خبراء يكشفون دلالات زيارة الرئيس الصيني للمغرب ويؤكدون اقتراب بكين من الاعتراف بمغربية الصحراء    تخليد الذكرى ال 60 لتشييد المسجد الكبير بدكار السنغالية    بعد صدور مذكرتي اعتقال نتنياهو وغالان.. الرباط مطالبة بإعادة النظر في علاقاتها مع إسرائيل    قلق متزايد بشأن مصير بوعلام صنصال    ضربة عنيفة في ضاحية بيروت الجنوبية    رئيس الاتحاد الإفريقي لكرة القدم: "فخور للغاية" بدور المغرب في تطور كرة القدم بإفريقيا    "السردية التاريخية الوطنية" توضع على طاولة تشريح أكاديميّين مغاربة    بعد سنوات من الحزن .. فرقة "لينكن بارك" تعود إلى الساحة بألبوم جديد    عندما تتطاول الظلال على الأهرام: عبث تنظيم الصحافة الرياضية        طقس السبت.. بارد في المرتفعات وهبات ريال قوية بالجنوب وسوس    كيوسك السبت | تقرير يكشف تعرض 4535 امرأة للعنف خلال سنة واحدة فقط    الموت يفجع الفنانة المصرية مي عزالدين    وسيط المملكة يستضيف لأول مرة اجتماعات مجلس إدارة المعهد الدولي للأمبودسمان    كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة    غارات إسرائيلية تخلف 19 قتيلا في غزة    بنسعيد: المسرح قلب الثقافة النابض وأداة دبلوماسية لتصدير الثقافة المغربية    موكوينا: سيطرنا على "مباراة الديربي"    موتسيبي يتوقع نجاح "كان السيدات"    الصويرة تستضيف اليوم الوطني السادس لفائدة النزيلات    مهرجان "أجيال" بالدوحة يقرب الجمهور من أجواء أفلام "صنع في المغرب"    ضمنهم موظفين.. اعتقال 22 شخصاً متورطين في شبكة تزوير وثائق تعشير سيارات مسروقة    افتتاح أول مصنع لمجموعة MP Industry في طنجة المتوسط    صادرات الصناعة التقليدية تتجاوز 922 مليون درهم وأمريكا تزيح أوروبا من الصدارة        الرئيس الصيني يضع المغرب على قائمة الشركاء الاستراتيجيين    الإكوادور تغلق "ممثلية البوليساريو".. وتطالب الانفصاليين بمغادرة البلاد    خبراء: التعاون الأمني المغربي الإسباني يصد التهديد الإرهابي بضفتي المتوسط    المغرب التطواني يُخصص منحة مالية للاعبيه للفوز على اتحاد طنجة    حكيمي لن يغادر حديقة الأمراء    المحكمة توزع 12 سنة سجنا على المتهمين في قضية التحرش بفتاة في طنجة    من العاصمة .. إخفاقات الحكومة وخطاياها        مجلس المنافسة يفرض غرامة ثقيلة على شركة الأدوية الأميركية العملاقة "فياتريس"    مندوبية التخطيط :انخفاض الاسعار بالحسيمة خلال شهر اكتوبر الماضي    لتعزيز الخدمات الصحية للقرب لفائدة ساكنة المناطق المعرضة لآثار موجات البرد: انطلاق عملية 'رعاية 2024-2025'    هذا ما قررته المحكمة في قضية رئيس جهة الشرق بعيوي    "أطاك": اعتقال مناهضي التطبيع يجسد خنقا لحرية التعبير وتضييقا للأصوات المعارضة    مجلس الحكومة يصادق على تعيين إطار ينحدر من الجديدة مديرا للمكتب الوطني المغربي للسياحة    المحكمة الجنائية الدولية تنتصر للفلسطينيين وتصدر أوامر اعتقال ضد نتنياهو ووزير حربه السابق    طبيب ينبه المغاربة لمخاطر الأنفلونزا الموسمية ويؤكد على أهمية التلقيح    توقعات أحوال الطقس غدا السبت    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    الخطوط الملكية المغربية وشركة الطيران "GOL Linhas Aéreas" تبرمان اتفاقية لتقاسم الرموز    خليل حاوي : انتحار بِطَعْمِ الشعر    الغربة والتغريب..    مشروع قانون جديد لحماية التراث في المغرب: تعزيز التشريعات وصون الهوية الثقافية    "سيمو بلدي" يطرح عمله الجديد "جايا ندمانة" -فيديو-    بتعليمات ملكية.. ولي العهد يستقبل رئيس الصين بالدار البيضاء    بنما تقرر تعليق علاقاتها الدبلوماسية مع "الجمهورية الصحراوية" الوهمية    القانون المالي لا يحل جميع المشاكل المطروحة بالمغرب    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الهوية واللغة في المغرب
