ينسحب الكلام على شتى المواقف، والموائد، والندوات، والملتقيات، والتقارير، والتصاريح، والروبورتاجات بإزاء قضية من القضايا، أو مسألة من المسائل، أو مستجد من المستجدات، أو نازلة من النوازل، أو جائحة طبيعية أو بشرية. فهو ينعقد ويتلولب كخيوط الصوف أو الحرير على النول بغاية تقمص شكل أو هيئة، وبغرض تلبس وتلبيس... وفي مسعى حثيث ليعدل كفة الميزان، أو يطوح بها بعيدا تحقيقيا ل الاتوازن، ونشرا للتصفية أو فك الإرتباط. وحتى يتبين منحانا في الكلام، يتعين إزاحة الضباب والغموض عن هذه المقدمة التي عسر عليها أن تنجاب، وتسمي ما في القماط، والمشيمة، والباطن. أيتعلق الأمر بآراء ومواقف النخب السياسية والمثقفة مما يجري ويتغول في سوريا؟ أم بشيء آخر... وإن كان يحيل بالواضح لا بالمرموز على ليبيا؟ وكلاهما شهدا، ويشهدان التباسا عظيما، وغبشا وعشاوة طالا مجريات الانتفاضتين الشعبيتين. وإذا كان الأمر قد اتضح نسبيا في ليبيا بعد مقتل الطاغية، والإنطلاق في مأسسة، وتنظيم دواليب الدولة، والمؤسسات العمومية، والجيش والشرطة، والجمعيات المدنية، فإن الأمر في سوريا انشبك تماما وتلخبط إلى درجة ينذر معها باستحالة الحسم لجهة هذا الطرف أو ذاك، أو –في الأقل- يحمل على قلق عَاتٍ، ووجع لاهب، وألم مُمِضّ إذ نرى رأي العين ما بات يفعله النظام الدامي الفاشستي في شعبه، بلادا وعمرانا وتاريخا وحضارة. الكل تحت جزمة الدكتاتور، إما هو وإما هم. هي ذي المعادلة العجائبية المضحكة المبكية، سوريا الحضارة والتاريخ في كفة، وبشار الصغير في كفة مقابلة، كأن القشة تزن جبلا، أو كأن الواحد يطاع، والملايين تطيع، أو كأن القطرة المتبخرة المتلاشية غدا تقاس إلى بحر هادر، وبناء شامخ ومتشامخ قام من وراء الدهور. لماذا تحمس العرب والعجم في بدء انطلاق الإنتفاضة، فعقدوا الإجتماعات المكثفة، وأصدروا البيانات والبلاغات اللاهبة، وأرعدوا وأزبدوا وتوعدوا، ثم ما عَتَمَ أن خف الصراخ، وتراجع منسوب الإجتماع والموعد والوعيد، وتضاءل، على مستوى آخر، ظهور المجلس الوطني في الخارج، ولم تعد أوروبا وأمريكا بالتوثب البدئي- كما تابعنا- تعير اهتماما أقصى للمأساة السورية، هما اللتان بدعم وتفويض عربي كانتا قاب قوسين أو أدنى من إطاحة الدكتاتور المأفون، وإسقاط نظامه الأوليغارشي، من منطلق دعم وتأطير النخبة السياسية والثقافية المعارضة في المنفى، أو في الداخل، لوجستيكيا أو رقميا، ومن منطلق معاضدة الهزة الشعبية المجيدة التي راهنت على الفوز، وإحقاق مبتغاها وتعطشها إلى الكرامة والعدل والحرية. طبعا من خلال تمويل دول الخليج العربي، وفي المقدمة دولة قطر. غير أن الرياح جرت بما لا تشتهي السفن، إذ أن تصلب روسيا بالخصوص، وإنفاذ دعمها اللامشروط للدكتاتور، وانتقال تركيا من موقف إلى موقف، ومن كلام إلى كلام، ومن تهديد مبطن، وتهديد عار، وتفريغ انفعالي، وخوف على عافية اقتصادها، ووضعها