، وكذا تحذيراته المتكررة من الاختراق الشيعي للمناطق ذات الأغلبية السنية... شكّل ذلك تحوّلا جذريا في فكر وتفكير القرضاوي الذي كان دائما يقدم نفسه باعتباره رمزا للأمة بمختلف تلاوينها المذهبية والفكرية؛ ممّا جعلنا نتساءل: كيف نفهم "الطبعة" الجديدة للشيخ القرضاوي؟! والفرضية التي سنختبرها في هذه المساهمة هي: إن مواقف القرضاوي التصعيدية ضد إيران والشيعة وحزب الله هي تعبيرٌ عن خيبة أمل قطاع عريض من الحركات والقواعد الإسلامية السنية في تحقيق أهدافها المتمثلة في إقامة "الحياة الإسلامية" و"الدولة الإسلامية" وتأسيس نموذج يضاهي النموذج السياسي الشيعي (إيران) والنموذج السياسي-العسكري الشيعي (حزب الله)، وأنها وجدت فيما يسمى "الربيع العربي" فرصة تاريخية لتجاوز هذه الخيبة وفرض نماذجها. اعترافات لا بد منها.. بداية، أعترف أن للشيخ القرضاوي فضلا فكريا كبيرا عَلَيَّ وعلى أجيال كثيرة. فهو بالنسبة لي رمزٌ للعالم الذي يجمع بين العلم الشرعي وفهم الواقع. يمتلك ملكة فقهية نادرا ما تتوفر في عالم من العلماء. اشتغل بفقه الواقِع مع التأصيل مِن العلم الشرعي، والنهل مِن معينه. أصّل لمفهوم "الوسطية"، ونبّهنا إلى آفتين خطيرتين: آفة التمسك بالجزئيات دون ربطها بمقاصد وكليات الدين، وآفة إهمال الجزئيات بدعوى التمسك بروح النصوص وكليات الدين؛ فعلّمنا كيف يكون الربط بين النصوص الجزئية والمقاصد الكلية، وكيف تُفهم الجزئيات في ضوء الكليات. علّمنا كيف نرتب أولوياتنا. علّمنا كيف نوازن بين المصالح والمصالح وبين المفاسد والمفاسد وبين المصالح والمفاسد... علّمنا كيف يعيش المسلم إسلامه دون أن ينسحب من العصر الذي يعيش فيه... أنتج للجاليات المسلمة في السياقات الثقافية والدينية الغير إسلامية فقها خاصا بها سمّاه "فقهَ الاغتراب" وسماه غيره "فقهَ الأقليات"... تعلمنا منه أن فلسطين بدون قدس كالجسد بلا رأس.. وأنها أولوية. تعلّمنا منه الفكر.. والأدب أيضا... كنا ونحن في عز الشباب نقارن بين كلماته وكلمات رموز "السلفية" في العالم العربي، وكان أول ما يشدنا أثناء المقارنة أدبُ الحجاج لدى القرضاوي؛ فلم يكن يجرح ولا يسخر ولا يسب ولا يلعن... وهو ما كنا نفتقده لدى عموم الرموز السلفية التي استلهمت -ربما- نقدها "الجارح" و"اللاذع" من كتب "الجرح والتعديل" عند علماء الحديث فطبقته على من خالفها الرأي من علماء المسلمين. بل لم يقتصر أدبه على "الدائرة السنية" إنما طال أيضا "الدائرة الشيعية"؛ فكان رمزا لكل المسلمين بشيعتهم وسنيهم. وكان مِلكا (بكسر الميم) لهم جميعا...؛ لم يكن مَلِكا (بفتح الميم وكسر اللام) لأن قوة الإسلام تكمن في وجود جيل يتجاوز السقف الفكري الموجود. ولا مَلَكا (بفتح الميم واللام) لأن ما يطرحه هي أفكار قابلة للنقاش... كان مِلكا لكل المسلمين.. وكان يقول للناس حسنا. وهذا جوهر الإسلام. كان من حسن حظ أمثالي من المنحدرين من شرق وشمال شرق المغرب أننا كنا نلتقط القناة الجزائرية دون الحاجة إلى أجهزة خاصة، وذلك قبل ظهور الفضائيات، وهو ما لم يتيسر لجهات أخرى من المملكة. كانت هذه القناة -بحق- رائدة في العالم العربي. كنا نجد فيها الرأي والرأي الآخر. والأهم أنها قرّبتنا أكثر من شخصيات إسلامية معتبرة، كالشيخ محمد الغزالي رحمه الله والشيخين يوسف القرضاوي ومحمد سعيد رمضان البوطي، من