نشر في هسبريس يوم 01 - 11 - 2012


توطئة:
هذه الورقة كنت قد أرسلتها إلى لجنة الثقافة والفكر والإعلام التابعة للجنة التحضيرية للمؤتمر السادس عشر لحزب الاستقلال حيث اعتمدت جلها وبشكل مجز َّء في التقرير النهائي الذي تمت المصادقة عليه في المؤتمر مع بعض التغييرات الطفيفة خاصة في ما يتعلق باستعمال حرف تيفيناغ في مناهج التعليم. ولتعميم الفائدة بين القراء ولكي لا تبقى الأفكار المشار إليها في هذه الورقة حبيسة المحافظ الموزعة على المؤتمرين والرفوف المغلقة، ارتأيت نشرها خصوصا وأنني أعتبرها بدون مبالغة ذات أهمية بالغة.
مسألة الهوية تعتبر من المسائل الأساسية التي أخذت حيزا مهما من اهتمامات الأحزاب السياسية في المشرق والمغرب حيث شكلت إلى جانب المقاربات العلمية والمادية لتطور الإنسان إحدى أهم المداخل التي اعتمدت عليها الأحزاب في توجهاتها الإيديولوجيات وإن كان التنافس الإيديولوجي قد عرف ما يشبه الانقراض مؤخرا تاركا المجال للفكر الليبرالي المبني على التبادل الاقتصادي الحر.
في المغرب مثلا كانت الهوية دائما محط اهتمام الأحزاب السياسية المغربية وكذلك الأمر بالنسبة للمؤسسة الحاكمة أو المخزن الذي كان يستمدّ أسلوبه في الحكم من أصول الهوية المغربية باعتبارها كيانا متعدد الأبعاد ومتوحد الاتجاهات، فالهوية المغربية وإن كان من أهم مميزاتها تعدد الروافد التاريخية والتأثيرات الإثنية تشكل، كما شكلت دائما عبر تاريخنا الحضاري الطويل، جسما واحدا ومتحّدا هو الذات المغربية. وفي حديثنا عن الهوية المغربية، لابد من العودة إلى مصطلح الإنسية المغربية الذي أسهب في شرحه وتفصيله المرحوم علال الفاسي في كتاباته. والإنسية كما تناولها العديد من المفكرين والفلاسفة هي مجموع التيارات الثقافية والفكرية التي تهدف إلى تقوية المقومات الأخلاقية عند الإنسان. وبالتالي فإن الإنسية المغربية تجتمع فيها جميع التيارات الثقافية والفكرية التي تحقق الاكتمال الذاتي للإنسان المغربي والتي من شأنها صونه من التبعية والتقليد أو الانصهار في البعد الكوني أو الإقليمي. فالإنسية المغربية تضم التراث الأمازيغي والتراث الإسلامي العربي ومجموع الثقافات التي صقلت الإنسان المغربي عبر التاريخ.
وإذا نحن نظرنا في النموذج النفسي المغربي أو في نموذجه الاجتماعي من تقاليد ولغة وعمران وروايات وأساطير، سنجده متأثرا بجميع الحضارات التي وردت على بلاد المغرب ولكن بدرجات متفاوتة على حسب مدى قابلية المغاربة لتلك الحضارات ومدى حجم و مدة شيوع تلك الحضارات في وسط المغرب. فقد استطاعت الحضارة الفينيقية (القرطاجية) مثلا أن تنغمس في ذهنية المغاربة مدة طويلة قبل الإسلام وساهمت في صنع الإنسان المغربي كما هو لغة وعادات، لكن الحضارة المسيحية الرومانية لم تستطع أن تلق قبولا مماثلا عند المغاربة رغم تقدم حضارتهم في تلك العهود السابقة. وفي حقبة أخرى، استطاعت الحضارة الإسلامية الواردة على المغرب عن طريق العرب العاربة والمستعربة أن تنغرس في قلوب المغاربة وتعمر معهم طويلا حتى صارت جزءا أساسيا من الهوية المغربية لغة وعادات بل وشريعة، فيما لم تستطع الحضارة الأوروبية الحديثة أن تأخذ إليها قلوب المغاربة وإن ساهمت بشكل كبير في تغيير نمط عيشهم فكانت لها حداثة الشكل دون حداثة المضمون.
