تستدعي منا اللحظة التاريخية التي نعيشها اليوم ضرورة تحكيم مبدأ العقلنة واستخدام كل الإمكانات المعرفية الموضوعية من أجل التفكير بشكل جدي في الثقل الذي تفرضه علينا السياسة والاقتصاد والثقافة والجغرافيا...إضافة إلى المثل والقيم التي ينبغي ترسيخها في بنية المجتمع، وبالآفاق المستقبلية التي تنتظرنا. وهكذا علينا في كل تحليلاتنا تغليب الحق المعرفي والتحليل النقدي الدقيق لرهانات المعنى على حساب كل نزعة عصبية سواء أكانت قومية أو دينية أو عرقية إثنية... ونحن ندرك اليوم جيدا أن الإنسان العربي المسلم المؤدلج واستنادا إلى نظرية المآمرة يرى أن الآخر معاد له ويخطط له ليل نهار وبشكل منتظم للنيل من تاريخه ولغته وثقافته وكتابه المقدس، وبالمقابل يرى الإنسان الأمازيغي المشبع بالأيديولوجية العرقية أن الآخر يهدد ثقافته وكيانه، ويسعى إلى دفن الحرف الأمازيغي. ومن هنا فهو لا يرى الآخر إلا عدوا يتربص به الدوائر... ولكن العقل التحليلي النقدي يفهم القضية أكثر تعقيدا من هذا التفسير التبسيطي الساذج، وأن هناك تناقضات وحزمة من العقد التاريخية والاجتماعية التي لم نفكر في بنيتها حتى الآن بعيدا عن التعاطي الأيديولوجي، وهي تناقضات يعيشها العربي والأمازيغي بشكل يومي ومأساوي، وذلك تحت ظل بنية سلطوية مهيمنة تقف معاكسة لإرادة المواطن الذي أصبح يريد كسر العلاقة الصنمية والتقديسية التي تربطه بالأشخاص والمنظومات الأيديولوجية والقومية العرقية، والتي تحاصره بكثل من الأوهام التي تكبل حريته وتفشل إرادته في الحياة الكريمة والبسيطة. وحتى أنه أصبح لا يسمع ولا يقرأ في وسائل الإعلام المرئية والمكتوبة والمسموعة إلا خطابات مستهلكة إلى حد التخمة من قبل فئات مترفة، أو تتميز بوضعية اجتماعية راقية، أو تنحو الى تجميع الثروة واكتساب السلطة المادية والرمزية على حساب المواطن الفقير والبئيس، وهي فئات تدخل في علاقات تضامنية مع طبقات اجتماعية تحفظ لها توازن المصالح، ومع جهات خارجية تقدم الدعم بكل أنواعه وبشكل سخي خدمة ودفاعا عن أغراضها ومصالحها الاستراتيجية المتعددة. وهكذا يتم التضحية بالشعب الفقير من أجل الإبقاء على الوضع كما هو، وفي هذه الحالة نكون أمام معضلة لا تزيدنا إلا تخلفا وتمزقا وتبعية...، فتنتحر كل شعارات التحرر والكرامة وينتهي الفكر النضالي الحر. وعندما يغيب التفكير المعرفي والابستمولوجي في التعاطي مع الظواهر الإنسانية والاجتماعية يطفو إلى السطح التفكير الانتهازي الذي يستدعي المخزون الثقافي والمكبوت القومي العرقي ويجعل منه آلة كفاحية ونضالية. أو وسيلة من وسائل التحكم (نموذج العراقي والاقتتال الطائفي). ومن هنا فقضية الهوية اللغوية بالمغرب غير مطروحة في إطارها السليم الذي ينبغي أن يكون على مسافة بعيدة من الجو السياسي المشحون، والذي لا ينتج إلا الانفعالات وردود الأفعال، وعادة ما تطرح في ظل تأثير لكثير من المغالطات التاريخية واللغوية والثقافية والتي لم تعد مقبولة من قبل الفكر التاريخي والانتربولوجي النقدي واللساني اللغوي وحتى الفكر السياسي الواقعي البرغماتي. ونشير إلى أن هذه الحالة لا تنحصر في قضية حقيقة الهوية اللغوية بل تتجاوزها إل قضايا متعددة مثل : الديمقراطية والحداثة، والنموذجية الوطنية الاستثنائية، والإجماع الوطني...إلخ، والتي تعد مفاهيم مخادعة ومغلطة للأفهام، وتستمر في إنتاج الأوهام للمواطن المسكين. ولتعميق النقاش في هذه الموضوعات وسعيا لفتح فضاء جديد للتواصل الجدي والعقلاني والمؤطر بالمعرفة النقدية الحرة والروح الوطنية الصادقة بين كل الفاعلين الاجتماعيين والثقافيين والسياسيين الذين يشاركونا هم هذا الوطن. يلزمنا الحديث والمجادلة والتفكير في قضية الهوية اللغوية من منظور علمي نقدي وشامل ووفق معالجة جديدة ومختلفة، وهذه هي الطريقة الوحيدة الممكنة للتقليل من الانفعالات والأحقاد الدفينة، وتعرية البراغماتية الضيقة للخطابات التي تدعي الدفاع عن قضايا الإنسان المواطن عبر الرصيد الثقافي اللغوي والعرقي... فإذا كانت الخطابات اليوم يتم إنتاجها من وجهة نظر ضيقة، ووفق رؤية أحادية الجانب، فالمستقبل يفرض علينا التحلي بالثقافة الديمقراطية والعدل والإنصاف وقبول آراء الجميع دون إقصاء أي جهة، ويتحقق ذلك في نظرنا بأمرين اثنين: 1 استخدام الآلية النقدية الجريئة في التعاطي مع المفاهيم السائدة والأفكار القطعية والمواقف المقدسة المتداولة، والتي تم توارثها بطريقة مغلوطة حول الأحقية الثقافية واللغوية وعلاقتها بالحقيقة الوجودية في مجتمع اليوم. وهي أمور حاضرة بقوة وتحجبنا عن رؤية المشهد بوضوح وتقف سدا منيعا أمام أي تواصل حقيقي بين الأطراف المتنازعة. 2 التشبث بمبدأ الكرامة الإنسانية الذي يجعلنا نقارب الأمور من وجهة نظر الأولوية والمصلحة العامة، والمعرفة السياسية العميقة للأوضاع، والدقة في رصد القوانين السوسيولوجيا التي تتحكم في المجتمع لإنتاج خطاب منسجم منطقيا مع الواقع. وبناء على هذا التحديد نرى أن النقاش اللغوي والثقافي في سياق مغرب اليوم هو نقاش مخادع ومحض وهم، وإن شئنا قلنا هو نقاش مفتعل. ولا يرسخ إلا ثقافة العبث التي تخلط بين الأولويات وتعكس غياب الرؤية الاستراتيجية البعيدة. لأن النقاش الحقيقي اليوم هو نقاش ما نسميه "بالهوية الاجتماعية" التي تكفل للفرد حقه في الكرامة الإنسانية والوجودية وتهيئة الظروف الملائمة لكي يساهم بشكل فعال في بناء المجتمع. *طالب باحث