خلال محاضراتهم ودروسهم. وكذا من خلال ملتقيات الفكر الإسلامي في الجزائر التي انعقدت في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، والتي كانت كما يقول القرضاوي "تجمع صفوة من خيار علماء الأمة في العادة من أقطار عربية وإسلامية مختلفة، وكانت تطرح فيها موضوعات حية...". كانت هذه الملتقيات تحتل الصدارة الفكرية والعلمية على مستوى العالم الإسلامي والدولي. خاصة في ظل الجاذبية التي كان يتمتع بها علماء المشرق مقارنة بعلماء المغرب؛ فكانت مركزية المشرق حاضرة بقوة لدى أجيال كثيرة من أبناء "الصحوة الإسلامية" بالمغرب. كنا نتابع هذه الملتقيات عن كثب؛ فأتيح لنا ما لم يُتح لغيرنا. من ناحية أخرى، شهدت أواخر الثمانينات وبداية التسعينات من القرن الماضي "صحوة إسلامية" وعودة إلى التمسك بالإسلام خاصة فيما له علاقة بالمظهر (الحجاب، اللحية، السواك...). وكانت هذه الصحوة، التي تزامنت مع "الجهاد في أفغانستان"، بحاجة إلى ترشيد وتسديد خاصة فيما يتصل بفهم النصوص الشرعية، في ظل بروز اتجاه سلفي حاول أن يفرض قراءة "حرفية" للنصوص مبتورة عن مقاصدها الكبرى والكلية... ولم نجد، ونحن شبابا...، من يحررنا من هذه القراءة أحسن من الشيخ القرضاوي. وكان كتابه الذي صدر ضمن سلسلة "كتاب الأمة" "الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف" -إضافة إلى كتب أخرى- دليلا ونبراسا أضاء لنا طريق الفهم والفقه. فراغ النموذج السياسي وعُقدته.. كان الخطاب المتعلق بضرورة "إقامة الدولة الإسلامية" يشغل حينئذ حيزا كبيرا في بنية الخطاب الإسلامي، بل إن إقامة الدولة الإسلامية شكّلت أولوية وجزء أساسًا من فهم الحركات الإسلامية للإسلام. ولم يكن أمام الحركات الإسلامية السنية، في تلك الفترة، على المستوى السياسي نموذجٌ سوى نموذج "الجمهورية الإسلامية الإيرانية". وفيما بعد، على المستوى "السياسي-العسكري" سوى نموذج "حزب الله". لكنّ الحاجز المذهبي حال دون التفاعل بشكل كبير مع هذين النموذجين. ولتجاوز الفراغ الحاصل على مستوى النموذج، راهنت الحركات الإسلامية السنية على مجموعة من النماذج التي كان بمقدورها أن تشكل نموذجا يضاهي النموذج الإسلامي ذي المرجعية الشيعية (إيران-حزب الله). من بين هذه النماذج: النموذج الأفغاني: قهر المجاهدون الأفغان الاتحاد السوفيتي وخلّفوا بطولات وكرامات، وأرغموا السوفيات على انسحاب كافّة قواتهم بشكل رسمي من أفغانستان في15 فبراير 1989. لكن بعد الانسحاب حدث الاقتتال بين المجاهدين بولاءاتهم المتعددة ثم برز نموذج طالبان ثم تدخل الأمريكان... والآن لم يعد أحد يتذكر بطولات المجاهدين الأفغان، فالذين أتقنوا صناعة الموت لم يتقنوا صناعة الحياة. النموذج السوداني: قاد عمر البشير وحسن الترابي انقلابا عسكريا في 30 يونيو 1989، ولم يستطع هذا النموذج أن يكون مغريا سواء على المستوى الداخلي (تحقيق التنمية، الديمقراطية...) أو على المستوى الخارجي (العزلة، مشاكل الحدود...)