إذن، فالإنسان المغربي رغم تأثره التاريخي بهذه الحضارة أو تلك ورغم تحول لسانه من هذه اللغة إلى تلك فهو إنسان محب للحرية ومائل إلى الاستقلال بذاته، لذلك اختار المغاربة أن تكون لهم دولتهم الإسلامية المستقلة في عزّ نفوذ الإمبراطورية العثمانية وقبل ذلك رفضوا الخلافة العباسية في أوج امتدادها الجغرافي وجبروتها العسكري ورفضوا الخلافة الأموية في أبهى أيامها وقاوموا جميع الغزاة قبل الإسلام وبعده لأنهم لا يعترفون بغير العنصر المغربي العميق في اتصاله بالمحيط الأطلسي والمنفتح على حضارات البحر الأبيض المتوسط دون الخضوع إليها. ذلك هو تاريخنا ومصدر هويتنا الذي يوجب علينا التفكير بعناية وإسهاب في تفاصيله حتى يمكن أن يكون لدينا تصور شامل لتطور الإنسية المغربية ولحاضرها. لكن الحاضر أو الوقت الراهن يزخر بمحددات أخرى جديدة تنضاف بطبيعة الحال إلى المؤثرات التاريخية الموروثة من الماضي.
فالحدود الجغرافية اليوم أصبحت تتجه نحو الاضمحلال في خضم سيادة ظاهرة العولمة الاقتصادية والثقافية والإعلامية وغير ذلك من أنواع العولمة. ولعل اتجاه العالم نحو العولمة الشمولية أو الانفتاح المفرط على الآخر قابلته مقاومة ذاتية من الإنسان لذلك العالم الذي يقتحمه بغير خاطره، فتجد الناس يذهبون اليوم نحو الانطواء على ذواتهم والانعزال عن محيطهم الميداني ولم لا تعويض ذلك المحيط بمحيط آخر افتراضي (أو معلوماتي) قريب منهم وقادر على إتاحة الوصول إلى المعلومة دون عناء أو مواجهة. هذه الحالة الجديدة التي يعيشها الإنسان في عالم اليوم هي ما يمكن أن نطلق عليها مصطلح "الفردانية". وهي نتيجة حتمية وتمظهر طبيعي لما يعرفه العالم من ثورة تكنولوجية واضحة المعالم في مواكبتها وملازمتها لظاهرة العولمة. إن الإنسية العالمية قد وصلت في تطورها التاريخي في ظل ظاهرة العولمة وفي خضم الثورة التكنولوجية إلى وضع جديد فيه تجليات عدة. والفردانية هي إحدى أهم تلك التجليات.
ومن بين التجليات الأخرى التي يمكن ملاحظتها في خضم الوضع الجديد للإنسية العالمية، يمكن أن نقف كذلك على تراجع تأثير القيم والمبادئ في العالم بأسره. أي أن العالم أصبح يعيش أزمة قيم أو أزمة أخلاق الشيء الذي ساهم بشكل ملحوظ في تراجع الإحساس بالانتماء إلى الدولة أو الوطن وفي تراجع في ثقة الناس في السياسة وفي الأحزاب السياسية، رغم أن الأحزاب السياسية كانت تعتبر مشتلا للرموز القيادية ومنبعا للتفكير الاستراتيجي الموجِّه للدولة والمجتمع. وسنلاحظ إذا أمعنا النظر في هذه التجليات أنها تصب جميعا في اتجاه مزاحمة الخصوصيات التي تتميز بها الأوطان من نبع التاريخ والتراث الثقافي الإنساني.
