لشد ما أثارني المشهد الذي نقله أحد المواقع الإلكترونية عن مركب للصيد البحري يقذف بأكثر من 90 طن من السمك في البحر في مياه مدينة الداخلة المغربية. أثارني المشهد من ثلاث جهات: - الأول، لأني لم أفهم كيف يقدم ربان مركب للصيد البحري ليس فقط على قتل واغتيال الثروة السمكية بهذه الطريقة الوحشية، ولكن ايضا على رمي ملايين الدراهم - سومة هذا السمك – في البحر علما أن عملية الصيد اقتضت منه كلفة كبيرة في البنزين والموارد البشرية وغير ذلك من المصاريف الثقيلة ! - والثاني، لأن معرفتي عن الصيد البحري في المغرب، تفيد بأن المغرب انخرط في التزامات دولية مع الاتحاد الأوربي تفرض عليه من جهة حماية ثورته البحرية عبر تطبيق الراحة البيولوجية المبنية على الدراسات العلمية، والتزام المعايير الصحية والبيئية في الصيد، والمشهد الذي ٍ نقله اليوتوب، يسير في اتجاه معاكس لهذه السياسات وتلك الالتزامات الدولية. - الثالث، ويرتبط بسوق الاستهلاك الداخلي للسمك، وارتفاع سومة الأسماك. إذ أحدث هذا المشهد في نفسي مفارقة عجيبة، فقد يكون مفهوما أن ترتفع أسعار السمك بسبب قلة العرض أو كثرة الطلب، لكن ما ليس مفهوما، هو أن يكثر الطلب على السمك، وترتفع أسعارها ويقدم مركب للصيد البحري على إلقاء أكثر من تسعين طنا من السمك في البحر. كانت هذه هي الملاحظات ألأولية التي حفزتني لفهم هذا المشهد والتنقيب عن ملابساته وحيثياته، إذ تحرك فضولي لمعرفة خلفيات هذا الحدث، والأسباب التي دفعت هذا المركب وغيره إلى الإقدام على هذا الفعل. ولم تتأخر التفاصيل والوقائع، فقد تأكد لي من خلال أكثر من مصدر، أن هذا المشهد المثير، لم يكن أكثر من الشجرة التي تخفي الغابة الكثيفة: غابة الفساد والرشاوى والتواطؤات المشبوهة ضدا على القانون وعلى كل السياسات التي اقرتها الوزارة والتزمت بها أمام الشركاء الدوليين خاصة الاتحاد الأوربي. بدأت القصة، باحتجاج على مركبين للصيد البحري – من نوع بلاجيك- متخصصين في صيد سمك السردين، في ملكية مسؤولين سياسيين، يشغل أحدهما مسؤولية غرفة دستورية، فيما يعرف الثاني بنشاطه السياسي في صفوف حزب سياسي معروف نفوذه في الصيد البحري، وذلك بسبب تفريغ مركبيهما لكميات كبيرة من الأسماك التي لا يسمح لهما بصيدها، ومرورها بسلاسة إلى مرحلة البيع في سوق السمك التابع للمكتب الوطني للصيد بميناء الداخلة، إذ تأجج غضب جمعيات ونقابات وارباب مراكب الصيد البحري في مدينة الداخلة، وتحركوا للاحتجاج على تواطؤ الإدارة مع هذه اللوبيات وتشجيعها بكل الوسائل على خرق القانون، لاسيما وأن المساطر الإدارية المعمول بها، تشترط لمرور السمك إلى مرحلة البيع، الحصول على التصريح والتسجيل في البرنامج المعلوماتي، وذلك لا يمكن أن يتم إلا بعد أن يتم التأكد من احترام المراكب لنوع الصيد المسموح لها به. إلى هذا الحد، بدأت ألتمس الخيوط، وشرعت في تركيب الصورة من جديد، لاسيما بعد أن أخذ الاحتجاج طابعا مطردا اضطر الإدارة في الأخير- لست أدري هل الأمر من الإدارة المركزية أم المحلية- إلى تطبيق جزء من القانون، وذلك بفرض غرامة على أحد المركبين ب 400 ألف درهم، والثاني ب200 ألف درهم، مما جعل الهواتف تتحرك بسرعة، وتنذر المراكب "الصديقة" التي تقوم بنفس الجريمة، للحذر مما ينتظرها من غرامات، وربما من إحالة على وكيل الملك، فكان ذلك المشهد الأليم الذي تعذر علي فهم ملابساته. هذه هي القصة بتفاصيلها، وقد سردتها بهذه السلاسة ليس بقصد إفهام القارئ ما تعسر علي فهمه عند أول مشاهدة لشريط اليوتوب، ولكن، للفت الانتباه، إلى الفوضى العارمة التي يعرفها قطاع الصيد البحري، وخطورة الاختراق التي تقوم به لوبيات الصيد البحري للإدارة، وأثر ذلك على كل السياسات التي ترسمها الوزارة الوصية لحماية الثروة السمكية والنهوض بقطاع الصيد البحري. ذلك أن الأمر لا يتعلق بأرباب مراكب من عامة الناس، وإنما يتعلق بمسؤولين مستثمرين في القطاع، ولهم علاقات متميزة مع الإدارة مركزيا وجهويا ومحليا، نسجوا شبكة من العلاقات مع الإدارة في جميع مستوياتها، ومن المحتمل أن تكون جزء من الإدارة منخرطة في هذه اللعبة خادمة لمصالح هذه اللوبيات، والمؤشرات التي أظهرها هذا الحدث واضحة ومعبرة، إذ كيف تم استصدار التصريح؟ وكيف مر عبر البرنامج الملعوماتي؟ ومن سمح لهم ببيع سمك غير مسموح لهذه المراكب بصيدها؟ هذه مجرد أسئلة يفترض من الحكومة التي نذرت نفسها لمحاربة الفساد أن تضعها في دائرة الضوء، وأن تحرك المتابعة القانونية في حق مرتكبي جرائم ضد الثروة السمكية والبيئة البحرية تماما، كما تقرر المساطر المعمول بها، وألا يتم الاكتفاء فقط بحجز السمك وتغريم المخالفين.