في مشهد جنائزي مهيب، تناقلت مختلف الصحف والمواقع الإخبارية توديع عشرات الآلاف من المغاربة الإمام المجتهد عبد السلام ياسين إلى مثواه الأخير يوم الجمعة الماضي. لقد كان وداعا اشتركت فيه مختلف القوى السياسية، والحركات الاجتماعية، والمنظمات الحقوقية، والتنظيمات الإسلامية، والشخصيات الوطنية. لقد ودع المغرب بذلك أحد رجالاته العمالقة، فالإمام عبد السلام ياسين هرم بمعنى الكلمة، مكثر في كتاباته، ومن يقرأ له تشده عباراته المختارة في تحليلاته التي تعبر حقولا معرفية متباينة، وقوة أطروحة نظريته المنهاجية تتمثل في كونها نظرية متكاملة تمنح المتشبع بها القدرة على فهم التاريخ، وتحليل الواقع، ورسم مسارات المستقبل الممكنة. كما أن من خصوصياتها أنها تمزج في تناسق غريب بين حركية التغيير الساعية إلى تحرير الأمة من الاستبداد، وحركية الفرد في سلوكه التربوي الإيماني، وهو ما لخصه الرجل في شعار "العدل والإحسان" الذي غدا شارة تنظيمه منذ سنة 1987، تاريخ التحول من "أسرة الجماعة" إلى "جماعة العدل والإحسان". لقد ترك الراحل رحمه الله تراثا نظريا ضخما، وشكل مدرسة قائمة بذاتها، وكتاباته مجددة مبدعة يصعب على الزمن إقبارها، وقوتها تعود أساسا حسب اعتقادي إلى ثلاث مقدمات حكمتها: المقدمة الأولى تتعلق بكون الإمام ياسين استطاع أن يتحرر من ثقل الإنتاجات الفقهية لتراث المسلمين، وحاكم تلك النتاجات إلى أصول الوحي المطلقة عوض الاستسلام لخلاصاتها، لذلك لم يسع البتة إلى إعادة صياغة واقع المسلمين اليوم وفق اجتهادات فقهية كانت مظروفة بسياقاتها التاريخية والمجتمعية. المقدمة الثانية تتعلق بقدرة الإمام رحمه الله من التحرر من الترسانة المفاهيمية للنسق الديمقراطي الغربي، وقدرته على التجاوب مع مفردات هذا النسق وفق عقلية ناقدة، تتغيى الإفادة من الحكمة الإنسانية بحكمة؛ بدل السقوط ضحية محاولة التوفيق القهري بين نسقين مختلفين، ولا نقول متناقضين، والتي تنتهي غالبا إلى خلطة تلفيقية. المقدمة الثالثة تتعلق بكون الإمام استطاع أن يتحرر من ضغط أحداث الوقائع اليومية، وعوض غرقه في التفاصيل تمكن من وضع تصورات بأبعاد استراتيجية، تمنح القدرة على استشراف المستقبل وصناعته عوض البكاء على الماضي، أو التعامل مع الأحداث الملتهبة في حاضر الناس بمنطق الإطفائي. ما نود الإشارة إليه في شخصية الراحل أيضا؛ أن البناء الفكري الموسوعي في شخص الإمام المجتهد عبد السلام ياسين لا يستقل عن كونه رجل تربية. لقد تخرج الرجل من "الزاوية البوتشيشية" قبل أن يهجرها بعد أن رأى أنها تقف دون النموذج النبوي الذي أهَّل الصحابة ليكونوا رهبان ليل وفرسان نهار، أو ما يجمله في قوله بضرورة الجمع بين "الخلاص الفردي والخلاص الجماعي"، وقد ظلت أسمى أمانيه أن يتخرج على يديه رجال ونساء يبحثون عن الكمال الروحي ويترقون إلى مقام الإحسان، وبسبب تاريخ الرجل في زاوية طرقية فقد سعى كل وسعه أن يبعد عن جماعته مقارنتها بزاوية، لذلك بنى جهازه المفهومي التربوي من الكلم النبوي وهجر المصطلحات الصوفية، كما " كان الأستاذ عبد السلام ياسين يرفض أن ينادى بالشيخ ويفضل الأستاذ. لأنه لم يكن يريد أن ينتج شيخا ومريدين؛ بل رجالا أحرارا واعين. وهو ما حصل في واقع جماعة العدل والإحسان" على حد تعبير أستاذ العلوم السياسية محمد ضريف في حفل تأبين الإمام المجتهد. ما يمكن أن نضيفه إلى موسوعية الإمام وعلو كعبه في التربية، نقطة ثالثة تتعلق بمبدئيته، وعدم تنازله عن مواقفه، وهو ما كلفه سنوات في مستشفى المجانين، وأخرى في المعتقلات، وعقد من الزمن تحت الإقامة الجبرية دون سند قانوني. ومع ذلك ظل يعد المعارض الأول لنظام الحكم، ومجمل تواصله معه كان يتم بشكل علني من خلال رسالتيه الشهيرتين "الإسلام أو الطوفان" التي وجهت إلى الملك الراحل الحسن الثاني رحمه الله، و"مذكرة إلى من يهمه الأمر" التي بعثها إلى العاهل محمد السادس فترة وجيزة بعد استلامه السلطة. إن ما يستغرب له أن الرجل الذي كان يمد يديه لمختلف مكونات المجتمع، حتى أنه لم يثر عنه أبدا أن كفر أو خون أحدا، ظل يحتفظ بمسافات ابتعاد هائلة عن النظام السياسي، ولم يبد يوما إشارة عن إمكانية التنازل المجاني قيد أنملة لصالح المخزن، إشارة إلى السلطة الحاكمة في أدبيات جماعة العدل والإحسان، بل والبعد أيضا عن المؤسسات الرسمية الصرفة التي توظف لتبييض السياسات الرسمية، وما زلت أتذكر إحدى زياراتي له صيف 2005، حينها سأله أحد علماء الجماعة عن إمكانية المشاركة في مؤسسات علمية رسمية بعينها، فأجابه "رأيي أن المشاركة توشك أن تجلب البلاء، وانظروا إلى تجربة حية أمامكم. إنك تضع أصبعك في آلة تتحرك بسرعة، فإذا بها تجذبك وتهضمك وتزدردك فتصبح جزء منها. إن الجماعة هي علماءها، فإن قبلت الرؤوس والصدور الدنية؛ فما بال الباقي. فاحذروهم؛ فإنما نياتهم خبث واستغلال". وهي مواقف لم يغفرها له القصر حيا ولا ميتا، فظل الإمام المجتهد في حصار ممتد طول حياته الدعوية، وبعد وفاته لم يرسل القصر من يمثله في جنازته، ولم يكلف نفسه عناء إرسال برقية عزاء لأهله. وهو ما ينبئ عن استمرار سياسة شد الحبل بين السلطة وجماعة العدل والإحسان، والتي نجحت مبكرا في حياة مرشدها في الانتقال من عباءة المؤسِّس إلى البنية المؤسسية، وهو ما يضمن استمرارية المنهاج حتى مع غياب إمام في هامة عبد السلام ياسين رحمه الله. *باحث في العلوم السياسية من المغرب [email protected]