والمغرب كغيره من بلدان العالم ينغمس اليوم باضطراد وقوة في هذا الوضع الجديد، لذلك فمن الضروري للمهتمين بالشؤون الاستراتيجية والمختصين في الأبحاث والدراسات العامة في المغرب أن يقفوا وقفة تأمل وإمعان في خصوصيات الإنسية العالمية بغية تحصين البلاد من الذوبان في تلك الموجة العالمية السائدة والمسيطرة على غيرها من الثقافات. ولابد لتحقيق تلك الغاية من أن توضع أمور التفكير والفكر العام في يد نخبة من المفكرين والعلماء القادرين على توجيه البلاد وجهة صحيحة وشمولية تهدف خدمة الوطن أولا وأخيرا.
إن الواجب يقتضي بلا شك عدم ترك الفكر العام بيد العامة وعدم تغذيته بالمصادفات والغرائز العابرة بل يجب علينا أن نترك الأمور والقضايا المرتبطة بالفكر العام لأهلها المختصين في دراستها دراسة موضوعية خارج الحسابات السياسية والاقتصادية وخارج دائرة اللمعان الدعائي الذي يرمي فقط إلى استقطاب وسائل الإعلام. فعلم الاجتماع له مختصوه وخبراؤه الذين راكموا من الدراسات والأبحاث ما يجعلهم جديرين بتصنيفهم ضمن لائحة النخبة الموجّهة للفكر العام. وكذلك الشأن بالنسبة لعلوم التاريخ والأنتروبولوجيا والعلوم السياسية وتاريخ الأدب وغيرها من العلوم. ومن تمّ لابد من استخدام تلك الدراسات المختلفة الروافد الفكرية فيما يخدم مصالح الدولة المغربية في استمراريتها وما يضمن في نفس الوقت للمجتمع وجوده ووعيه الذي يستنبطه من حركية فكرية متجددة على الدوام.
لكن، كيف يمكننا تحقيق التوازن بين لازمتين ضروريتين لتقدم المجتمع واستقرار الدولة هما: توجيه الفكر العام وحرية التفكير؟
إن الدولة المغربية الحالية تأسست في سياق صيرورة تاريخية طويلة عرفت كما قلنا سابقا مخاضا من التعايش مع مختلف الحضارات الوافدة على المغرب إلى أن وصلت إلى صفة الدولة الإسلامية التي عمرت فيه بمختلف مراحلها التاريخية ما يقارب 12 قرنا تقريبا. والدولة العلوية المعاصرة وإن كانت تتجدد باستمرار في أنظمة حكمها وفي طريقة تسييرها للشأن العام ما هي إلا امتداد لمراحل الدولة الإسلامية المغربية منذ تأسيس الدولة الإدريسية باعتبارها جزءا لا يتجزأ من العالم العربي الإسلامي.
لذلك، فعندما نتكلم عن الحداثة في المجال السياسي بما يرتبط مثلا بضرورة تجديد نمط تدبير الشأن العام كترسيخ الديمقراطية الفعلية والفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية والفصل بين تلك السلطات مجتمعة والسلطة الروحية أو الدينية في المغرب، فإن ذلك يجب أن يتحقق في إطار الدولة الإسلامية المغربية. بمعنى أن إسلامية الدولة هي العنوان الإطار الذي يجب أن نستعين بحدوده في ضمان استمرارية الدولة المغربية الحبلى بتاريخها وتراثها الثقافي والإنساني. فنحن عندما نتكلم عن الفصل بين السلطات المادية والسلطة الدينية (الإسلامية في حالة الدولة المغربية) لا نقصد الاتجاه نحو نظام علماني لا يعترف أصلا بالدين بصفته سلطة، وإنما نقصد نظاما حداثيا منسجما مع تطور الفكر السياسي ولكن في إطار التطور التاريخي للدولة المغربية باعتبارها جزءا من العالم العربي الإسلامي.
أي أن مبادئ الدولة المغربية لابد أن تكون مستوحاة ومستنبطة من مبادئ الإسلام كما استوردناها عبر الوافدين علينا من العرب في عصور ماضية. وتلك المبادئ هي التي تخلق الوجدان الذي يساعد على توحيد وتضامن كل أطياف الشعب المغربي تحت رئاسة رمزها الديني ملك البلاد وأمير المؤمنين.
