تندرج هذا الدراسة في سلسلة الأبحاث المدرجة في علم اجتماع الدين والرامية إلى اختبار فرضية الاسلام المغربي التعددي المنفلت من كل ايديولوجيا تسعى إلى تنميطه داخل رؤية دينية - ثقافية محددة ومخالص هذه الفرضية، ذلك أن ملاحظة الإسلام في المغرب تظهر تعددا سوسيولوجيا يتعلق بأشكاله الموجودة في المجتمع، فهناك أنماط تدين و تعبد متنوعة غير قابلة لأن تحصر في قالب مذهبي محدد، ولكن وسط هذا الواقع المتحول، وجدت حركية أدت إلى إضعاف أنماط التدين التقليدية وبروز أخرى التي أنتج تصورات دينية ورموز غير مرتبطة بالبيئة المحلية ضرورة، ولكنها تتجه شيئا فشيئا إلى التناغم مع الحركية التي توقدها حركات حركات اجتماعية ترمي إلى احياء الدين الاسلامي المحض المستقل من الثقافة المحيطة به باعتبار أن الاسلام عقيدة وممارسة هو التعبير الحقيق عن "إسلام السلف". وفي ظل الضغوط المتزايدة عليها بعد احداث 11 سبتمبر ما تلاها وقع تغيير في استراتيجة التأويل الجديد من اجل ضمان اسمترار انتشاره والتكيف مع الواقع الجديد ، ذ خلال تفسيرلت براغماتية. ولاكشتشاف الرؤية الجديدة تم استعمال تقنية استجواب المجموعات البؤرية، حيث استعملت هذه الأداة مع طلبة المعاهد الدينية التابعة لاثنين من التنظيمات السلفية ، مع تقسيمهم إلى مجموعتين مستقلتين تنتمي كل واحدة منها إلى تنظيم محدد، ومن بين الثمانين طالبا الذين يتكون كل معهد ثم اختيار عينة لا تقل عن عشرة طلبة، تضمنت أجندة البحث أسئلة كانت تبدو منطقية بالنظر إلى الجدل الذي ملأ –ولا يزال- الساحة المغربية حول مكوناة " الهوية الدينية المغربية"وهي كالتالي: - هل تتفق مع تبني المالكية كمذهب للدولة؟ - ما رأيك في الرأي القائل أن الأشعرية هي العقيدة الرسمية للمغاربة؟ - هل توافق على أن الصوفية كمرجع في السلوك والتربية والأخلاق مكون أساسي في النظرة إلى الإسلام؟ والحقيقة، فقد كانت الأسئلة عند المحاورين أشبه بمحفزات تحريضية، وجد فيها المحاورون مناسبة للإدلاء بانطباعات غنية عن اتجاههم العقدي والفكري، لم تكن أجوبتهم تتوقف عند حدود الرد بالإيجاب أو بالسلب، بل يمكنني تشبهها « بتأصيلات » في هذه القضايا. كانت بالنسبة إلي مؤشرات حسمت في تحديد الاتجاهات المذهبية لهؤلاء مع تسجيل اسنجامها والتفاوت الكبيرفي التصريح بها والمحاججة بها. وبطبيعة الحال فقد حاولنا قدر الإمكان، وفي حدود ما تؤهلنا إليه مقدراتنا الشخصية، إظهار قدر من مشاركة المستجوبين في رؤيتهم للعالم، وذلك من أجل جعلهم يشرحون لي إدراكهم للأحداث كما لو كانوا يشرحونها لواحد من اتباع الحركة، إذ لا يفصح الناس عادة عن رؤيتهم للعالم إلا عندما يسلمون جدلا بان هناك تقويما مشتركا للقضايا. وفي المحصلة، فإن السلفية المغربية في سياق الاعلان عن السياسة الدينية الرسمية في 2004 (عقد لها بعد ذلك عبر الدروس الاحسنية الافتتاحية) أصبحت تفسر هذه الثوابت السياسة الدينية في المغرب ( الأشعرية، المالكية، الصوفية)، في اتجاه الإقرار بها، لكن بدون أن تتنازل عن خصوصية انتمائها المذهبي والعقدي، مستغلة بذلك الدرجة العالية من العمومية التي يكتسيها الحديث عن التوجهات الدينية الرسمية، ففي مواجهة "ثابث الاشعرية"، فإن هؤلاء يحيلون على "العقيدة الأشعري السلفية" التي أظهرها في مؤلفه "الإنابة" الذي كتبه في أواخر حياته، بعدما أتهم بمخالفة السلفة واعماله التأويل في الذات الالهية وافعالها وصفاتها في مراحل سابقة من حياته، وبالتالي فالإحالة على عقيدة الأشعري في التفسير الرسمي العام، حسب السلفيين لا تنهض معيارا للتمييز بين العلماء والدعاة من حيث إخلاصهم لثوابت الأمة. الاستنتاج ذاته يصدق على ثابت المذهب المالكي، الذي تتنازعه العديد من الاتجاهات ليصبح معبرا عن توجهاتها العقدية والمذهبية. فمن ناحية، لا يبدي السلفيون أي حساسية من قبول المقولات الفقهية لمالك لأنها تعتبر في رأيهم اجتهادات، و الأصل في الاجتهاد احتمال الخطأ والصواب. بل يحيلون إلى الجوانب العقدية وليس الفقهية عند الإمامالتي هي سلفية حسب المسجوبين، دون