لقد شكل المؤتمر الاستثنائي لحزب الأصالة والمعاصرة ، نقلة نوعية ، في مجال توضيح هوية الحزب ، وتدقيق المنطلقات النظرية التي نشتق منها فكرنا السياسي ، و اخترنا الديمقراطية الاجتماعية المنفتحة منهجا وأفقا لبناء الحداثة والديمقراطية ، وينطلق هذا الاختيار من فهمنا للأصالة والمعاصرة كبعدين لا ينفصلان في هذا البناء،لهذا فإن الحزب يراهن على أن يستوعب جميع الأعضاء المجهود الفكري الذي قام به ،ويتمثلوا اختياره السياسي الديمقراطي الاجتماعي باعتباره هوية مشتركة يعمل على تأصيلها وتدقيقها ، حتى تصبح لحمة جامعة لكل المنتمين لحزب الأصالة والمعاصرة. إن استيعاب المرجعية والخط السياسي ، هو بمثابة البوصلة التي تضئ طريق أي عضو في الحزب ومن لم يمتلك هذه البوصلة كانت ممارسته السياسية ممارسة عشوائية بدون هدف. والنموذج الديمقراطي الاجتماعي لم يأت من فراغ ، بل هو نتيجة تطور تاريخي ، اقتصادي، اجتماعي و ثقافي، تم خلاله تجريب نماذج اقتصادية مختلفة ، كانت تتجه أحيانا نحو التطرف الذي لا يراعي البعد الإنساني . فمنذ القرن السابع عشر توضحت معالم النظام الرأسمالي الذي بني على أنقاض النظام الإقطاعي ، ولم تكن الرأسمالية مجرد نظام اقتصادي ، بل كانت نظاما اجتماعيا وسياسيا يقوم على المبادرة الحرة والملكية الخاصة لوسائل الإنتاج،وقد تطورت من طابعها التجاري إلى مستوى صناعي متقدم مبني على تطوير العلوم والتكنولوجيا. غير أن الرأسمالية لم تكن مجرد نمط للإنتاج بل كانت نظاما سياسيا ليبراليا متقدما أرسى دعائم الدولة الحديثة المؤمنة بعدة حقوق إنسانية، واعترف تحت ضغط الصراع الاجتماعي بحرية تأسيس النقابات والأحزاب والجمعيات وظهرت البرلمانات الأولى لتمثيل المواطنين، ودافع مفكرو عصر الأنوار عن الإنسان وقيمته ،وعن حرية الرأي ،وأهمية العقل في تخليص الناس من كل الأوهام التي سادت في العصور الماضية، في أفق بناء دولة المواطنين الواعين بحقوقهم وواجباتهم، والمساهمين في تطوير مجتمعهم في ظل القانون والمؤسسات (دولة الحق والقانون) هذه المكاسب التاريخية سيعترف بها الاشتراكيون أنفسهم كمنجزات للنظام الليبرالي. إلا أن أزمات نمو الرأسمالية، واعتماد الربح والإنتاجية كأهداف حيوية من طرف أرباب العمل، أدى إلى تأزم أوضاع الطبقة العاملة التي كانت تنتج الثروة دون أن تستفيد من نتائجها ، فكثرت الصراعات الاجتماعية، ولجأ العمال إلى كل الأساليب دفاعا عن مصالحهم من خلال القيام بالإضرابات والاحتجاجات واحتلال المعامل. وكانت هذه النضالات في بدايتها عشوائية قبل أن تتأطر داخل الاتحادات العمالية وداخل النقابات ، في هذه الأجواء ظهر الفكر الإشتراكي لكي يدعو إلى إقامة نظام سياسي بديل. وقد مر الفكر الاشتراكي من مراحل مختلفة، قبل أن يصل إلى ما سمي بالإشتراكية العلمية ،على يد المفكرين الألمانين، مثل كارل ماركس (صاحب كتاب الرأسمال) وغيره. غير أن التاريخ لم يتطور حسب ما تنبأ به المفكرون الاشتراكيون ، فبدل الدول الصناعية المتطورة ، ظهرت التجربة الأولى في دولة أقل تطورا آنذاك وهي روسيا على يد حزب فلاديمير لينين الحزب البولشفي الشيوعي، ثم في الصين الفلاحية فيما بعد على يد الحزب الشيوعي الذي قاده ماو تسي تونغ، واتسمت هذه التجارب بنوع من الصراع الحاد وغياب الديمقراطية واعتبار المخالفين أعداء الثورة ،وكان النظام السياسي شموليا يحكمه الحزب الوحيد الممسك بيد من حديد على مقاليد الأمور، بل إن العديد من التجارب الاشتراكية كانت مفروضة بواسطة التدخل الخارجي ،كما حصل أثناء الحرب العالمية الثانية من خلال التدخل الروسي في دول أوروبا الشرقية.