من جهة أخرى، فإن المجتمع المغربي كذلك تطوّر في إطار صيرورة تاريخية حبلى بالتحولات النابعة من تلاقحه مع مختلف الحضارات التي وفدت على المغرب واستوطنت في أرضه. وقد كان ذلك التعايش سهلا مع بعض الحضارات عكس ما كان عليه الأمر مع حضارات أخرى كما قلنا في فترة سابقة. فكان انفتاح المجتمع المغربي على الحضارة الإسلامية العربية مثالا على التعايش والاندماج. وذلك راجع لسببين رئيسيين هما: عامل القرب الجغرافي والإثني بين سكان المغرب الأقدمين والسكان العرب العاربة والمستعربة باعتبارهم ينتمون إلى نفس العائلة السامية القاطنة في وسط وجنوب البحر الأبيض المتوسط، وعامل الدين الذي لعب دورا أساسيا ومحوريا في ولوج الحضارة العربية الإسلامية إلى قلوب سكان المغرب.
وقد كان من نتائج ذلك تحول لسان السكان المغاربة من التكلم بلغاتهم (أو لهجاتهم) الأمازيغية القديمة إلى سيادة اللغة العربية، لغة القرآن الذي سكن في قلوب المغاربة بسلاسة وانسجام. ومع ذلك، فقد بقيت اللغات القديمة أو اللهجات الأمازيغية راسخة في بعض مناطق المغرب مع وجود اختلافات كثيرة فيما بينها. فخلق ذلك نوعا من التنوع الثقافي واللغوي في بلاد المغرب. ولكن، كيف يمكن التوفيق والحفاظ على وحدة الانتماء إلى أمة الواحدة بين أفراد مجتمع واحد يتكلم بلغات ولهجات مختلفة؟
إن التنوع الثقافي والتعدد اللغوي من الممكن أن يكون مصدر قوة بالنسبة للوطن حيث أنه قد يخلق نوعا من الرواج والغزارة على مستوى الإنتاج الثقافي، لكنه يمكن أن يكون كذلك مصدر ضعف وقلاقل بين الفئات التي تنظر إلى نفسها على أنها مختلفة عن بعضها البعض و إن جمعتها نفس الأرض الوطنية وربطتها نفس العلاقات الإدارية. فمن المعروف أن اختلاف اللهجات في أمة واحدة قد يؤدي إلى اختلاف في الذهنية ممّا قد يتسبب في تشتت أشكال الانتماء إلى الوطن الشيء الذي يشكل خطرا مستديما على الأمة إذا لم يتم التعامل مع ذلك الاختلاف بطريقة إيجابية حذرة.
في المغرب مثلا، هناك استعمال سائد للغة العربية الفصحى في التعليم والإدارة والإعلام. وهناك استعمال سيادي للعربية الدارجة في الشارع والبيت في رقعة جغرافية واسعة هي بدورها تختلف نسبيا من منطقة إلى أخرى. وهناك استعمالات محددة جغرافيا للغة الأمازيغية بمختلف لهجاتها في بعض المناطق في الشمال والجنوب والأطلس. هذا التنوع الكبير في اللغات المنطوقة يخلق أحيانا نوعا من الانفصام خاصة عندما تكون هناك فئات لا تتكلم إلا لغة واحدة. ونحن نعلم أن أغلب الناطقين باللغة العربية في المنطقة المستعربة لا يفهمون اللهجات الأمازيغية. ونعرف أن بعض الساكنين في المناطق الناطقة بالأمازيغية لا يفهمون اللغة العربية لذلك فإن مشكل الانفصام اللغوي أو عدم القدرة على التواصل ليس بالشيء الغائب عندنا في المغرب. فكيف يمكننا التعامل مع مثل هذه الحالات السلبية التي لا تتيح لمواطنين يعيشون في وطن واد التواصل فيما بينهم والتحاور مع بعضهم البعض؟
إن المطلوب في معالجة موضوع الاختلاف اللغوي في المغرب هو اعتماد مقاربة شمولية تهدف بالأساس إلى حماية اللغات المغربية جميعا وتنميتها دون الدخول في متاهة المطاحنات اللغوية أو الحروب التي يبغي أطرافها محو هذه اللغة أو تلك. ولتحقيق ذلك لابد من الآتي:
- تفادي اعتبار الاهتمام باللغة قضية سياسية واعتبارها بدلا من ذلك مسألة علمية أو ثقافية_سواء تعلق الأمر باللغة العربية أو الأمازيغية_ حتى يتم معالجتها بشكل موضوعي وبنّاء يستفيد منه الفرد والمجتمع على حد سواء.
