الصرخة الثانية: نداء المجد شعر معاوية بن أبي سفيان بدور الشعر، عندما كتب إلى واليه زياد معاتباً، لأنه لم يعلِّم ابنه الشعر، ولم يروِّه إياه. قال له: "ما منعك أن تُروِّيَه الشعر؛ فوالله إنْ كان العاقُّ ليرويه فيبرَّ، وإن كان البخيل ليرويه فيسخو، وإن كان الجبان ليرويه فيقاتل"(1). الاحتجاج هذه المرة عبارة عن ديوان شعري للشاعر القنيطري عثمان مصباح(2)، كما أن العنوان الموازي للديوان يعكس سياقه العام؛ إنه تخليد لذكرى الاعتصام التاريخي لدكاترة التعليم المدرسي، ووثيقة تاريخية ستشهد على مسار هام من مسارات الباحث والمثقف المغربي في رحلته السندبادية لإعادة الاعتبار لمعرفة قبل الذات. ضم الديوان ست قصائد شعرية ("من أنا في بلادي"، "معاذير دراجة"، "مأساة الدكتوراه"، "نداء المجد"، "ثلاثيات المعالي") وكلها بالمناسبة صرخات تضم موقفا ثقافيا من الواقع المعيش؛ موقف المثقف الذي يحس بشساعة الواقع المأمول والواقع الذي يعيشه: تكثر الإحباطات، ويقسو السكون ويزمجر وحشها العاتي ولكن رغم كل شيء يتيه بها ويفتخر، أو هكذا تحدث شاعرنا.. النص الذي يهمنا في هذا المقام –وكل النصوص الشعرية في الديوان تحتاج في اعتقادي إلى أكثر من وقفة وتحليل لسبر أغوار دلالاته الممكنة- هو "مأساة الدكتوراه" الذي يندد فيه صاحبه بسياسة التمييع والتضييع والوهم وتضيع معه إرادة العلم. لوحة الغلاف واللوحات الكاريكاتورية لكل من الرسامين ناجي العلي وعلي فرزات تتمم ما أراد الشاعر البوح به، بل إنها تفتح أفقا سميائيا لتفجير ذاكرة ترتبط بالآني قبل الماضي، كما نجح التقديم الذي حظي به الكتاب من قبل الباحث المغربي محمد بنينير -الذي يمكن اعتباره بمثابة ميثاق للقراءة- في وضع النصوص الشعرية للديوان في سياقها وإطارها الصحيح؛ إنه تحقيب وتأريخ يحكي من خلالهما صاحب المقدمة المسيرة النضالية للدكاترة التربية والتكوين، بدء من تذكير القارئ بحصاد أزمة التعليم في أواخر التسعينات من القرن المنصرم عندما بدأت تتفاقم أزمة التعليم في المغرب بفعل السياسات الفاشلة للحكومات المغربية المتعاقبة بما فيها حكومة التناوب التي كان يؤمل فيها أن تخرج المغرب من غرفة الإنعاش وتجنبه "السكتة القلبية" إلى لحظة النضال من أجل رد الاعتبار. قسوة البوح: مقدمة الكتاب كانت مناسبة أيضا لتذكير القارئ ببعض الأحداث المهمة التي رافقت المسار التعليم في المغرب عندما تم فيه تسييج الجامعات المغربية بترسانة من القوانين أمنت "هيمنة رموز اليسار عليها في المواقع التي سيطروا عليها خلال السبعينات من القرن الماضي" (..)