... بل في ظل هذا النموذج فقد السودان جزء مهما من أراضيه. النموذج الجزائري: كان الإسلاميون (الجبهة الإسلامية للإنقاذ) قاب قوسين أو أدنى من الحكم بعد النتائج الكبيرة التي حققتها الجبهة في الانتخابات التشريعية التي جرت في 26 دجنبر 1991 وفازت بها بأغلبية ساحقة وصلت إلى 82 % ب 188 مقعد من أصل231 . وهو ما جعلها تصل إلى أحد مراكز صنع القرار. ويومئذ فرح الإسلاميون بنصر إسلاميي الجزائر. لكن في 11 يناير 1992 أعلن الرئيس الجزائري الراحل الشاذلي بن جديد، بضغط من الجنرالات، استقالته فجأة من رئاسة الدولة، وانتقلت السلطة إلى المجلس الأعلى للدولة الذي كان في يد العسكر برئاسة وزير الدفاع خالد نزار الذي اتخذ يوم 12 يناير 1992 قرار إلغاء الانتخابات ثم إعلان حالة الطوارئ. بعد ذلك دخلت الجزائر في دوامة العنف وحمام الدماء. فشلت هذه النماذج السياسية السنية كاملة في إدراك هدفها في أن تكون "نموذجا سياسيا" يُحتذى به ويملأ الفراغ ويتجاوز عقدة "الدولة الإيرانية الشيعية". أما النموذج السني العسكري-السياسي فمثلته بامتياز حركة المقاومة الإسلامية حماس؛ فقد شكلت نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات (مع تأسيس كتائب الشهيد عز الدين القسام الجهاز العسكري في حركة حماس) ذروة العمليات الاستشهادية التي أدخلت "إسرائيل" في حرب استنزاف كان بإمكانها أن تغير موازين القوى في المنطقة برمتها بعد أن أصبحت حماس الرقم الصعب في المعادلة الفلسطينية والإقليمية؛ فكانت عملية الإبعاد الكبرى إلى مرج الزهور (1992) ثم اتفاق أوسلو (1993) الذي كان بداية لملاحقة المقاومة وهو ما أثر سلبا على أدائها... أما في الوقت الحالي فإن الهدنة هي السمة الغالبة على العلاقة بين حماس والمحتل! محاولات لتجاوز الفراغ والعُقدة.. إن الذي يهمنا في الاستعراض السابق هو النتيجة؛ أي الحكم على المآلات بناء على الأهداف المسطرة، وليس هدفنا تحليل أسباب الفشل. فهذا له مظانه الخاصة. أمّا هذه التجارب فتبقى اجتهادات للمصيب فيها أجران وللمخطئ أجر واحد. في ظل "أجواء الفشل" حدثت جملة من المبادرات التي حاولت أن تتجاوز حالة "اليأس" لدى الكثير من القواعد الإسلامية (السنية). فبرزت إلى الوجود قناة "الجزيرة" القطرية (1996) التي احتضنت الشيخ القرضاوي من خلال برنامج "الشريعة والحياة"، الذي مكّنه من الانفتاح على جمهور واسع من المسلمين في الشرق كما في الغرب. خاصة أنه جاء بعد خيبات الأمل التي أصابت القواعد الإسلامية جراء فشل تلك التجارب في ظل خطاب رفع شعار "الإسلام هو الحل"، وكان يوهم بأن المشاكل ستُحل والتنمية ستتحقق وفلسطين ستعود... بمجرد أن يصل الإسلاميون إلى الحكم. ولم يقل هذا الخطاب للناس إن المسألة أعقد مما يتصورون. كما تناسلت في الفترة ذاتها مواقع إلكترونية نذكر منها موقع إسلام ويب (1998). دون أن ننسى موقع "إسلام أون لاين" (1999) الذي أنشأه القرضاوي، والذي كان بمثابة إمبراطورية إعلامية حقيقية وجد فيها الكثير من المسلمين ضالتهم خاصة فيما يتعلق بالجانب الفقهي والفتاوى. في نفس الفترة انطلق موقع "الإسلام اليوم" (1999)، وكان بداية تأسيسه موقعًا شخصيًا للشيخ سلمان العودة، وبعد انطلاقته بستة أشهر تم التوسع في أعمال الموقع. أحست بعض الرموز السلفية أن العائق الفقهي المتعلق بالموقف من الصورة سيترك الساحة لاتجاهات أخرى خاصة بعد أن تمكّن القرضاوي من الولوج إلى بيوت كثيرة، فتجاوزت هذا العائق فسارعت إلى الرهان على العالم الرقمي فأنشأت مواقع جديدة. ولكي لا تظل هذه المبادرات مجرد مبادرات تثقيفية وتربوية قام الشيخ القرضاوي بتأسيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين (2004) كمرجعية تنظيمية-فكرية تجمع بين طاقات الأمة الفكرية والعلمية بما فيها الحساسيات الشيعية (كآية الله محمد واعظ زاده الخراساني وآية الله محمد علي التسخيري). هذا هو الهدف الظاهر. أما الهدف الغير معلن فهو تجاوز مشكلة المرجعية العلمية للعالم السني. خاصة وأن هذا التأسيس جاء بعد انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان (2000) الذي شكل انتصارا ودفعة معنوية لحزب الله، وبعد أن استطاعت إيران أن تصمد في وجه التحديات الخارجية. لم يقتصر الشيخ القرضاوي على برنامج "الشريعة والحياة" وموقع "إسلام أون لاين" ومؤسسة "الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين"... بل سعى إلى تقديم نفسه مرجعا علميا للمسلمين ثم إماما للمسلمين. وبالموازاة مع ذلك حدث تقارب مع بعض الرموز السلفية (كالشيخ سلمان العودة). وهو الأمر الذي أكده القرضاوي في الحوار الذي أجرته معه "الشرق الأوسط" اللندنية (22 دجنبر 2010) أثناء وجوده في السعودية عندما سئل عن علاقته بالسلفيين وبالشيخ العودة، قال: "اليوم باتت علاقة طيبة، وها أنا الآن في بلد السلفيين"، وقال عن العودة إنه "من أقرب أحبائي، ويعتبرونه على منهج القرضاوي". ومع انهزام إسرائيل في حرب (يوليوز 2006) والذي عزز من قوة إيران وحزب الله وسوريا إقليميا وعربيا وإسلاميا... سنشهد نوعا جديدا من التصعيد من طرف الشيخ القرضاوي ضد الشيعة وحزب الله. وقد شكّل هذا التاريخ بدايةَ تحول جذري في علاقة القرضاوي بالشيعة وبحزب الله وإيران. ففي مناسبات عديدة ركز القرضاوي على قضية "اختراق الشيعة لمصر"؛ ففي لقائه السنوي بالصحفيين الذي عقده صالون إحسان عبد القدوس أكّد "أن الشيعة أخذوا من التصوف قنطرة للتشيع، وأنهم اخترقوا مصر في السنوات الأخيرة من هذا الجانب" (02 شتنبر 2006)، وأضاف: "إنهم يحاولون نشر مذهبهم في مصر لأنها تحب آل البيت وبها مقام الحسين والسيدة زينب".. وقال عن الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله إنه "لا يختلف عن الشيعة المتعصبين، فهو متمسك بشيعته ومبادئه" (برنامج "العاشرة مساء" بقناة دريم المصرية 2 شتنبر 2006). وعن انتصار حزب الله في 2006 قال القرضاوي إنه "لا يجوز أن يستغل بعض الناس هذا الانتصار لنشر المذهب الشيعي". وخلال مؤتمر الدوحة لحوار المذاهب الإسلامية في قطر (20 يناير 2007) انتقد القرضاوي بشدة محاولات "التشييع" الإيرانية في بلدان عربية سنية بالكامل، معتبرا أنها تدفع إلى الفتنة بين الطائفتين. وتم إرسال وفد من اتحاد علماء المسلمين يترأسه محمد سليم العوا إلى إيران لمخاطبة المسؤولين هناك بشأن هذه المسائل. وفي حوار مع جريدة "الشرق الأوسط" بتاريخ (28 شتنبر 2008) تحدث الشيخ القرضاوي بشكل مطول عمّا أسماه "الغزو الشيعي" وقال: "وجدت في السنتين الأخيرتين بالمشاهدة والإحصاءات، وبالواقع، معرفتي بالواقع وجدت المجتمعات السنية تعرضت لغزو شيعي منظم". وأضاف: "مصر التي أعرفها جيدا وأعرف أنها قبل عشرين سنة لم يكن فيها شيعي واحد منذ عهد صلاح الدين الأيوبي، ولكنهم استطاعوا أن يخترقوا مصر...". هذه عينة من موقف القرضاوي عن التشيع في مصر والعالم العربي... وفي خضم هذه المواقف الواضحة والصريحة حول "المخطط الشيعي" استضافت قناة الجزيرة القطرية يوم 14 فبراير 2007 مناظرة بين القرضاوي