأن المومن قد عاهده ثم غدر به لم يبق له وثوق بالدين فانصد بسببه عن الدخول في الإسلام. ولهذا قال تعالى:( وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم).» 2 المواصفات: ا الاستقامة على الدين تجعل المواطن صالحا مصلحا: من نعم الله وأفضاله على بلدنا المغرب أن جعله بلدا مسلما. لأن الإسلام يربي المواطن على قيم تجعله صالحا لنفسه ولمجتمعه ولأمته وللإنسانية جمعاء. فالإيمان بالله حقا يجعل المؤمن حريصا على القيام بواجباته ومسؤولياته محبا الخير لأمته، موفيا بعهوده والتزاماته، مستقيما في أقواله وأفعاله وسلوكاته حتى مع البيئة والطبيعة والحيوان، مبتعدا عن إذاية الآخرين لأنه يخاف أن يكون من المفلسين يوم القيامة الذين أخبر عنهم الرسول صلى الله عليه وسلم. وهذا بعض ما يفهم من عدة نصوص صريحة كقوله صلى الله عليه وسلم «لا يومن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه.» وكنفيه الإيمان عمن لا أمانة ولا عهد له ، وعمن بات وجاره جوعان ، وعمن لا يأمن جاره بوائقه، وحكمه صلى الله عليه وسلم بالإفلاس على من جاء يوم القيامة بسائر العبادات لكنه ظالم للناس معتد عليهم في حديث «أتدرون من المفلس...». وفي المقابل فإن الرسول صلى الله عليه وسلم رفع المسلم الصالح لأمته النافع لهم إلى أعلى درجة حتى فضله على الصائم والقائم، كما في قوله: «أثقل ما يوضع في الميزان الخلق الحسن» وقوله:»ما من شيء يوضع في ميزان أثقل من حسن الخلق،وإن صاحب حسن الخلق ليبلغ به صاحب الصوم والصلاة»رواه أحمد وأبو داود والترميذي. بل إنه أحب العباد إلى الله وعمله أحب الأعمال إلى الله تعالى كما جاء في الحديث»أحب الناس إلى الله أنفعهم، وأحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على أخيك المسلم،...»الحديث. إن الإيمان هو الأصل الكبير الذي ينبثق عنه كل فرع من فروع الخير، وتتعلق به كل ثمرة من ثماره، والعمل الصالح هو الثمرة الطبيعية للإيمان، فالإيمان القوي بالله تعالى والاستقامة على دينه يجعلان المواطن صالحا مصلحا، حريصا على المصلحة العامة أكثر من حرصه على مصلحته الخاصة، لأنه موقن بأن الله عز وجل يراقبه ويطلع على أعماله الظاهرة والباطنة وإن غفل الرقيب البشري أو غاب أو تغافل أو تساهل في المحاسبة،(إن الله لا يخفى عليه شيء في الارض ولا في السماء) وموقن بأن الله سيكافئه على تضحياته وإن قل الجزاء الدنيوي، ( من عمل صاحا من ذكر أو انثى وهو مومن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم, أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) وبهذه الطريقة كان الرسول صلى الله عليه وسلم يربي الصحابة رضي الله عنهم، لذلك كانت وصيته لما بعث معاذ بن جبل في مهمة:»اتق الله حيثما كنت واتبع السيئة الحسنة تمحوها، وخالق الناس بخلق حسن.» ب الإيجابية والفعالية من مواصفات المواطن الصالح: إن الإيجابية والفعالية ثمرتان من ثمرات الإيمان الصحيح، فالمؤمن الحق لا يتسم بالسلبية والانتظارية واللامبالاة بما يحيط به أو ما يجري حوله، بل يتحرك للحق ويندفع نحوه وينتصر له ولأهله، ويذم الباطل وأهله دون انتظارية أو اتكالية، واضعا نصب عينيه قوله تعالى:(ولتكن منكم, أمة يدعون إلى الخير ويامرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك همُ المفلحون) فالسلبية والانتظارية أو العزلة لا تعرف طريقها إلى المسلم الصالح المصلح، وهو يرى