اعتبار للمدرسة المالكية حيث "اخد بالتقليد وانعدم الاخد بالدليل" ، ويطلق المستجبون من هذه المعطيات لاتهام السياسية الدينية بعدم الوفاء لهذه المذهبية. وللإشارة فإن هذا الانتقاد يشترك فيه كل السلفيين والإسلاميين. كما أن هناك الكثير من السلفيين المنصنفين في خانة العلماء الذين لا تبلغ هذه الملاحظات عندهم مبلغ الانتقاد والاحتجاج العلني، بل يعملون على خدمة عقيدتهم من خلال ربط الاجتهادات المالكية بأصول الاعتقاد السلفي وهو الرجوع إلى الكتاب والسنة حسب فهم السلف. وقد تمكنوا بفعل هذه الاستراتيجية من الحفاظ على مواقعهم داخل المجالس العلمية والمجلس العلمي الأعلى، فرغم المحددات الصارمة التي أصبحت تحكم الولوج إلى عضويتها. تحدد بروفيلات المنتمين إلى هذه البنيات، فقد تمكن الدعاة السلفيون من على إخفاء هويتهم الدينية مظهرين عدم انتمائهم لأي من التيارات الدينية العاملة في الساحة الدعوية، مستعنين في ذلك بمكانتهم بشعبيتهم تارة ومكانتهم العلمية تارة واشعاعهم الخارجي تارة أخرى و تعدد المناصب التي من التي جعلت منهم "سلفيين على مقاس اسلام الدولة "، لكنهم مع ذلك عبرو ( ولا يزالون) عن سلفيتهم الحقيقية من خلال من يقومون به تظهر سوى من خلال مداخلاتهم في بعض خطبه ليوم الجمعة وبعض الكتابات والمقالات المعدودة على رؤوس الأصابع. ومن الأنشطة البارزة التي تظهر الثقل العلمي لبعض هؤلاء الشيوخ وتمسكهم المتفاني بعقائدهم الخاصة الدعوة التي توجه لهم من العالم الاسلامي للمشاركة ( ولو بصفة غير مباشرة) في عدة مبادرات هدفت إلى الخدمة العلمية للمشروع السلفي وفي هذا الإطار ، شارك في إعداد إطار عمل لمشروع صياغة المذهب المالكي برعاية وتمويل من دار البحوث الإسلامية وإحياء التراث الإماراتية، وقد هدف المشروع إلى توثيق المذهب المالكي مخدوما بالدليل من الكتاب والسنة وتأصيا القواعد المقاصدية، ونشره وذلك في مجلد كببر( معلمة الشيخ زايد) يشكل مرجعا دينيا مهما يخدم الدين الإسلامي الحنيف، ويوفر مادة علمية ودينية موثقة للباحثين الدارسين من عرب وأجانب ومهمتين بشؤون الفقه الإسلامي (موسوعة الفقه الاسلامي التي أشرف عليها احمد الريسوني). وتتجلى سلفية المشروع فيما تعتبره النخب السلفية أنه خروج للاجتهادات الصادرة من شارحي المذهب والمجتهدين داخله عن نصوص الكتاب والسنة ( المرشد المعين، الشيخ خليل..)، لذلك فإن من صميم الوفاء للنصوص ومفهوم السلف لها إعادة ربط تلك الاجتهادات بنصوص الكتاب وصحيح السنن وغض الطرف عما كان مخالفا لذلك. يتوضح من كل ذلك، درجة التفاوت الموجودة بين الخطاب الرسمي الذي شدد على ضرورة "الالتزام بثوابث البلاد الدينية"، والممارسة السياسية التي يحكها التوافق مع ما يوجد على الساحة المغربية من اتجاهات دينية متنوعة ةمنها التيارات السلفية. فرغم وضوح الأسس التي بنيت عليها "السياسة الدينية الجديدة" فإنها تحتوي، كما هو شان كل سياسة، على جوانب غير مصرح بها ، وأحيانا مصرح بها بلغة دبلوماسية قد تخفي أكثر مما تظهر، فمما أظهره تطبيق "الإستراتيجية تدبير الحقل الديني" أننا لا نعرف بوضوح من المكلف بتطبيق الإصلاح في المجال الديني، فكما هو معروف يتم تقديم وزارة الأوقاف باعتبارها الجهة التي تتولى صياغة السياسة الدينية وتطبيقها، في حين الوزارة المذكورة ليست في الحقيقة سوى مؤسسة من بين مؤسسات أخرى تشرف على ترجمة السياسة الدينية أو جزء منها، ومن خلال الإجراءات التي واكبت حدت 16 مايو، اتضح جليا أن السياسة الجديدة لتدبير الشأن الديني تركت هامشا كبيرا لتدخل وزارة الداخلية والأجهزة المخابراتية بمختلف أدرعها لضبط الحقل الديني وإحصاء أنفاسه، لتحقيق أهداف غير معبر عنها في الخطاب الرسمي، ولذلك نفهم لماذا ضل تدبير ملف الحركات السلفية المنتظمة في شكل جمعيات حكرا على هذه الأجهزة دون تدخل من وزارة الأوقاف التي ترجع إليها تدبير ملف الجمعيات السلفية خصوصا وأنها التي تنشط في مجال التعليم الديني التابع بطبيعته إلى وزارة الأوقاف.. * المركز المغربي في العلوم الاجتماعية