بعد يوم حافل من المداولات في لجنة محاربة العنصرية بالمجلس الأوروبي انطلقت إلى ساحة الكاتدرائية بمدينة ستراسبورغ حيث أجواء الاحتفالات بنهاية السنة الميلادية ، ووسط زحام الساحة والموسيقى الدينية التقيت صدفة برفيقتي في اللجنة عن هولندا وهي بالمناسبة وزيرة العدل سابقا فدعوتها لتشاركني الجلوس بمقهى قريب من الساحة يطل على الوادي لاستكمال دردشة كنا بدأناها صباحا على هامش المداولات في المجلس الأوروبي. ما أن جلسنا في المقهى حتى بادرتني رفيقتي بالسؤال عن ما يجري في المغرب وفي العالم العربي وفي مصر وسوريا؟ وقبل أن تواصل لائحة استفساراتها استوقفتها بهدوء وطلبت منها ترتيب الأسئلة أولا وأن لاتنتظر مني الإجابة بقدر ما سأوافيها بالتقدير الشخصي لمواطن يعيش ما يجري في جنوب المتوسط بعيون جنوبية وربما بشعور شرقي لكن بتأثير قوي لأحاسيس ورؤية مكتسبة بالمعايشة في هذا الغرب الذي نقتسم فضاءه أنا ومحدثتي. شرحت لرفيقتي بعد التدقيق الذي راقها أن ما يجري في تونس ومصر وربما المغرب والأردن هو مد شعبي عارم انفلت بقوة التراكم ولم تعد أحذية العسكر والغازات المُسيلة للدموع والرصاص الحي والمطاطي قادرة على ردعه، لكنه مد شعبي مُتأثر بتراكمات التأخير في التعبير والانفجار، وبقدر ما يعد بالجديد وبالحرية وبالمساواة بقدر يهدد بالانزلاق والعودة للأصول أي العودة إلى الوراء ويهدد الحرية التي من أجلها تنفجر الثورات. أشرت لنمودج مصر اليوم والصراع الذي تعرفه بين أبناء الثورة، ونمودج تونس الذي كان واعدا وحدثتها عن تراجعات التغيير في المغرب وخطورة الوضع في المملكة الأردنية. شرحت لرفيقتي الهولندية أن مخاطر هده المرحلة الدقيقة من تاريخ جنوب الضفة الجنوبية للمتوسط والشرق الأوسط إلى حدود باكستان يُهدد كذلك الغرب وأوروبا لأنها كانت شريكة الأنظمة العربية في تأخير التغيير ومعاكسة الزمن بمبرر تلافي وصول التطرف الاسلامي إلى الحكم ، كما أوضحت لها ما استطعت أن الأحداث والتحولات قد تجرف بالعلمانية وبالليبرالية وبالتعددية ليس فقط في هذه الدول بل كذلك في مهد هذه المبادئ الذي هو الغرب وانتقال خطوط التماس إلى داخل القارة العجوز. ردت رفيقتي الهولندية بما يعني الموافقة لكنها أردفت أن الأصولية والتطرف في الغرب ليس بالضرورة إسلاميا ولا مسيحيا وأن أوروبا تواجه مدا شعبويا وعنصريا خطيرا يتوسع بفعل الأزمة المالية والاقتصادية وأن ما تشهده اليونان من أحداث عنصرية ومن دخول حزب النازييين الجدد إلى البرلمان ومؤسسات الدولة يُذكر بصعود هتلر في ألمانيا أثناء الرايخ الثالث وباستعمال النازية للديموقراطية لقتلها، وكيف أحرقت حشود المواطنين الألمان تتقدمهم ميليشيات الحزب النازي البرلمان الألماني بعد انتخاب هتلر رئيسا للدولة. في معرض سردها لهذا الحدث في ألمانيا ما قبل الحرب العالمية الثانية تذكرت حشود المواطنين المصريين تتقدمهم ميليشيات الاخوان المسلمين لطرد المتظاهرين من أمام القصر الجمهوري في القاهرة وتذكرت تصريحات حلفاءالاخوان من السلفية وحزب النور وهم يدعون لتعويض الديموقراطية بالشورى، والبرلمان بمجلس الفقهاء، والاكتفاء بالشريعة بدل القوانين الوضعية. تخيلت للحظة حشود الميليشيات الاخوانية تحرق البرلمان المصري وتُعلن قيام دولة الخلافة وحكم المرشد. الغريب أن رفيقتي الهولندية أنهت حديثها وعرضها الشيق لتاريخ أوروبا في الصراع من أجل الديموقراطية وللتضحيات التي قدمها الأوروبيون مقابل الاستقرار والحرية الفردية بالاشارة والتحذير من أن تعيد شعوب الجنوب تجربة ألمانيا وأن يحمل الربيع العربي أعداء الديموقراطية إلى السلطة وأن تنتهي التجربة بحرق البرلمان وبقتل الأبرياء وبحرب شاملة تعصف بالأخضر واليابس. في تقدير رفيقتي أن الربيع العربي لاعدو أن يكون الفصل الأول من حقبة حافلة لن تنتهي بتغيرات في الشرق الأوسط وفي شمال إفريقيا بل ستتعداه إلى أوروبا العجوز، وأن نجاح التجربة رهين ببروز حركات إسلامية ديموقراطية وعلمانية معتدلة وأن التطرف بكل أشكاله يهدد التوافق وبناء ديموقراطية تتسع للجميع، وأن العلمانية المتطرفة كذلك تقود للديكتاتورية ولأنظمة شمولية مثل النمودج النازي أو السوفييتي في أوروبا أثناء القرن العشرين.