غير أن هذا الوضع المختنق والمفروض ، سينهار بسرعة بعد أقل من أربعة عقود( تحولات أواخر الثمانينيات) وستعود أغلب الدول إلى الاختيار الليبرالي الديمقراطي وإلى اقتصاد السوق . موقع النموذج الديمقراطي الاجتماعي من النظامين الرأسمالي والاشتراكي لقد اختار مجموعة من الساسة والمفكرين والقادة النقابيين طريقا ثالثا ، يحافظ على أسس النظام الديمقراطي الليبرالي واقتصاد السوق ،مع استحضار البعد الإنساني ووضع المسألة الاجتماعية في صلب اهتمامه،هو ما اصطلح عليه النموذج الاجتماعي الديمقراطي . غير أن مفهوم الديمقراطية الاجتماعية ليس نموذجا موحدا ، بل هو إطار نظري عام له عدة تطبيقات ،حسب طبيعة المجتمعات ،وقد أكد أستاذ العلوم السياسية الألماني السيد طوماس مايير أن الديمقراطية الاجتماعية نمط تفكير وقناعة تترجم في اختيارات وبرامج حزبية بشكل مختلف ، حسب الأولويات وإن كانت المنطلقات الفكرية واحدة ،وقد أكد مايير أن النظام الرأسمالي هو الذي وضع اللبنات الأولى للديمقراطية بسنه للحريات وبناء دولة الحق والقانون على أنقاض النظام الإقطاعي البائد ، غير أن السوق الذي بقي بدون ضوابط أنتج أزمات انعكست سلبا على غالبية المساهمين في عملية الإنتاج ، الأمر الذي فرض التدخل لمحاولة أنسنته. ويؤكد السياسي الفرنسي جاك دولور على أن الديمقراطية الإجتماعية هي من جهة تحالف بين الدولة والسوق ، وبين أرباب العمل والنقابات العمالية من جهة أخرى . لقد شكلت الديمقراطية الاجتماعية قطيعة مع الأنظمة الاشتراكية الشمولية وتبنت التعددية السياسية والحزبية والاعتدال ، واستلهمت المذهب الكينزي في الاقتصاد والذي جمع بين حرية المبادرة وتدخل الدولة عند الضرورة ،لقد تميزت أعمال المفكر الاقتصادي الأمريكي كينز بالمواءمة بين المبادرة الحرة والتوجيه الديمقراطي للاقتصاد، وأعطت الأسس المذهبية الاقتصادية للديمقراطية الاجتماعية حيث أصبح القطاع العام، مهما باعتباره مكملا وليس منافسا لاقتصاد السوق . وعرف هذا المذهب أوجه خلال السبعينيات والثمانينيات مع أسماء كبيرة مثل المستشار الألماني ويلي برانت ورجل السياسة المغتال السويدي أولوف بالم، والسياسي النمساوي برونو كرايسكي. ولعل نجاح التجارب السياسية في أوروبا الشمالية ،وتميز اختياراتها الاجتماعية، وأنظمتها الحمائية خير دليل على عدالة النهج الديمقراطي الاجتماعي، وطابعه الإنساني الذي استطاع حل معادلة النمو الشامل ،الذي يضع الإنسان في صلب اهتماماته ، ففي السويد مثلا ارتبط مفهوم الديمقراطية الاجتماعية بوضع أسس الدولة الراعية ،والحامية لمواطنيها ،من خلال التضامن بين الطبقات الاجتماعية، وذلك من خلال بناء النظام السياسي ،على مبادئ التوافق والحوار والمفاوضة بدل الصراع ،الذي يؤثر سلبا على عجلة الإنتاج ،فإشراك مختلف الأطراف في مناقشة القضايا الوطنية الكبرى ينعكس بشكل إيجابي على بلورة حلول ناجعة لأعقد الإشكالات ، فالدولة النمساوية دولة اجتماعية بامتياز، تقدم أرقى الخدمات لمواطنيها،وتتوفر على أفضل نظام للحماية الاجتماعية ، وإذا أخذنا كمثال التأمين ضد البطالة سنجد أن الإنخراط فيه يتم عبر النقابات ( التي تؤطر حوالي 80 في المائة من العمال والموظفين ) ويساهم العمال بنسبة معينة والدولة بنسبة مهمة ، ويستفيد منه كل من فقد عمله كي يحافظ على دخل محترم .