الإقليمي الوازن، ثم استشراء المجابهة بين الجيش الحر، والجيش النظامي على كامل التراب السوري ما يعني –بدهيا- انتشار السلاح في كل زاوية وركن،- كل ذلك عمل على إحباط مسار "الثورة" وَبَنْدَلَها، فأضحت تنوس بين بداية النهاية، ونهاية البداية، بين الأمل في سقوط الطاغية سريعا، والألم في استمراره قاتلا ومتغطرسا، مستقويا بترسانة جبارة من أسلحة الشعب السوري، فكأنما كان يقتنيها من عرق الشعب، عبر عقود، تحسبا لهذه "الثورة"، وتوجسا من ترحيله، وتجريده من ثياب الدكتاتور، والإلقاء به إلى صحراء النسيان، ومزبلة التاريخ، لا استعدادا لتحرير الجولان المحتل. المشهد –كأننا في سينما- يبعث على الحنق والرثاء حقا، المشهد كابوسي بما لا يطاق، الحضارة من خلال مشخصاتها فادحة الغنى والثراء والجمال، تَنْهَدِمُ يوما على صدر يوم، تَنْهَدِمُ على رؤوس الساكنة العزلاء، المنحشرة في الثقوب، والأزقة والدروب، والأركان المغبرة، والمجاري المخفية، والدم يزهر في الغبار والماء، والأبواب الموصدة، والمنفرجة، وفي الهواء... وعلى الحيطان.. والمدارس، والجوامع، والحواري، والسواري، وعلى "إشَارَبْ" البنات والسيدات، وعمائم الرجال، وسحنات الأطفال والصبايا. المشهد كافكاوي : الأسد – سحقا للتسمية المضحكة- يطل من ثقب التلفاز، ومن خلل الإشارة والإستشارة، وعبر "المُوبَايْلْ"، فزع كجرذ بَلَّلَهُ بول الجيران، وأصعقه مواء قريب، وزمجرة مزعزعة، واهتزاز... وتراكم ردم. دكتاتور طبيب فارعٌ، فَارِعٌ وصغير. أنيق، يرتدي سْمُوكِينْكًا رفيعا يدس فيه صفرته وإمتقاعَهُ وارتعاده، وَصَغَارَهُ، ودناءته، ومشاعر خوف دفينة لكنها معلنة ومستعلنة، من سقوطه، وبقاء سوريا !. لم يؤثر السلاح على كلامي، كلامي محض كلام، كلام السلاح هو الكلام، ولكنه في حال سوريا الآن، انعطف وانتكس خلفا لا أمام. لقد تسلح الشجر والحجر والكتاب واللِّحَى، وهنا مَكْمَنُ السؤال، وهنا مربط الفرس، وهنا تفسير الإشاحة والإزْوِرَارٍ عن مد "الثورة" بالأمل والغَدِيةِ، والتطمين على المسير والمسار. ومع تقديري الخاص لما يكتبه الناقد الصديق صبحي حديدي، والروائي إلياس خوري، عن الهَبَّة الجماهيرية السورية، وما يَنْمَازَانِ به من تتبع حصيف، وتوصيف أدبي وسياسي وعلمي دقيق لحال سوريا وهي في قبضة الطاغوت، حيث ذهبا –كما ذهب كثيرون- إلى أن الأخلاق النضالية، والتضامن مع الشعب السوري، تقتضي دعمه بالمقدرات جميعها من بيانات وإعلام، وتسليح حتى وإن تعاورت هذا السلاح أطياف مختلفة من جماعات مدنية، وضباط وجنود مؤيدين للشعب الثائر، ومن جماعات إسلامية وسطية أو متشددة. فإن منطق الأشياء يكاد يدفعني –الآن- صوب مواقف سعدي يوسف، وأدونيس. ذلك أن التردد والهمهمة والإستنكاف واللايقين هي خبز اللحظة الديبلوماسية عربيا ودوليا إزاء الحال السورية. لا لشيء سوى لكون السلاح أصبح متاعا مشاعا في يد الإسلاميين السلفيين