تولدت الرغبة في كتابة هذا المقال بعد انتهائنا من قراءة تقرير المعرفة للعالم العربي في نسخته الثانية الذي صدر مؤخرا، وقد استوقفني في الفصل الاخير من التقرير، ما ورد من تجارب تنموية رائدة في العالم، لتحقيق مجتمع المعرفة، ومن بين هذه التجارب، هناك تجربة ماليزيا، وهي على كل حال تجربة معروفة للباحثين والمهتمين والخبراء المشتغلين في مجال التنمية البشرية، وهذه التجربة تقوم على رؤية الزعيم الماليزي "محمد مهاتير" والذي اعلن عن خطة استراتيجية، من ما سماه، "برؤية 2020" وقد كان يقول، إنني أريد ان أغير ماليزيا من بلد يقوم اقتصاده على الفلاحة وصناعة المطاط وزيت النخيل، إلى مجتمع المعرفة والتكونولوجيا والمعلوميات" وهكذا حقق هذا الزعيم لبلده في ظرف 20 سنة ما تحقق في بريطانيا في 150 سنة. وقد ذهب في انفاذ خطته المحكمة بكل تؤدة وصبر، ولعل الاطلاع على مجمل الخطة يبين أنها كانت خطة كذلك، وانها متكاملة الأطراف ، لانها لم تهتم بقطاع التعليم في معزل عن باقي القطاعات، بل عملت على الدمج الخلاق بين كل القطاعات لتنصهر في رؤية موحدة ومنسجمة. وهكذا استطاعت ماليزيا في غضون خمس سنوات من العمل المضني، والخطط القويمة والرؤى الاجتهادية من أن تكسب رهان مجتمع المعرفة. في هذا السياق، طرحت سؤالا بسيطا: هل يستطيع الأستاذ عبد الاله بن كيران، كرئيس لحوكمة منتخبة ومسنودة شعبيبا، من تحقيق مثل هذا الحلم، مجتمع المعرفة ، والنهوض بقاع التربية والتكوين ليكون رافدا لما حوله من القطاعات في التقدم نحو مجتمع ينتج المعرفة ويبتكر المنتجات ذات الكفاءة العالية ولديه الكوادر البشرية التي تستجلب رؤوس الأموال والاستثمارات الضخمة؟ في الاجابة أن هذه السؤال، هناك ثلاث اتجاهات على الأقل، الأول تشاؤمي، يقطع مع كل مباردة للاصلاح ويعتبر أنه ليس في الإمكان أكثر مما كان، وأن المغرب منذ الاستقلال وهو يطرح مبادرة للاصلاح، ويعيد الكرة ثانية لإصلاح الإصلاح، وبالتالي فالتقدم في هذا المجال يعد من شبه المستحيلات. الاتجاه الثاني، واقعي، يتحدث بلغة الأرقام والمعطيات والمنطق، ويعتبر أن الحكومة الحالية في ضوء المعطيات المتوفرة، خصوصا ما ارتبط بالأزمة المالية وعدم قدرة الحكومة على الاستثمار في القطاعات الاجتماعية ومنها التعليم،فإنها في أحسن الحالات، ستعمل على المحافظة على الوضع الحالي وضمان استمرارية الخدمة العمومية في مجال التربية والتعليم في حدودها المعقولة. أما الاتجاه الثالث، والذي نميل إليه، هو قدرة هذه الحكومة على إحداث طفرة نوعية في هذا القطاع، مركزين كل الجهود لخدمة مشروع مجتمع المعرفة بأبعاده الشمولية: التركيز على المهارات التعلمية، والقيم والبيئات التمكنية، بمعنى آخر، نهج سياسة مندمجة التقائية تآزرية بين كل القطاعات، على مدى 20 سنة المقبلة، لوضع خطة استراتيجية للنهوض بالقطاع، وأنا اتبنى هذا الخيار، لما أعلمه من مميزات في شخص الأستاذ عبد الاله بن كيران، عندما صرح ذات مرة وبعد انتخابه أمينا عاما لحزب العدالة والتنمية سنة 2008، عندما قال: كيف يمكنني في هذه الأربع سنوات التي هيأ الله أسباب تولي قيادة الحزب أن أصنع شيئا ذا بال ويمكن أن يطور حزبنا؟" وهي رغبة مهووسة بإرادة التحدي. وقد يعترض علينا من طرف قراء هذا المقال، بالقول ، إن الأمر لا يرتبط بشخص مهما أوتي من قدرات، فالأمر مركب ويحتاج إلى عدة أمور؟ بدون شك هذا قول صائب وانا أعتبره منطقيا ومنسجما مع طبيعة البنية المركبة للوضع التعليمي، لكن هناك دائما في التجارب البشرية والتاريخية، ما يسمى بجدل الفرد والجماعة، ففي بعض اللحظات يمكن أن يقود شخص التغيير، مثل ما حدث في الهند مع "الماتماها غاندي" وفي بعض اللحظات نحتاج إلى جهود الجميع. ولهذا فأنا عندما أتحدث عن الحلم المغربي وأربطه بشخص عبد الاله بن كيران، فمعنى ذلك أنني لا أغيب المؤسسات والهياكل مختلف الشروط، ولكن أتحدث عن من يضفي عليها روحا لتنبعث به ومعه لتحقيق هذا الحلم. لا شك أن تحقيق هذا الحلم،يتطلب من الإمكانات والشروط والحيثيات والبنيات المؤسساتية الشيء الكثير، وقبل ذلك وبعده التوفر على رؤية ومشروع مجتمعي، لكن المؤكد هو أن حكومة السيد عبد الاله بن كيران، تتمتع به من مشروعية مجتمعية، وبما يمنحه الدستور الجديد من إمكانيات لتنزيل روحه وكنهه ، والتي تقوم على مبدأي المسؤولية والمحاسبة، يمكنها أن تركب التحدي، وأن تطرح مشروعا ورؤية استراتيجية للنهوض بالقطاع التعليمي ومن ثم بمجتمع المعرفة. لكن تحقيق ذلك يقتضي شروطا، ياتي على رأسها توفير المناخ السياسي لفتح نقاش جدي ومسؤول عن هذه المعضلة، ولما لا مناظرة وطنية كبرى يستدعى لها كل طاقات هذا البلد وخبراؤه ومفكروه ومختلف الفاعلين فيه، ومن جهة ثانية وجب وضع الإطار القانوني والمؤسساتي لهذه المبادرة والتي يمكن أن تصبح ملزمة بقوة القانون، وعليه يجب تجنب ما وقع فيه المغرب إبان بلورة "ميثاق التربية والتكوين" من عدم التنصيص دستوريا على إلزاميته، ومن ثم التعامل معه بانتقائية وبمناورة سياسيوية ضيقية في بعض الاحيان. ثانيا يجب الحسم في المنظومة القيمية التي يمكن أن تشكل اللحمة التي يجتمع حولها كل المغاربة، وبالتالي وجب تجنب كل ازدواجية في تنزيل المقررات والمناهج الدراسية، فلعل التجربة السابقة،بينت مدى التخبط الذي اعتور هذه الإشكالية ، والتي أصبحت مجال صراع بين بعض الأطراف المجتمعية حول ما ذا ندرس وما هي القيم التي ينبغي أن تنقلها المؤسسة التربوية للنشء؟ ولأية أهداف ؟ ولأي مواطن نريد؟ اعتقد أن حسم هذه الإشكالية، في اتجاه تحديد طبيعة منظومة القيم التي من المفترض أن تشكل الرافد القوي لتنزيل أي إصلاح كيفما كان، ولعلنا لا نحتاج إلى التأكيد أن معركة القيم تقع في بؤرة الإشكاليات التي تقلق العالم وليس المغرب، لهذا نحتاج إلى رؤية منسجمة في هذا الموضوع، وإلى آليات لتنزيلها على أرض الواقع. وقد بينت بعض التجارب العالمية أن الإشكال القيمي يمكن أن يشكل مدخلا للاصلاح، أو عاملا من عوامل الهدم. وبجانب هذه الاجراءات ، تنتصب إشكالية التحدي