ورئيس هيئة تشخيص مصلحة النظام في إيران آية الله علي أكبر هاشمي رفسنجاني، واندرجت في إطار "جهود نزع فتيل الفتنة الإسلامية" بتطرقها لمواضيع من قبيل "سب الصحابة ومحاولة تشييع أهل السنة وتسنين أهل الشيعة...". في هذا السياق جاءت فكرة "ملتقى الإمام القرضاوي مع التلاميذ والأصحاب" التي انطلقت من نداء بثه موقع القرضاوي على إحدى صفحاته في (4 فبراير 2007)، جاء فيه: "... يرغب الشيخ في أن يتعرف على هؤلاء التلاميذ، وأن تكون بينه وبينهم صلة مباشرة فوق الصلة الروحية والفكرية، بحيث يتعرف عليهم: على أسمائهم، ومواقعهم وسيرهم الذاتية، حتى يمكن أن يلقاهم في رحلاته المختلفة، وأن يراسلهم ويراسلوه، ويطمئن إلى حسن فهمهم لمنهجه، وعرضهم له، وربما أمكن أن يعقد للبعض منهم لقاءات خاصة، حسب الظروف...". ونُظم أول لقاء في الدوحة يوم 14 يوليوز 2007. وتلته لقاءات أخرى. بالموازاة مع هذه اللقاءات استمر القرضاوي في توجيه الأنظار إلى مركزية التحدي الشيعي، مطالبا "علماء السنة بتحصين أهل السنة بأي ثقافة وقائية من الغزو الشيعي، حيث إن الطائفة الشيعية مدربة على التبشير للمذهب ورصد أموال كبيرة لذلك، كما أن لديهم دولة إرشادية من خلفهم" (الشرق الأوسط، 22 دجنبر 2010). وبلغ الغضب بالشيخ القرضاوي مبلغه عندما أطلق وصف حزب اللات على حزب الله. (اللات هي إحدى الأصنام التي عبدها العرب قبل الإسلام. وكانت هي والصنمان مناة والعزى يشكلن ثالوثاً أنثوياً عبده العرب)، وقال القرضاوي: "إن المنطقة كلها يجب أن تقف ضد إيران وحزب اللات، الدول العربية كلها واحد ضدهما" (كلمة بالمهرجان التضامني مع الثورة السورية بنقابة الصحفيين المصريين بتاريخ 15 مارس 2012). هذه المواقف ستصل إلى ذروة التصعيد مع دعوة القرضاوي الحُجّاج للدعاء على الإيرانيين (خطبة الجمعة، 12 أكتوبر 2012)، وهو الأمر الذي اعتبره مصطفى بنحمزة عضو المجلس العلمي الأعلى "يُفضي إلى حالة من عدم الاطمئنان في صوف الحُجاج" معربا عن "عن عدم اتفاقه كُليا مع هذه الدعوة"، مؤكدا أن "الحديث مع الشيعة له طُرق وأساليب بدون المساس بأمن الحج" وأنه "ليس من مصلحة المسلمين في شيء أن تُثار مثل هذه الدعوات في موسم الحج" (موقع هسبريس، 20 أكتوبر 2012). وجبت الإشارة إلى أن هذه المواقف كلها تزامنت مع التصعيد والتهديد الغربي والإسرائيلي ضد إيران، كما تزامنت أيضا -فيما بعد- مع التحولات التي عرفتها المنطقة العربية في ظل ما يسمى "الربيع العربي". خلاصة إن ما سبق يؤكد أن جزءًا كبيرًا من مواقف القرضاوي تجاه إيران وحزب الله والشيعة وبعض الأنظمة العربية (دون البعض الآخر) هي نتاج الفراغ الذي حصل على مستوى "النموذج السياسي الحركي الإسلامي السني". كما أن هذه المواقف التقت وتناغمت مع "إستراتيجية دولية" جديدة جوهرها المصالحة بين الغرب (خاصة الولاياتالمتحدةالأمريكية) والحركات الإسلامية المعتدلة (خاصة "الإخوان المسلمون"). وثمن هذه المصالحة هو أن تعيد هذه الحركات النظر في علاقتها المتوترة بالغرب التي تأزمت أكثر بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر وغزو أفغانستان وتدمير العراق... وأن تحافظ على مصالحه في العالم العربي، وأن تُصعّد من لهجتها ضد إيران وحلفائها في المنطقة، وأن تخفف من خطابها التصعيدي ضد إسرائيل... وفي المقابل سيُبدي الغرب