الخطر محدقا بوطنه أو بملك عمومي أو مصلحة عامة، بل إنه يتدخل في الوقت المناسب وبالطريقة المناسبة، وسبيله في ذلك الحكمة والموعظة الحسنة والاتصال بالجهات المسؤولة إن لم يكن ذلك من صلاحياته حتى لا تنقلب إيجابيته إلى تهور وتسرع. ج استشعار المسؤولية: يتميز الإنسان عن جميع المخلوقات بكونه حرا مسؤولا، ولهذه الصفة أثر عميق في طبع كيانه وسلوكه بمميزات معينة. فالمسؤولية عند الإنسان كامنة في ذاته، نابعة من طبيعته الإنسانية الملازمة له، وليست مفروضة عليه من خارج نفسه. إنها استعداد فطري يتمثل في قدرة الإنسان على أن يلزم نفسه أولا والقدرة على أن يفيَ بالتزاماته بجهوده الخاصة ثانيا، فهو لا يساير أهواء نفسه، بل يضبطها بعقله وإرادته وفق ما يريده الشرع، قال تعالى: (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها). إن القيام بالواجب الذي يتوقف عليه صلاح الفرد والجماعة إذا لم تتلقاه النفس على أنه واجب ستحاسب عليه حسابا شديدا في العاجل أو الآجل، فإنها سرعان ما تتهاون في القيام به أو تتملص مع أول فرصة سانحة. ومن هنا ندرك ميزة المسؤولية في الإسلام فهي لها طابع فردي إلى جانب الطابع الجماعي، وتخضع إلى رقابة إلهية ورقابة بشرية. فكونها مسؤولية فردية يضمن لها التحقق على المستوى الفردي دون أن تتأثر بتقاعس بعض أفراد المجتمع. وخضوعها للرقابة الإلهية يضمن لها التحقق حتى عندما ينفرط عقد الأمة، أو يعم فيها الإخلال بالواجب وتضعف مراقبتها للأفراد ومحاسبتها لهم. فالمسلم يعلم أنه سيحاسب بين يدي الله بصفته الشخصية عن المسؤوليات الفردية والجماعية على السواء. قال تعالى( إن كل ما في السماوات والارض إلا آت الرحمن عبدا، لقد أحصاهم وعدهم عدا، وكلهم آتيه يوم القيامة فردا) فاستشعار المسؤولية عند المواطن يمنحه قوة ذاتية على العمل المتقن وعلى القيام بالواجب وأداء الأمانات التي كلف بها أحسن أداء. وغياب هذا الإحساس يعرض الأمة لا قدر الله للخطر، يقول عبد الحليم عويس:»ولم يوجد بعد في التاريخ أمة فقد أفرادها الشعور بالمسؤولية، واستطاعت أن تصنع حضارة وتحدث تطورا حقيقيا. وقد تتجسد هذه المسؤولية في عامل نفسي أو في تربية روحية أو في اقتناع بمستقبل أفضل. المهم أن المسؤولية التي تنطلق انطلاقا داخليا حرا بقناعة ذاتية هي من أبرز أسس التطور.» وإن المتأمل في واقعنا ليفجعه غياب هذا الاستشعار للمسؤولية، وكثرة شكوى الناس من تفشي عدة ظواهر سلبية كالغش والتدليس والتهاون في العمل والفساد الإداري والارتشاء والمحسوبية والزبونية والاستيلاء على المال العام وتبذيره، لكن كل واحد يلقي المسؤولية على الآخرين دون أن يعترف بمسؤوليته الفردية على ما آلت إليه الأوضاع، مع أنه قد يكون طرفا مساهما فيما يحدث كأن يكون متهاونا أو مخلا بواجباته، أو سلبيا لا يغير منكرا ولا يعرف بمعروف. إننا في حاجة إلى أن نفقه قوله تعالى:(إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) ،وقوله صلى الله عليه وسلم:»كلكم راع وكل راع مسؤول عن رعيته...» ، فنعلم أن التغيير مسؤولية الجميع أفرادا ومؤسسات، وأن الكل مسؤول عما يحدث من خرق لسفينة الأمة وإن تفاوتت درجات المسؤولية وخطورتها. د الحرص على الوحدة ونبذ الفرقة إن التاريخ يحد ثنا أن الحركة الوطنية نجحت في إحباط مخططات الاستعمار الغاشم بفضل حرصها على وحدة الصف ونبذ الفرقة. فلم ينجح المحتل في سياسته الرامية إلى