أما بالنسبة للتعليم فابتداء من مرحلة الروض والتعليم الأولي وصولا إلى الجامعة يكون مجانيا ، كما تسهر الدولة على رعاية المسنين وذوي الاحتياجات الخاصة ،وكل مواطن يدفع ضرائبه حسب مدخوله لضمان رفاهية الجميع ، لأن التأمينات في السويد متنوعة: عن المرض وعن الشيخوخة وعن فقدان العمل... وتكون مساهمة الدولة أساسية في هذه التأمينات التي تجعل المواطن مطمئنا على مستقبله ومستقبل أبنائه ، بالإضافة إلى النظام الصحي شبه المجاني حيث يتم التعويض عن العلاجات والأدوية ، وكل ذلك بمساهمة الدولة والشغل. وفي المملكة المتحدة فقد سارت التجربة الديمقراطية في اتجاه متميز حيث ارتكزت على قوة الحركة النقابية ( الاتحادات العمالية ) التي أسست حزبها ( الحزب العمالي ) سنة 1900 واختارت السلم الاجتماعي وتحقيق التضامن بين الطبقات ، وكانت هذه التجربة فريدة في العالم حيث تعمل الأحزاب في الدول الأخرى على خلق أذرعها النقابية عكس بريطانيا العظمى . أما في ألمانيا فقد كان الاختيار الديمقراطي الاجتماعي هو سبب النجاح في تجاوز وضع ما بعد الحرب العالمية الثانية ووضع أسس اقتصاد ألماني قوي ومتضامن ،أصبح قوة أولى في أوروبا وتميز بنهج سلم اجتماعية عادلة ترتكز على اتفاقات جماعية طويلة الأمد بين العمال وأرباب العمل وعلى ضمان اجتماعي نموذجي يضمن حقوق كل شركاء العملية الإنتاجية . إن الفكرة الأساسية التي انبنت عليها الديمقراطية الاجتماعية في صيغتها الجديدة حسب الباحث السياسي الفرنسي ألان بيرجونيو في مقالة نظرية صدرت له في جريدة لوموند بتاريخ 24 ماي 2012 هي تجاوز الطرح الذي كان يرى أن تأميم وسائل الإنتاج هو الحل لتجاوز مآسي النظام الرأسمالي من لا مساواة وغياب للعدالة ، فكل ذلك يمكن تحقيقه من خلال نهج سياسات فعالة، تتحكم في السوق وفي تقلباته ،وتشجع الاستثمار، وتهتم بالملف الاجتماعي من خلال تطوير الحماية الإجتماعية والعدالة والتعليم ، واعتماد التضامن بين مختلف الطبقات كأساس لضمان استقرار المجتمع وتطوره . لكل هذه الاعتبارات اختار حزب الأصالة والمعاصرة النموذج الديموقراطي الاجتماعي المنفتح لأنه هو السبيل لإخراج بلادنا من أزماتها وتحقيق التضامن بين طبقاته وجهاتها. ونوضح بالمناسبة أن اختيارنا هذا ليس مجرد نقل لنموذج جاهز، بل هو استلهام لاختيار فكري وسياسي أثبت فعاليته في عدة ديمقراطيات متقدمة. التضامن أهم أعمدة الديمقراطية الإجتماعية إن التضامن إحساس بالمسؤولية المتبادلة اتجاه الجماعة، ويتجلى في تقديم الخدمات للآخرين دون مقابل ،كما أنه انخراط فعلي في بناء قيم الجماعة، وتشكيل الهوية الجماعية ، فالتضامن ليس مجرد إحساس فردي عاطفي أو عمل خيري عابر ،بل هو قناعة فكرية وسياسية نتجاوز من خلالها فرديتنا لننفتح على الجماعة . لقد عملت أغلب الأنظمة الديمقراطية الاجتماعية،على تحويل الحس التضامني إلى مؤسسات وبنيات اجتماعية ،تعمل على عقلنة التضامن وتطويره كي يسهم في الحماية الاجتماعية، فالتضامن المؤسسي ليس مجرد عمل خيري فردي اختياري محدود في الزمن، بل هو قناعة سياسية دائمة. والتضامن الفعلي في المجتمعات الديمقراطية مرتبط بالحرية والمساواة والتكافل بين جميع طبقات المجتمع ، كما أنه مرهون بإسهام كل من مؤسسات الدولة والمجتمع المدني في تنزيل البرنامج التضامني على أرض الواقع بنوع من الانسجام والتناغم، لكل هذا فإن بناء مجتمع متضامن ومتعاون يتطلب مستوى عال من النضج ،وإرادة لدى المواطنين، للمساهمة التلقائية في مساعدة من هم في حاجة، والسعي إلى اقتسام الثروة الوطنية بشكل عادل. لقد تطورت أشكال التضامن تاريخيا مع تطور الحضارة ، فظهرت التأمينات بمختلف صيغها والتعويض عن البطالة والمرض والعجز والحوادث ، وأنظمة التقاعد، كما ظهر الاقتصاد التضامني الذي يهدف إلى تحقيق المصالح الجماعية للأعضاء في إطار تكامل وانسجام بدل التنافس المميز لنظام السوق ،ويشمل التعاونيات والتعاضديات ،وكل المؤسسات التي تقوم على أساس المساواة والتضامن بين الأعضاء ،وعلى نوع من الاستقلالية، وتؤطرها قوانين خاصة ، ليس هدفها الربح بل حل بعض الإشكالات الاجتماعية وتخفيف الأعباء على الأعضاء بشكل تضامني وتشاركي لأن المصلحة العامة تسمو على المصالح الخاصة .