(3) وإن كانت هذه السياسة قد ألحقت ضررا فيما بعد باليسار نفسه بعدما وجد كثير من حاملي شهادة الدكتوراه من اليساريين أنفسهم خارج الجامعة بسبب القانون السالف الذكر. وقد تزامن هذا الوضع الجامعي مع حالة الإجهاز على الترقي بواسطة الشهادات الجامعية التي جاء بها النظام الأساسي لرجال التعليم الذي صدر سنة 2003م في مادته 108 الذي حدد مدة استثنائية للترقي بالشهادة الجامعية تنتهي عند سنة 2008م، لعل هذا ما يعتبره د بنينير خطوة تدعم مسار الوأد في حق الجامعة المغربية التي طالما كانت منارة للإشعاع العلمي والفكري وكانت كذلك علامة من علامات إفلاس التعليم المغربي. لقد خصصت مقدمة الديوان حيزا مقنعا للعصبة الوطنية للدكاترة –التابعة للاتحاد الوطني للشغل بالمغرب- باعتبارها إطارا للدفاع عن المطالب الدكاترة العاملين لقطاع التربية الوطنية، لهذا عرف بها المُقَدِم وكشف عن دواعي تأسيسها وآفاقها المتمثلة أساسا في الإسراع بإدماج الدكاترة في إطار هيأة الأساتذة الباحثين وإيجاد صيغ ومسالك تسهل انتقال الدكاترة إلى مؤسسات التعليم العالي المختلفة.. هكذا ستنتعش المحطات النضالية التي خاضتها هذه الفئة بعدما خيم ركود ملحوظ وشبه يأس من نضال لم يثمر أي خطوة يعتد بها قبل تاريخ ظهور العصبة الوطنية، لعل هذا ما سيعجل منذ سنة 2009 بتدشين مسلسل الحوار مع الدكاترة لينتهي الأمر إلى ما انتهى إليه.. لقد مكنت المسيرة النضالية الدكاترة -حسب مقدم الكتاب- من انتزاع جانب من الحقوق التي رهنت نفسها لها، ورغم ما شاب المباراة الأولى من خروقات، إلا أنها استوعبت عددا لا يستهان به من دكاترة التعليم المدرسي، ويبقى على الوزارة أن تفي بعهودها لإيجاد حل نهائي لهذا الملف لتغيير الإطار لجميع حاملي الدكتوراه(4). نداء المجد ينطلق من قناعة أدبية مفادها أنَّ الشعر في ماهيته ووظيفته فنٌّ ملتزم وملازم لهموم الذات والجماعة، يجب أن يكون كلمة طيبة كشجرة طيبة.. شعر الشاعر مصباح ليس من السحر في شيء، ولا يتبعه الغاوون، بل هو شعر-فعلٌ عقلاني يصدر عن شاعر يعي واقعه جيدا.. شعر يريد أن ينفد إلى القلب ولا ينفد إليه إلا بسلطان الوعي لكي يؤثر في عاطفة كل محب لوطنه كيفما كانت وضعيته الاجتماعية والعلمية.. شعره تغشى ذاكرة ووجدان القارئ فحملت منه حملا خفيفا: الحلم والولادة والانتظار المتبصر لهذا الغد الذي يتوق إليه الدكاترة قريبا، على الأقل هذا ما حاولت بعض نصوص الديوان الاعتراف والبوح به، باعتبار أنَّ الوعي بالواقع قوَّة لا تقهر، فبعد الاعتصام –وفي انتظار شكل نضالي نوعي جديد- لم يعد للمثقف الدكتور ما يثبت به وجوده بوصفه "أستاذا مفكرا" سوى شعره وكلمات يخطها بيمينه، قد يقرؤها الدكاترة وقد لا يقرؤونها.. إن هذا الديوان هو بعض من العزاء الباقي والمتبقي.. هو الشعر الحر الثوري الساعي إلى إعادة بناء واقع الدكتور الذي يجب أن يحاور ذاته لكي يبلور وعيا جديا بعيدا عن أي مزايدة مجانية أو استيهامات اديلوجية لم يعد لها ما يبررها. سلام إلى الشعر المُبْكِي والمدهش، وتحية شعرية نضالية لكل من ألقى السمع وهو شهيد. الهوامش: 1- العقد: 5/ 274. 2- عثمان مصباح، نداء المجد "في ذكرى الاعتصام التاريخي لدكاترة التعليم المدرسي"، مع مقدمة تاريخية للدكتور محمد بنينير، المطبعة السريعة، القنيطرة، الطبعة الأولى 2012. 3- المصدر السابق،ص:8 4- نفسه،ص:20