تفريق المغاربة عن طريق «فرق تسد» التي حاول أن يزرعها بين الإخوة العرب والأمازيغ سنة 1930م. وقد نجحت في ذلك لوعيها بخطورة التفرقة ويفضل تشبثها بالدين الإسلامي الذي وحد المغاربة جميعا. هذا الدين الذي يدعو إلى وحدة الصف واجتماع الكلمة، ويجعل ذلك واجبا دينيا، وموجبا للثواب والأجر. فملازم الجماعة يفوز بجنة واسعة كما اتسع قلبه لإخوانه، يقول الحبيب المصطفى عليه أزكى الصلاة والسلام:»من أحب منكم أن ينال بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة، فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد.» وقد جعل الله عز وجل الاعتصام بحبل الله واجتماع الكلمة والبعد عن الفرقة والتنازع أساس التآلف،ولب النصر وقلب العزة وعنوان القوة، كما يقول تعالى:(واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم,إذ كنتم, أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم, آياته لعلكم تهتدون) وقد شدد الإسلام الإنكار على من فرقوا دينهم وتنازعوا في اعتقادهم قال سبحانه:(إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم, إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يعملون) . ونهى المسلمين عن التنازع لأن ذلك سبب للضعف والفشل، وأمرهم بالصبر لما كانت وحدة الصف تحتاج إلى ذلك، قال تعالى:(ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين). ولذلك فإن أي مساس بوحدة الأمة المغربية يعد خروجا عن جماعة المسلمين. ويلزم الغيورين على وحدة الوطن استيعاب بعض الظواهر الحديثة التي بدأت تظهر بين بعض الشباب بدعم من جهات خارجية همها تشجيع النزعات القبلية والعرقية للمساس بوحدة الأمة. وإذا كان أسلافنا قد نجحوا في التصدي للمحتل لما خطط للتفرقة بين الإخوة العرب والأمازيغ في المغرب ليتمكن من تنفيذ مخططاته، فإنه لمن واجب مغاربة اليوم جميعا أن يأخذوا الدروس من الماضي، فيتصدوا بحزم وقوة لكل ما يمس وحدة الأمة تحت القيادة الرشيدة لجلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده. ه الإخلاص في العمل: لا يصلح عمل الانسان في الإسلام إلا إذا كان خالصا لله عز وجل وكان صوابا أي موافقا للشرع. ومن الإخلاص إتقان العمل وإحسانه، قال عليه الصلاة والسلام: « إن الله كتب الإحسان على كل شيء...» وإحسان العمل وإتقانه أمر ضروري للفرد والمجتمع، لأن أثر ونتيجة هذا الإحسان والإتقان يعود بالنفع على الجميع، بينما يلحق الضرر الجميع إذا غاب الإخلاص والإتقان في أعمال الأفراد والمجموعات والمؤسسات. لذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الإخلاص والإتقان في العمل شرطا لدخول العامل في زمرة المسلمين، فقال:»من غش فليس منا» .وقد كان أيضا يراقب أسواق المسلمين ليربي التجار على الإتقان والإخلاص وليحارب فيهم الغش والتدليس. وما أحوج بلدنا إلى أن يلتزم أبناؤه كل في موقعه وتخصصه بهذا الخلق الرفيع، لأن تطوره وتقدمه لا يتحقق إلا بالعمل المتقن الخالي من الغش والتدليس في كل الميادين. فالعمال والتجار والحرفيون والمهندسون والأطباء والمدرسون وكبار المسؤولين، هم جميعا من أحق الفئات بأداء هذا الخلق الرفيع مراقبة لله تعالى العليم الحكيم، ثم وفاء لمن ولاهم المسؤولية. إن هذه الصفات والقيم لتعم وتنتشر في صفوف المواطنين لابد من تضافر عدة جهات بدءا من الأسرة إلى المدرسة ثم مؤسسات الإعلام والمرفق العمومي بشكل عام.