- لابد من تفادي التعامل بأي شكل من أشكال التمييز مع هذه الجهة الجغرافية أو تلك من ناحية السياسة و الاقتصاد خصوصا، حتى لا تكون هناك ترسّبات سلبية على مستوى الذهنية العامة لجهة من الجهات دون غيرها. بل إننا محتاجون اليوم إلى القيام بمصالحة مع التاريخ واعتراف بالأخطاء التي ارتكبت مسبقا في حق بعض المناظق التي عانمت من التهميش والإقصاء مقارنة مع مناطق أخرى.
- تجنّب الدخول في مواجهة أو مقابلة بين اللغة العربية واللغة الأمازيغية وكأن الأمر يتعلق بصراع من أجل الوجود. فهو صراع وهمي تحاول بعض الأطراف اللعب على أوتاره مستغلة في ذلك بعض الأحقاد التاريخية النابعة من مشاكل سياسية لا علاقة لها باللغة في شيء.
- التعريف بتاريخ المغرب وتدريسه للناس دراسة صحيحة ومفصلة حتى يفهم العامة والخاصة أن الأجناس في المغرب قد تلاقحت وانصهرت بعد تاريخ طويل من التعايش. فنحن في المغرب جميعنا أمازيغ وجميعنا عرب والتاريخ الأمازيغي والعربي والإسلامي هو تاريخنا جميعا.
تلك هي أهم المداخل التي يجب الاعتماد عليها في تناول موضوع التنوع اللغوي في المغرب علما أن الاهتمام بهذا الموضوع هو من شأن المختصين في مجالات اللغة واللسانيات وعلوم التربية والبيداغوجيا وغيرها من العلوم المرتبطة باللغات عموما. وفي هذا السياق، لابد من اتخاذ مواقف واضحة بخصوص مستقبل تدريس اللغات المغربية وطريقة تدريسها، ونخصّ بالذكر اللغة العربية واللغات الريفية والزيانية (الأطلسية) والسوسية والحسانية. فدراسة اللغات الأمازيغية أصبحت اليوم واجبا لا يمكن التحفظ عليه ما دام سيساهم بشكل إيجابي في تحقيق التواصل المثمر والإخاء بين أبناء الشعب الواحد.
لكن في نفس الوقت لابد من الإشارة إلى أن استعمال حرف "تيفيناغ" في المناهج التعليمية (في المستويات الابتدائية على وجه الخصوص) سيكون له وقع سلبي، وذلك راجع لأسباب علمية محضة. فقد أثبتت الدراسات البيداغوجية أنه لا يجدر استعمال أكثر من نوعين من الحروف في تعليم الصغار حتى لا يقع لهم ضعف في التركيز وتشتت في استيعاب اللغات التي يتم تدريسها. ومادام استعمال الحرفين العربي واللاتيني ضرورة لا مفر منها في التعليم المغربي، فإن إضافة حرف آخر عليهما لن يخدم مصلحة المغرب والمغاربة في شيء اللهم إدخال البلد في متاهة أخرى من متاهات التغيير الذي لم يجد له مستقرّا في مناهج تعليمنا.
كل هذا لا يمنع بطبيعة الحال من العمل على تحقيق مزيد من الانفتاح على اللغات الحية الأخرى من إنجليزية وألمانية وإسبانية وغيرها بما يخدم انفتاحنا على الثقافات الأخرى وما يخدم تقدم العلوم عندنا شريطة أن لا يكون ذلك على حساب الاهتمام بلغاتنا الوطنية المفروض حمايتها وإقحامها بشكل علمي سليم وشمولي.
وختاما، ندعو الله أن يعيننا على تحقيق التوافق بين قيمنا العليا بصفتنا مغاربة لنا تاريخ مشترك وهوية خاصة وبين ممارساتنا اليومية للحياة الجماعية والفردية في سبيل النهوض بهذا الوطن نهوضا مستقيما.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.