والجهاديين، ما يفضي –بالحتم- حسب الرأي المتداول إلى سرقة "الثورة"، والمصادرة على حلم السواد الأعظم من السوريين في الكرامة والحرية والديمقراطية، والمواطنة الحرة، والدولة المتعددة الغنية باختلافها وتنوعها. ولهم في ما يَدَّعُون، المثل الحي من ليبيا التي مازالت "ثورتها" على الطاغية، لم تستقر على حال، ولم تَرْسُ إلى مرفا الأمان، إذ تَنَكَّبَتْ سبيل الديمقراطية الحق، واهتبل الحيص والبيص فيها فتية، وميليشيات إسلامية مدججة بالأسلحة حتى الأسنان. هو ذا خوف دوائر القرار السياسي والديبلوماسي أوروبيا وأمريكيا، وخوف دول الجوار: (تركيا حصرا)، وخوف علمانيي سوريًا من مثقفين وسياسيين ومفكرين وفنانين وحقوقيين. إنه خوف نابع من أن تؤول السلطة في حال سقوط بشار – الساقط حتما- إلى الإسلاميين المتشددين. وكان عَبَّرَ –بالصراحة المعهودة فيه- عن ذلك، منذ بدايات الإنتفاضة، الشاعر السوري أدونيس، كما عبر عن المخاوف إياها، وإن بصورة معممة على مصر وتونس وليبيا، الشاعر العراقي سعدي يوسف. فالإخوان المسلمون السوريون هم مدماك الثورة الناشبة في سوريا، بل هم أُسُّها، وحصتهم من المناصب المسؤولة في المجلس السوري المعارض في الداخل والخارج، حصة معتبرة، متسشارة ومقررة. ومع أن جماعة الإخوان المسلمين السوريين- كما لا يخفى- قد أصدرت وثيقة: "عهد وميثاق" حسمت فيها بخصوص أمور وأشياء كانت مناط مخاوف اليساريين والليبيراليين والإشتراكيين، والأطياف والأقليات الدينية، كمثل المساواة بين الرجال والنساء على اختلاف أعراقهم ودياناتهم ومذاهبهم، "والدعوة إلى إرساء علاقة وطنية معاصرة وآمنة بين مكونات المجتمع السوري من دون تمييز أو تفريق، والإلتزام بمباديء حقوق الإنسان، وبدستور يضمن الحريات، ويكرس دولة ديمقراطية تعددية تداولية يسودها القانون، لا مكان فيها للأحقاد والعنف والإنتقام"، مع هذا، يأتي الخوف، وانعدام الثقة من هكذا تيار بناء على مقارنات دامغة، تجد صورها ولسانها وتعبيرها الصريح الفصيح، في تونس ومصر وليبيا، لعل عنوانها أن يكون: ازدواجية الخطاب، ومبدأ التقية، والتقنع والتبرقع إلى حين، إلى حين التمكن، والسيطرة والسلطان. ذلك أن في الخلفية الكامنة لهذا البناء الديني المستتر والمسيس، ما يمكن تسميته، الإنتقام للتاريخ الإسلامي: (تاريخهم هم)، والإنتقام لشرع الله الذي لم يتبلور كفاية في الأرض، والإشرئباب إلى تطبيق الشريعة الإسلامية بعد أن يستتب الأمر لولاية إسلامية تُظِلُّ الأرض، فسيتظل في نعمها وآلائها: البلاد والعباد طُرًّا. هو ذا المقصود من العنوان: أثر السلاح الملتحي على الكلام، ما يعني أن المواقف الأولى المشجعة والداعمة للإنتفاضة، انسحبت إلى الزاوية وانطفأت أو تكاد، فيما شرعت مواقف منحازة إلى الخوف والحيرة والقلق من غد مغبش وضبابي، ومستقبل مجهول يحف بالمآل السوري، ويتهدد بصيرته واستبصاراته، أي يضع دكتاتورية