وتأتي التعاونيات في مقدمة هذه المؤسسات خاصة في مجالات الفلاحة والصناعة التقليدية حيث تسهر الدولة على تشجيعها عبر الإعانات، والإعفاءات الضريبية والقروض، وهناك التعاضديات خاصة في المجال الصحي والتي تتأسس على مساهمات الأعضاء والتضامن لتخفيف أعباء العلاجات ...لقد أصبح الاقتصاد التضامني مشغلا مهما لليد العاملة بالإضافة إلى مساهمته في حل العديد من المعضلات الاجتماعية، ووضع أسس تنمية مستدامة. كما يتميز النموذج الديمقراطي الاجتماعي بتبني فلسفة الحماية الاجتماعية، القائمة على وضع آليات دائمة لتفادي كل المشاكل الناتجة عن طوارئ الحياة ، وكل ما من شأنه أن يؤدي إلى انخفاض دخل المواطنين (في حالات فقدان الشغل ،أو المرض أو الإعاقة أو الشيخوخة أو التقاعد أو مختلف التحملات العائلية...) فنظام الحماية الاجتماعية يخفف الأعباء المادية عن الأسر المحدودة الدخل ويقلص التفاوت الاجتماعي أمام المخاطر، ويضمن حدا أدنى من الدخل الذي يسمح بالاندماج الاجتماعي. وتسهر منظمات الضمان الاجتماعي على تصريف سياسة الدولة في مجال الحماية الاجتماعية، وإذا كانت كل الدول الأوروبية قد أقامت أنظمة للحماية الاجتماعية، فإن الدول التي تبنت الاختيار الديمقراطي الاجتماعي ( شمال أوروبا وألمانيا كمثال) تميزت بإقامة أنظمة نموذجية ومتطورة تحمي المواطن من أي خوف على مستقبله ،في ظل الأزمات والتقلبات التي يشهدها الاقتصاد الدولي بل إن بعض النماذج وصلت إلى مستوى تحقيق نوع من الرفاه الاجتماعي الذي عجزت عنه الأنظمة الأخرى( مساعدات مهمة في مجالات السكن والصحة والتعليم المجاني وكل أشكال التأمين ضد فقدان العمل وضد العجز ، وضمانات الشيخوخة والتقاعد ورعاية ذوي الاحتياجات الخاصة ..)وإذا كانت الدولة هي الراعي الأساسي لنظام الحماية الاجتماعية من خلال مساهماتها المادية المهمة ،فإن القطاع الخاص والجماعات المحلية لها مساهمات متميزة لدعم هذا النظام وإنجاحه جهويا ومحليا،كما أن أرباب العمل،و جميع الفئات النشيطة تساهم عبر أقساط تقتطع من مدخولها ومختلف ضرائبها لضمان استمرارية هذا النظام الذي يعكس أرقى أشكال التضامن الاجتماعي. إن التضامن لا يتطور إلا مع الوعي بالمصالح المشتركة بين أبناء الوطن الواحد ( أغنياء وفقراء ) ومن شأن التكامل والانسجام أن يعطيا قوة لاحمة للمجتمع ،خاصة إذا تم ترجمة كل ذلك إلى اختيار سياسي واضح المعالم، وإلى مؤسسات قائمة الذات، تجسد تلك القناعة السياسية. وفي المغرب نجد أن عهد الملك محمد السادس، تميز منذ تولي جلالته العرش بالتركيز على الملف الاجتماعي ،والعناية بمن هم في حاجة ،سواء عبر حث الحكومات المتتالية على سن سياسات اجتماعية فعالة ،أو من خلال المؤسسات الساهرة على تفعيل التوجه التضامني ، كمؤسسة محمد الخامس للتضامن التي تنظم سنويا أسبوعا تضامنيا مفتوحا، وتسهر على إنجاز عدة مشاريع تضامنية ،والمبادرة الوطنية للتنمية البشرية ومشروع راميد في المجال الصحي. لكل هذه الاعتبارات اختار حزب الأصالة والمعاصرة ،النموذج الديمقراطي الاجتماعي، فهو نموذج وسطي معتدل ،يبتعد عن الاختيارات المتطرفة التي سارت عليها النماذج الأخرى ، كما أنه أفضل إجابة على الإشكالات التي تعاني منها بلادنا. * عضو المكتب السياسي لحزب الأصالة والمعاصرة، برلماني عن إقليم مديونة