في عمومه قبولا للتعامل مع هذه الحركات ولن يقف في وجه أي دولة أو حكومة يتولى قيادتها الإسلاميون المعتدلون، كما سيعمل على إيجاد تسوية وحل ما للمعاناة التي يعانيها الشعب الفلسطيني... وهناك ضامنان لنجاح هذه المصالحة: الضامن السياسي، وتمثله دولة قطر من خلال لعب الدور الذي كانت تلعبه السعودية... ونشير هنا إلى أن السعودية كانت مرشحة بقوة للاضطلاع بدور ريادي في المنطقة العربية بشكل عام. حيث كانت قادرة على منافسة النماذج السياسية الأخرى (النموذج الشيعي)، لكن تورطها في الحرب ضد العراق وانخراطها في المشروع العسكري الأمريكي في المنطقة أضعفها واستنزف قدراتها المالية، أضف إلى هذا طبيعة رؤيتها للإسلام الذي حصرته -بحكم سيطرة عقلية فقهية ومذهبية معينة- في مجموعة من المظاهر العاجزة عن بلورة مشروع إسلامي قادر على التفاعل مع نوازل العصر ويستجيب لصرخات الإنسان المعاصر. هذه الأسباب وغيرها جعلت من النموذج السعودي نموذجا فاشلا بامتياز مما مكّن ومهد لبروز النموذجين التركي والقطري. فالدور القطري الجديد يشكل جسرا للاتصال والتواصل بين الحركات الإسلامية "المعتدلة" (خاصة "الإخوان المسلمون") وبعض الدول الغربية الفاعلة في المنطقة العربية. أما الضامن الفكري فهي تركيا (حكومة "العدالة والتنمية") من خلال تقديم نفسها كنموذج للإسلام المعتدل، الذي ينطلق من المرجعية الإسلامية ولا يعادي الغرب. نختم هذه المحاولة بالتساؤل الآتي: أين الإسلام من كل هذا؟ ومشروعية هذا التساؤل نابع من كون أن أغلب المواقف الفقهية والسياسية السابقة، والمتعلقة بتقدير وتدبير الواقع السياسي والاجتماعي الإسلامي، راجعٌ أساسا إلى هيمنة منطق الاشتغال وفق الضرورات السياسية لأنظمة معينة وليس القيم الكبرى للإسلام. بمعنى آخر، إن السياسي هنا هو الذي يفرض على العالم والمفكر التوجهات والأفكار والأجندة. فالسياسي هو الموجه للعالم والمفكر. وإذا كان الأمر كذلك فإن الغلبة ستكون للبراغماتية على حساب المبدئية، وسيتم التعامل بالتقسيط مع مجموعة من القيم كالعدل والحق والكرامة... وستهتز الثقة في العلماء عندما يكون التقسيط السمة الغالبة لمواقفهم! إن الحق والعدل والكرامة... قيم لا تتجزأ. فلا يجوز شرعا ولا وضعا السكوت على منكر يمس تلك القيم في منطقة معينة ويتم تضخيم هذا المنكر في منطقة أخرى! إن العالم عندما يكون جزءًا من "البراغماتية السياسية" فإن تحديده لأولويات الإسلام والمسلمين سيصيبه الاختلال، وسيتم الاشتغال على أسئلة خاطئة أصلا؛ فتُبذل جهود لتقديم أجوبة صحيحة لأسئلة خاطئة!، كما أن سُلّم التحديات الحقيقية التي تواجه الإسلام سيصيبه الاهتزاز... وهكذا. إن ما سبق لا يعني بأي حال من الأحوال صوابية النماذج الشيعية السياسية والعسكرية، ولا يعني مطلقا التبني المطلق لمنطلقاتها الفكرية والمذهبية. إنما نريد أن نشير إلى أن "القرضاوية الجديدة" (لا يمكن حصر المسألة في الشيخ القرضاوي فقط؛ فهناك مشايخ وعلماء ومفكرون يشاطرونه نفس التوجه) ليست تعبيرا صادقا عن الأولويات والتحديات الحقيقية التي تواجه الإسلام والمسلمين في اللحظة العالمية الراهنة، وليست نتاج وعي عميق للتحولات التي تعرفها المنطقة العربية... بل هي جزء (بوعي أو بدون وعي) من الضرورات السياسية لحركات إسلامية ولأنظمة دولية وإقليمية معينة. والله أعلم.