ملتحية ماضوية رجعية، مكان دكتاتورية أو ليغارشية بلقاء ومتمدنة. فالتحليل إياه يجد صدقيته في إحجام البعض عن مد "الثورة" العارمة بأسباب الحسم السريع والنهائي مع "البَشَّارية" وأذنابها، بينما انْبرى آخرون إلى دعمها أيا كان العنصر المهيمن فيما وعليها، لأن سوريا لست ليبيا ولا مصر، فعروبتها نابضة بفيض، ومسلموها (الإخوان حتى) غير مسلمي مصر الإخوانيين على رغم عبهم من منبع واحد، واستمدادهم من خلفية مشتركة. وأساس الاختلاف هو أن أغلب الإخوان السوريين عاشوا في المنافي والشتات، في أوروبا تحديدا، الشيء الذي بصم فكرهم وعقليتهم، وأثر إيجابا على مسلكياتهم، ومقارباتهم للدين والدنيا. كما يملكون من جهة أخرى، ماضيا ديمقراطيا في سوريا لا يسمح المقام للخوض فيه. بدأت الإنتفاضة السورية سلمية مطالبة بالحق في العيش الكريم، تمردا على عديد السنوات العجاف التي عرفها البلد، وتسبب فيها النظام الدكتاتوري بدعوى الترشيد والإنفاق العام على التسليح والحرب التي لم تقع، وبدعوى الممانعة والمقاومة ما يفرض على عامة الشعب الصبر والجوع واستمراء القمع، ويبيح للمؤتمن على البلد الرفه والدعة، والتنعم في بحبوحة العيش، إذ كيف يعقل أن يساق شعب ورعية إلى الحرب التي لن تقع، وقد تقع، من لدن سائق وسائس وراع مُتَضَوِّر، ومتضرر ومريض !! بدأت سلمية... ثم أراد لها النظام أو أريد لها أن تتحول إلى حمام دم لازال يَخِبُّ، ويُبَقْبِقُ كالماء المغلي، في الرؤوس، والأوردة، والطرقات. والسؤال المطروح على أدونيس من جهة، كما على صبحي وإلياس خوري من جهة أخرى هو: كيف السبيل إلى فك العقدة، وتفكيك عرى التشابك والإنشباك؟ وما الحل المقترح = أتراه الجلوس إلى طاولة بشار، وترتيب الغدية السورية معه في أكناف ديمقراطية وليدة ومُسْتَنْبَتة، أم كسر عظامه، وإسدال الستار- إلى ما لا عودة- على فصول الدم والموت والدمار، مع التفكير والتدبير في أمر إدارة سوريا ديمقراطيا بكفاءات أبنائها وبناتها كيفما كان طيفهم السياسي، أو مذهبهم الديني، أو منزعهم العرقي، أو لونهم أو جنسهم؟ في الحال الأولى : ألا يكون بشار ومن في صفه هو الرابح والخاسر سوريا بقضها وقضيضها، بروحها وريحانها، بِوِلْدَانِها، وحضارتها وتاريخها الذي شطب وجهه بشار بِمُدَى الحقد، وبَراثن التشبت الأزلي بالحكم والكرسي والصولجان. وفي الحال الثانية : كيف السبيل إلى تصديق "ميثاق" الإخوان السوريين الديمقراطي، وما الذي يضمن أن لا التفاف على المصرح به في الميثاق، ولا خروج عن الإتفاق، ولا نقض للعهد، ولا إتلاع لإزدواجية في الخطاب، ولا تَقَنُّعٌ هنا، وسُفٌورٌ هناك. تلك هي المسألة فيما يقول عطيل. وما بين الحلين، سَيَصْلَى الشعب السوري العظيم نارا، يؤجل موته كل يوم، بل كل ساعة وكل حين، في الأهول؛ وفي الأهون، سيستمر الخوف مصاحبا، حتى وهو يبتعد عن دياره، مترحلا تحت سماء رصاصية لا ترحم، متوجها نحو اللامكان.