تعليم بلا دسم قليلا ما نسمع على قلق الأطفال رواد المدارس . فبالنسبة إلينا المتعلمون لا يقلقون ، لأن القلق حالة ومرض يصيب الكبار فقط ،لأنهم يحسون بثقل المسؤولية أكثر، ويخافون من الفشل ، كما يواجهون الضغوط اليومية والإكراه المتنوع . لكن لو عاش أي منا بين الأطفال وقتا طويلا فحتما سيعلم بأن الأطفال يحبون ويكرهون .كما أنهم يقلقون ، لكن في صمت. هذا الصمت الذي سيتطور إلى شغب وعصيان وانحراف بعد سنوات . فيكفي غير المُطلِّع النظر إلى وجه الطفل الحائر ، أو المتعلم المتعثر أو الفاشل ليقرأ المعاناة والقلق بَادِيَان على تقاسيم الوجه وفي العينين ولون البشرة . فالطفل ذو اللون الشاحب في الفصل هو ذاته خارج الفصل لكن بوجنتين محمرتين لأنه يكون حرا متحررا من الضغوط. ففي المدرسة يكدح الأطفال كما يكدح الكبار تماما مع فارق أن الكبار يستطيعون الدفاع عن أنفسهم بينما الصغار مطالبون بالامتثال –فقط- لآبائهم ولأساتذتهم ولمعلمي الحرف والصنائع. في المدرسة لا شيء غير تلقين المعارف بطريقة جافة خالية من دسم الأنشطة الموازية ، من موسيقى ورسم ومسرح ورياضة وأسفار وعروض سينمائية ومسابقات إبداعية ثقافية .فالطفل المغربي مطالب منذ نعومة أظفاره بتعلم " التَّحَمُّلَ" فيتحمل كتلة محفظته ، وتعب الذهاب والرجوع من المدرسة ، وضجيج غيره ، وقلق أساتذته ، وضغط الدروس ، وإكراه محيطه . فالكل يريد أن يراه رجلا ناجحا قبل الأوان . في المدرسة يُحْرم الطفل من اللعب ، ومن الحديث لغيره ، ومن الجري والحركة الزائدة . فالمدرسة لا تطالبه إلا بالانتباه والتتبع والإدراك وحفظ أشياء ربما لا يفهمها . ليس لأن الأستاذ لم يف بغرض الشرح المستفيض وإنما لأن الطفل لا يستوعب ما يقوله الأستاذ . والأسباب كثيرة في هذا الباب هذه بعضها : لسان عجمي، عربي أم أمازيغي؟ في المدرسة تعتبر اللغة الأجنبية (الفرنسية) لغة أولى من ناحية الأهمية وإن كانت تسمى لغة ثانية . فهي اللغة المطلوبة في سوق الشغل في الداخل على الأقل . وهي التي تمنح الطالب التفوق عن غيره في اختبارات الولوج للمدارس والجامعات الغربية والمعاهد والمناصب العليا . إذ يبدأ تدريسها في التعليم الأساسي انطلاقا من القسم الثالث في المدرسة العمومية، ليُخْتبر فيها التلميذ في القسم السادس ويُطلب منه وقتها التعامل مع نص والإجابة عن أسئلة مختارة بعناية . والسؤال هل بإمكان طفل ينتمي إلى محيط "هش" لا يتحدث اللغة الفرنسية ، أن يثقن التحاور وكتابة وفهم نصوص بالفرنسية في بضع شهور ؟ والمسألة لا تقف عند هذا الحد ، بل هل يستطيع طفل قررت المدرسة انتقاله من قسم إلى قسم أعلى، وهو لا يستطيع قراءة ولا كتابة جملة بالفرنسية ؟ ولماذا لا تُعْطى لمثل هذا الطفل فرصة أخرى كي يكرر إلى أن يثقن القراءة والكتابة والتحاور ولو بجمل بسيطة؟ فهناك تلاميذ يشكلون أكثر من 25% في الأقسام الرابعة والخامسة والسادسة لا يستطيعون كتابة جملة بالفرنسية . فكيف سيتمكنون من التعلم لا حقا وهناك حواجز عديدة تقف في وجه تعلمهم ؟ إنهم مطالبون بتعلم العربية والفرنسية والأمازيغية في نفس الوقت بطريقة جافة لا تتخللها أنشطة ترفيهية وجذابة. فذاكرة الطفل تُشْحن يوميا بمعلومات مُهَدَّدَة بالنسيان من كثرة الشحن بلا غنى، كما أن التمارين المتواترة والتي لا تتخللها استراحات يمسح بعضها البعض الآخر، خاصة في ضوء الزمن الجديد المفروض. في فرنسا مثلا يتعلم الأطفال باللغة الفرنسية التي ينطقون بها في محيطهم ، وفي وقت لاحق يتعلمون لغة أجنبية ثانية أو لغتين . أما طفلنا فيتحدث " بالدارجة" في البيت والشارع العمومي، ويبدأ تعلم اللغة العربية في التعليم الأولي ، ولا يبدأ تعلم اللغة الفرنسية إلا في السنة الثالثة من التعليم الأساسي . هناك – إذن - غياب شبه تام لتعلم اللغة الفرنسية في التعليم الأولي الشبه المختص في تعليم اللغة العربية المتجاوزة في سوق الشغل. فالطفل يتعلم اللغة العربية في وقت مبكر جدا بينما يتعلم اللغة الفرنسية في وقت متأخر، وهو مطالب في آخر السنة السادسة من التعليم الأساسي باجتياز امتحان بالفرنسية والعربية في مدة ساعة ونصف وبمعامل واحد(1) لكل منهما.