اللغوي، فالحكومة الحالية وعلى رأسها الأستاذ بن كيران مطالبة بموقف تاريخي يقطع مع سياسة اللاحسم ، فهل نريد أن ندخل مجتمع المعرفة بالارتباط بلغة تتراجع يوما بعد يوم، وقد بينت التجارب الرائدة، سواء التي تحدثنا عنها أو الأخرى، أن الاختيار اللغوي، يقع في صلب المشروع المجتمعي والرؤية الاستراتيجية، ولهذا فقد شكلت اللغة الانجليزية لغة العلم في هذه التجارب، إلى جانب تقوية لغة الأم. وقد لا نحتاج إلى التأكيد أن تجسيد مبادئ العدالة الاجتماعية في كل المجالات، أمر حيوي، خصوصا بعد السياسات السابقة التي عملت على إنتاج وإعادة إنتاج النخب المتسلطة والماسكة بالموارد الأربعة: الثروة والسلطة والمعرفة والقيم، وبالتالي تراجع المدرسة المغربية عن وظيفتها في إحداث الترقي الاجتماعي، وتغيير الأوضاع. وفي هذا السياق، فإن تجسيد ثقافة الاستحقاق يعد في نظرنا خطوة هامة في تحصين مكتسبات المنظومة التربوية. لكن وجب الانتباه إلى مسألة في غاية الأهمية، وهي قدرة الجسم الحكومي على احتضان المتفوقين والنبغاء والمتميزين، وتقديم خدمات تعليمية وتكوينية تمييزية، لان التجارب العالمية الناجحة ركزت على هذه الفئات، فمثلا في الهند طرحت مشروعا استراتيجيا للنهوض بمنظومتها التربوية، يقوم على "رعاية التفوق والمتفوقين المحترفين في صناعة تقانة الاتصالات وتصنيع البرامج لتنمية الكوادر القادرة على التفوق والتنافس" وفي بعض الحالات يمكن أن يتم البحث عن هذه الكفاءات خارج النظام الجامعي مثلا،" فبعض أعظم المخترعين في وادي السيليكون(وادي السيليكون في كاليفورنيا بالولايات المتحدةالأمريكية، حيث ابتدعت أعظم الاختراعات في الحواسيب والبرمجيات) لم يذهب أبدا للجامعة. وإن معظم ما تم إنجازه في القرن العشرين في علوم الحاسوب وفيزياء الحالة الصلبة والإلكترونيات قد أنجز من قبل علميين لامعين، بعضهم أنهوا دراستهم،والبعض الأخر لم ينهها ، مثل "بيل غايت"bill Gates »". لا يمكن الادعاء أننا نحدد خارطة طريق للحكومة، وللسيد عبد الاله بن كيران ولوزير التربية الوطنية، لكننا نريد التفاعل مع النقاش العام في البلد، خصوصا، بعدما أسفرت عنه النتائج الكارثية لتقييم المخطط الاستعجالي، حيث تبين بالمعطيات والأرقام حجم الأزمة التعليمية بلادنا، فالأهداف المسطرة في المخطط لم تتحقق في مجملها، وما تحقق يكاد يكون محتشما. وللاشارة فكل التقييمات السنوية التي كانت تنجزها الوزارة الوصية، لحكومة عباس الفاسي، كانت تؤكد نفس النتائج، بمعنى أن الأمر لم يكن مستغربا، ولعل المتتبع للحقل التربوي والتعليمي، يلحظ هزالة هذه النتائج. فرغم الخطابات الدعائية التي كانت تصاحب تنزيل المخطط الاستعجالي فإن المعطيات الواقعية كلها كانت تؤشر على فشل المغرب في ربح هذا التحدي. ولهذا فنحن نحتاج إلى جرأة سياسية وقيادة جماعية وانخراط مجتمعي، مسنود بما يختزنه الشعب المغربي من قيم دينية أصلية، يمكنها إن تحقق عنصر الثقة في هذا المشروع، أن تستثمر في اتجاه كسب رهانات مجتمع المعرفة.