إنه تَحَد كبير يُفْرَض على الطفل فرضا في غياب التخطيط السليم لتعلم اللغتين في نفس الوقت . وهو ما يفسر فشل الطلاب الدراسي وكل أشكال الرسوب والتسرب التي تعرفها المؤسسات التعليمية والجامعية . وإذا كان هناك من يرى في الدعم التربوي علاجا للتعثر الدراسي وحلا للرسوب والتسرب فإن آخرين يرون في السياسة التعليمية التي تتبعها الوزارة منذ عقود، والتي توصي بانتقال المتعلمين وإن كانوا غير حاصلين على علامات النجاح (ترشيدا للنفقات) خلقا لطوابير جدد من الأميين .على خلاف ما كان عليه التعليم في الستينات والسبعينات والذي كان يمنح المتعلم فرصة تكرار القسم في حالة عجزه عن الاستجابة لشروط الانتقال باستحقاق تلك بعض الأسباب المباشرة التي تساهم في خلق القلق داخل نفس الطفل ، إلى جانب مشاكل أخرى تأتي بها مضامين البرامج وتعقيدات المناهج وغياب الوسائل . فالطباشير والسبورة والكتاب أصبحت – أدوات- لا تفي بالغرض اليوم ، وأصبح مطلوبا أن تُؤثَّث الفصول بالوسائل السمعية البصرية ، والأفلام الوثائقية ، واللوحات الغنية بالمواقف من أجل تطوير المهارات والقدرات. كفى من تفريخ القلقين والعاطلين لقد أصبحت المدرسة مطالبة اليوم قبل الغد بتغيير سلوكها إزاء المتعلمين ، وإزاء رجال التعليم ، وأن تتحول إلى فضاء رحب يُغري الأستاذ والتلميذ بأنشطته المتنوعة والمركزة النافعة ،فما يتعلمه التلميذ في المدرسة( مَا يْشَرْبُو حَتَّى الْمَا لو خرج للشارع !). وعليها الخروج من قوقعتها نحو التحرر من فقه " تفريخ العاطلين" والمُعقَّدين الذين ضَيَّعوا " حرفة الآباء" بِضياعِهِم لمرحلة التعلم في مدارسة كالسجون ، وإن أصبحت بعض السجون في أيامنا هذه أفضل من السجون ، بحيث يتخرج السجين بحرفة تنفعه في الحياة .فالشارع العمومي مليء بالشهادات الجامعية التي لا تسمن ولا تغني من جوع ، إذ تبث بالملموس أن الحائزين عليها يجدون صعوبات جمة في سوق الشغل الذي أصبح يتطلب التقنية عوض الإنشاء كما أن على المدرسة تطليق فقه " شحن" الذاكرة بكثرة المعلومات عوض القليلة النافعة فخير التعلم ما قل ودل. كما أن على المغرب أن يهيئ نفسه لسنة 2030 بالفعل لا بالقول عبر الإصلاحات الحقيقية التي من الممكن أن تحول الموارد البشرية المغربية إلى عملة نادرة سيحتاج إليها المغرب والعالم بعد عقود. يجب أن ننتهي من سياسة محو الأمية ( هناك محاولة للقضاء على أمية الكبار لكن هناك خلق لأمية الصغار دون عذر ) للمرور إلى تعليم قوي يتخرج منه مغاربة قادرون على العطاء والتأقلم والإبداع والانخراط، بتربية وطنية وإسلامية في عملية البناء والتسيير والتدبير، مفتوحة أمام المستحقين والممتازين وبلا تمييز طبقي أو عنصري. وعلى أن يكف أصحاب المصالح عن الكلام عن الأمراض التي قد تصيب الطفل في حالة تكراره، وعن العنصرية والتمييز. وإن أكبر خطيئة تقترفها المدرسة في حق الأطفال هي عدم إعطائهم الوقت الكافي من أجل إتقان تعلم القراءة والكتابة والحساب والتواصل كأسس، والتي هي مفاتح أي تعلم لاحق. إن المدرسة ترتكب أكبر خطيئة في حق المغرب حينما يتخرج منها أميون جددا، ضيعوا عمرهم جالسين على مقاعد ضَيَّعتْ عليهم فرصة تعلم صنعة أو حرفة في إحدى مدارس التكوين. وإن مقترفي الجرائم في حق مواطنين مثلهم، هم في الغالب فاشلون دراسيا، سبق أن تعلموا الخمول والكسل بالمدرسة فتابعوا مسيرة الكبرياء السلبي في الشارع العمومي بلا مورد رزق. إنهم يحملون الكراهية لواقعهم ولأنفسهم ولمن حولهم و قد يشكلون حطب أي شغب . والواجب هو إعادة إنقاذهم بفتح باب الأمل أمامهم بالكف عن خلق أطفال قلقين آخرين داخل المؤسسات التربوية . فانتقال طفل فاشل دراسيا هو بمثابة "قهر" لنفس ذات الطفل و"تحقير" لمجهود الطفل المتميز.